صدرت عام ٢٠٢٠ رواية “المطلّقة” للأديب المقدسيّ جميل السلحوت عن مكتبة كل شيء في حيفا.
مدخل: الكتابة كفعل خلاص
حين يكتب جميل السلحوت روايته «المطلّقة»، لا يكتبها ليتسلّى أو ليحكي حكاية عابرة، بل ليؤسس بيانًا إنسانيًا في الحرية والكرامة.
فالرواية ليست قصّة طلاق، بل رحلة وعي من العتمة إلى الضوء، من قيد الخوف إلى فضاء المعرفة، من المرأة الصّامتة إلى المرأة التي تقول:” أنا أختار مصيري.”
يكتب السلحوت نصّه كمن يفتح نافذة في جدار خانق، ليُذكّرنا أن الأدب الحق لا يواسي المقهورين، بل يعلّمهم أن ينهضوا.
جمانة – الأنثى التي خلعت الصمت لا الزوج
في مركز الرواية تقف جمانة، امرأة قررت أن تقول «لا» في مجتمع لا يسمح للنساء أن يتكلمن.
حين تُعلن بصوت ثابت:
« لن أعود إلى أسامة مهما كلف الثمن، وإذا لم يوافق على تطليقي سأرفع عليه دعوى خلع.»
فهي لا تطلب الطلاق بقدر ما تطلب الولادة من جديد.
جمانة ليست بطلة تراجيدية، بل كائن استعاد وعيه في وجه منظومة كاملة من الخوف والعار والتواطؤ.
إنها تطلّق الرجل لتتزوّج نفسها، تطلّق الصمت لتتكلّم، تطلّق الخوف لتؤمن أن الله لا يقيم المرأة في الظل.
كل خطوة تخطوها بعد الانفصال ليست انسحابا من الحياة، بل تجريبا للحياة بمعناها الحقيقي.
أسامة – التّديّن المريض كقيدٍ للروح
أسامة ليس شخصية معزولة في الرواية، بل مرآة للمجتمع الذكوريّ المتديّن ظاهريا والمريض داخليا.
حين يحرّم على زوجته فتح النافذة، أو الاستماع للراديو، أو حتى مراجعة الطبيب، فهو في الحقيقة يحرّم على نفسه الحياة.
«فتح نوافذ البيت حرام، التلفاز حرام، مراجعة الطبيب حرام…»
السلحوت لا يسخر منه ولا يعاقبه، بل يكشفه كظاهرة ثقافية:
الرجل الذي يعبد النصّ لا الله، ويقدّس السلطة لا الرحمة.
أسامة يعيش فصاما بين دين ينادي بالعدل وبين عقل لا يعرف سوى الخوف. هو رجلٌ ضاع في التفاصيل ونسِي الجوهر،
فحوّل بيته إلى سجنٍ صغير باسم الطهارة.
الأب – الحكمة التي لا تصرخ
وسط هذا الانغلاق، يظهر الأب كصوت نادر للعقل، يقول لابنه بهدوء المؤمن لا المتسلط:
«شرع الله لا يظلم أحدا، ومعرفتي بجمانة أنّها على خلق وتخاف الله.» بهذه الجملة، ينقذ السلحوت الدّين من التلوث، ويُعيده إلى جوهره الإنساني: الرحمة والعدل، لا السيطرة. الأب هنا ليس شخصيةً عابرة، بل ضمير النصّ، الشاهد الأخير على أن الإيمان ليس أداة إخضاع، بل طريق تحرّر.
الطلاق كفلسفة – من الفقد إلى النهوض
من أعمق لحظات الرواية أن تتحوّل كلمة «الطلاق» من لعنة اجتماعية إلى حكمة وجودية.« قد يصبح الطلاق محطة نجاة في حياة المرأة، تنطلق منها من جديد.»
هنا يعلّمنا السلحوت أن الفشل ليس النهاية، بل العتبة التي يبدأ عندها الوعي. فالطلاق في وعي جمانة ليس تخلّيا عن رجل، بل عن حياة زائفة بلا روح، هو تطهيرٌ من الخوف، عبور من الموت الصامت إلى الحياة الناطقة.
المعرفة كطريق الخلاص
حين تختار جمانة بعد الانفصال أن تدرس الشريعة الإسلامية،
فهي لا تسعى إلى إثبات ذاتها أمام المجتمع، بل إلى فهم الله بنفسها، بلا وسطاء ولا وصاية.
«قرّرت أن تتبحّر في دراسة الشريعة؛ لتقف على حقوق المرأة كما منحها الله.»
بهذا القرار، ترتقي الرواية إلى مستوى التحرّر الروحي والفكري.
جمانة تتجاوز صورتها كامرأة مظلومة؛ لتصبح باحثة في جوهر الإيمان، فالإله الذي كان يُخيفها صار الآن الإله الذي يُنير عقلها.
المكان – القدس كأنثى أُغلقت نوافذها
تدور أحداث الرواية في القدس، لكن المدينة هنا ليست خلفية، بل شخصية حيّة تنزف مع أبطالها. القدس في الرواية تشبه جمانة:
كلاهما محاصر، وكلاهما يحلم بالنور.
البيت الذي يمنع أسامة فتح نوافذه يشبه الوطن الذي أُغلق عليه الهواء باسم الخوف.
هكذا يجعل السلحوت من المكان رمزا للروح الأنثوية في علاقتها بالعالم والحرية.
✨ اللغة – صدق الجرح وجمال البساطة
لغة جميل السلحوت نظيفة، شفافة، مشبعة بالصدق. لا يتزيّن بالكلمات، بل يُشعلها من الداخل. حواره واقعي لكنه يقطر فلسفة،
وبساطته ليست فقرًا بل بلاغة الوعي.
إنه من الكتّاب القلائل الذين يثبتون أن الصدق الفنيّ هو أجمل أشكال الجمال. كلماته تُشبه الناس الذين يكتب عنهم:
عاديون… لكنّ في عاديّتهم دهشة الخلق الأول.
القراءة الفلسفية – الإيمان والحرية
في عمق الرواية ينبض السؤال الجوهري: هل الحرية ضد الإيمان، أم هي جوهره؟ جميل السلحوت يجيب من خلال مصير جمانة:
إن الله لا يريد امرأةً تخضع، بل امرأةً تعرف، فالإيمان بلا وعي عبودية، والحرية بلا ضمير فوضى، أمّا المزيج بينهما فهو ما تصنعه «المطلّقة»: إيمانٌ حرّ، وحريةٌ مؤمنة.
ما وراء النص – الوطن كأنثى
من خلال قصة بيتٍ صغير، يكتب السلحوت عن وطنٍ بأكمله.
فالمرأة التي تُقهر في بيتها هي صورة مصغّرة لفلسطين التي تُقهر على أرضها.
وكما قاومت جمانة قيود أسامة، تقاوم القدس قيود الاحتلال، إنها جدلية الحرية في كل مستوياتها: من الجسد إلى الأرض، من البيت إلى التاريخ.
جميل السلحوت – الكاتب الذي لا يساوم على الضوء
لا يمكن قراءة «المطلّقة» دون أن نقرأ جميل السلحوت الإنسان قبل الكاتب. هو لا يكتب ليُرضي القارئ، بل ليوقظه. لا يهاجم الرجل، بل يحرّره من داخله. لا يدافع عن المرأة كقضية، بل يحتفي بها كوعي وككائنٍ كامل. في أدبه، نجد فلسطين، ونجد القدس، ونجد الإنسان، لكن قبل كل شيء، نجد الكرامة —
الكرامة التي هي الحقّ الأول للإنسان على الأرض.
الخاتمة – من الطلاق إلى القيامة
في نهاية الرواية، لا نجد مأساة، بل قيامة. جمانة لا تخرج من بيتٍ، بل تخرج من عصرٍ كامل. تطلّق الخوف، تخلع الجلد القديم،
وتولد من جديد في وجه مجتمع سيقول عنها «مطلّقة»، بينما هي تعرف أنها حرة. تقول الرواية، في جوهرها:
” ليس العيب أن تنفصل المرأة عن رجل ظالم، بل أن تبقى متصالحة مع ظلمها.”هكذا يجعل جميل السلحوت من «المطلّقة» نصًّا مزلزلًا في وعيه الإنساني، ويجعل من المرأة رمزا للإنسان في معركته الأبدية ضد الخوف.
١٥-١٠-٢٠٢٥