في رواية «هوان النعيم» للكاتب الفلسطيني جميل السلحوت، لا يُقدَّم التاريخ كمجرد سرد للأحداث، بل كجرحٍ مفتوح في الذاكرة الجماعية. الرواية، الصادرة عن دار الجندي بالقدس عام 2012، تُعيدنا إلى نكسة 1967 وما سبقها من أملٍ وثقةٍ وثورةٍ غضة، لكنها تُعيدنا بطريقةٍ تَسبر أعماق الإنسان أكثر مما توثّق وقائع الجغرافيا والسياسة.
إنها رواية عن الإنسان الفلسطيني في محنته الوجودية، قبل أن تكون رواية عن النكسة العسكرية أو الخسارة السياسية. فالهوان هنا ليس فقط هوان الوطن، بل هو هوان الكرامة الإنسانية حين تُسحق بين مطرقة الاستعمار وسندان الخوف.
بين الواقع والرمز: حين يصبح العجز بطولة
شخصية خليل الأكتع، الطالب الذي فقد يده، تمثل في بنيتها السردية استعارة لواقع أمةٍ فقدت ذراعها في لحظة مفصلية. هذا الجسد الناقص يتحوّل لدى السلحوت إلى رمزٍ للبطولة المستترة في الهزيمة؛ فخليل، رغم إعاقته، يصرّ على الالتحاق بالتدريبات العسكرية، ويزحف بجسده على الأرض ليحيا ما يعيشه الآخرون من حلم المقاومة، إنها معادلة وجودية:
“العجز الجسدي أمام الإصرار الروحي”،
وفيها تتجلى فلسفة السلحوت في الإنسان الذي لا يُقاس بقوته، بل بقدرته على الاستمرار رغم انكساره.
هنا يضعنا الكاتب أمام سؤالٍ صعب:
هل يمكن أن يكون العجز نوعًا من البطولة؟
وهل يُمكن للضعف أن يتحوّل إلى شكلٍ من أشكال الصمود؟
في عالم هوان النعيم، الجواب هو نعم — لأن الإنسان الفلسطيني لا يُمنح خيار القوة، فيصنع من ضعفه هويةً تقاوم النسيان.
المرأة في الرواية: ذاكرة الدم والحنين
النساء في الرواية لسن مجرّد شهود على المأساة، بل هنّ الذاكرة الحيّة للوطن المفقود.
من “أمّ مازن” اللاجئة من المسميّة، التي تحكي عن بيتها وحديقتها وبياراتها كما لو كانت تتحدث عن جنّتها المسروقة، إلى” الحاجّة فاطمة” التي تصلي أن لا تُفجع أمّ في ابنها، يضع السلحوت النساء في صميم التاريخ لا في هامشه.
إنه أدب أموميّ، يعيد للحكاية الفلسطينية ملامحها الأنثوية؛ فالوطن هنا أنثى مغتصبة، والأرض أمّ تبكي أبناءها الذين لم يعودوا. وبين أنين النساء وصلواتهن، يتجسّد وجع اللاجئات اللواتي تحوّلت أحلامهن إلى طوابير أمام وكالة الغوث، وذاكرتهن إلى سرديات فداء وانتظار.
المرأة عند السلحوت ليست صوتًا ثانويًا؛ بل هي الضمير الذي يذكّر الرجال بما نسوه حين انشغلوا بالبنادق والخطب.
من الحلم إلى الانكسار: قراءة في وعي الجماعة
تتقدّم الرواية على إيقاعٍ جمعيّ. الشخصيات تتكلّم بلسان الجماعة أكثر من الفرد، كما لو أن الفلسطينيين جميعًا يتحادثون داخل نصٍّ واحد.
الصالونات، المقاهي، المضافات، كلها تتحوّل إلى مسرحٍ صغيرٍ للعالم العربي الكبير؛ حيث تتقاطع الأصوات بين المؤيد والمشكك، الثائر والمتخاذل، المؤمن بالنصر والموقن بالهزيمة
من خلال هذا التعدّد في الأصوات، ينجح السلحوت في كشف التناقض بين الخطاب الثوري والإحباط الواقعي. فالمذياع الذي يبشّر بانتصارات العرب، هو نفسه الذي يعلن بعد ساعاتٍ عن الهزيمة الساحقة. إنها مأساة الثقة العمياء بالخطاب الرسمي، التي ما زالت تتكرّر في وجدان الشعوب العربية حتى اليوم.
جماليات السرد: الواقعية الشعرية
من الناحية الفنية، يُمارس السلحوت كتابةً تقوم على الواقعية التوثيقية، لكنه يُطعّمها بنَفَسٍ شعريّ خافت يسرقك من الوثيقة إلى الحلم.
الوصف عنده ليس زخرفًا، بل نَفَسُ أرضٍ تتنفس من بين الركام. واللغة، رغم بساطتها، تمتلك قدرةً نادرة على التقاط النبض الجمعيّ للفلسطيني وهو يعيش بين الموت والكرامة.
يُذكّرنا السلحوت هنا بتقنيات الواقعية النقدية عند نجيب محفوظ، ولكن بروحٍ فلسطينيةٍ خالصة، ترفض الفانتازيا وتتشبّث بالتراب والوجع.
الهزيمة كحقيقة وجودية
حين تصل الرواية إلى ذروة الأحداث – إعلان الانسحاب، وسقوط القدس، ورفع الرايات البيضاء – يتحوّل “هوان النعيم” إلى تأملٍ فلسفيّ في معنى الهزيمة.
فليس الهوان فقط هزيمة جغرافية، بل هو هزيمة أخلاقية ووجدانية، هزيمة الإنسان الذي صدّق أن الشعارات تكفي لصنع الانتصار.
لكن، كما في كل أدبٍ فلسطيني أصيل، حتى الهزيمة ليست نهايةً، بل بدايةُ سؤالٍ جديدٍ عن البقاء.
خليل المبتور اليد، والأمّهات الباكيات، والأطفال الذين يبحثون عن الماء في الكهوف — جميعهم يصبحون رموزًا لوعيٍ يتجاوز الألم نحو الفعل، نحو الاستمرار.
خاتمة: أدب الذاكرة في وجه النسيان
في «هوان النعيم»، لا يكتب جميل السلحوت رواية عن الماضي، بل يحاكم المستقبل الذي سمح للهزيمة أن تتكرّر بأشكالٍ مختلفة.
إنه ينتمي إلى تيار أدب المقاومة الهادئ، الذي لا يصرخ بالشعارات، بل يُعرّي الجرح ليكشف إنسانيته
ومن خلال هذه الرواية، يُقدّم لنا السلحوت درسًا فنيًا وأخلاقيًا:
أن كتابة التاريخ لا تكون بالدم فقط، بل بالذاكرة، وأن الذاكرة حين تُدوّن بالصدق تتحوّل إلى فعل مقاوم
“هوان النعيم” ليست فقط رواية عن زمن الهزيمة،
بل عن كرامةٍ تتشبّث بالحياة حتى وهي تُدفَن تحت الركام.
٢-١١-٢٠٢٥










