صدرت عام ٢٠١٧م عن مكتبة كل شيء في حيفا رواية” زمن وضحه” للأديب الفلسطيني جميل السلحوت، وتقع الرواية الّتي منتجها وأخرجها شربل الياس في ٢٢٠ صفحة من الحجم المتوسّط.
أوّلا: مقدّمة عامّة
تأتي رواية زمن وضحة كمرثية صادقة للأنثى العربية في فضاءات الريف المحافظ، وهي شهادة مؤلمة على ما تعانيه النساء من ظلم اجتماعي مكرّس باسم العادات والتقاليد. الرواية تُجسّد وجع المرأة بين مطرقة الأعراف وسندان الفقر، وتكشف عن بنية ذكورية متجذّرة تقمع الأنوثة منذ الطفولة حتى الموت.
الكاتب نجح في تحويل الحكاية البسيطة عن فتاة ريفية إلى ملحمة إنسانية تجسد معاناة جيلٍ بأكمله، لتغدو الرواية شهادة اجتماعية بامتياز، تتجاوز حدود المكان لتعبّر عن أنين الإنسان العربي المقهور عموما، والمرأة بشكل خاص.
ثانيا: البناء السردي واللغة
1. اللغة والأسلوب
لغة الرواية نابضة بالحياة، تمزج بين الفصحى والعامية في توازن محسوب، يضفي الواقعية على الحوار، ويمنح الشخصيات عمقها الطبيعي.
تتجلّى في السرد بلاغة مؤلمة لا تعتمد الزخرف اللفظي، بل حرارة الموقف وصدق المشهد. اللهجة المحكية هنا ليست ضعفا بل قوّة فنية، إذ تجعل النص أكثر صدقا، وأكثر التصاقا بالتربة التي وُلد منها.
2. الأسلوب السردي:
السرد واقعي تقريري، لكنه متين متماسك، يعتمد التسلسل الزمني المتتابع دون قفزات زمنية مربكة، مع لمسات تأملية وإنسانية تضفي على الأحداث بعدا فلسفيّا.
الكاتب يضع القارئ داخل الحكاية من أوّل صفحة، بأسلوب تصويري يجعل المشاهد تُرى وتُسمع وتُشمّ.
ثالثا: الشخصيات:
– وضحة
بطلة الرواية، تمثل الأنوثة الريفية النقية التي تُساق إلى مصيرها دون أن تختاره. وضحة ليست مجرد فتاة بل رمز للأنثى المقهورة منذ المهد حتى القبر.فيها البراءة والوعي المبكر، التمرد الصامت والحس الإنساني العميق. قوتها تكمن في صمتها، وضعفها في كونها ولدت أنثى في مجتمع لا يغفر الأنوثة.
– إسماعيل أبو بسطار:
رمز السلطة الذكورية المتسلطة، التي ترى المرأة جسدًا لا روحًا. يتحدث باسم الحب، لكنه يجسد الاستباحة الذكورية التي تبرر القهر باسم الرغبة والحلال.
– الأمّ:
تمثل الجيل المستسلم للعادات. تتحدث بلسان القهر الموروث، فتبدو ضحية مثل ابنتها، لكنها أيضا شريكة في إعادة إنتاج الظلم. الأمّ هنا مأساة مركبة: ضحية وجلاّد في آنٍ معًا.
– رمّانة:
امرأة ريفية بسيطة تموت أثناء الولادة بسبب الجهل والعادات، ليغدو موتهـا صرخة ضدّ مجتمعٍ لا يعرف الرحمة. مشهد موتها من أكثر المشاهد قسوة وإيلامًا في الأدب العربي الحديث، إذ يجسد التواطؤ الجمعي على إعدام المرأة باسم القدر.
– بهية:
زوجة الأب العاقر التي تحاول احتضان أبناء ضرّتها، وتُقابل بالقسوة والريبة. شخصية إنسانية راقية، تتناقض مع صورة “زوجة الأب الشريرة”، لتكسر النمط وتكشف أن الشرّ الحقيقي يسكن في النظرة لا في الإنسان.
رابعا: الموضوعات والقضايا:
الرواية مشبعة بقضايا إنسانية واجتماعية، من أبرزها:
زواج القاصرات: تكشف الرواية مأساة تزويج الطفلات تحت ذريعة “السترة”، وتعرض آثاره الجسدية والنفسية المدمّرة.
تعدد الزوجات: لا تهاجم الظاهرة بقدر ما تفضح نتائجها، إذ تُظهر كيف تحوّل النساء إلى سلعة في سوق النسل والذكورة.
الجهل والأمّيّة: تظهر بوضوح في التعامل مع الحمل والولادة والمرض، وفي غياب الوعي بحقوق الإنسان.
العنف الموروث: عنف يُمارس باسم الشرف، يورّثه الآباء للأبناء كما يُورّثون الأرض.
صراع المرأة مع قدرها: النساء في الرواية لا يملكن حقّ القرار، حياتهنّ محكومة بعبارة الأمّ: “الأعراض لا تُحمى بالسيف.”
خامسا: الرموز والدلالات:
البغل والحذاء (البسطار): يرمزان إلى الذكورية الغليظة التي تطغى على كل ما هو أنثوي.
الولادة والموت: متلازمتان في الرواية، فالحياة تبدأ بالألم وتنتهي به، وكأن الولادة في هذا المجتمع عقوبة وليست نعمة.
القرية: ليست مجرد مكان، بل بنية ذهنية مغلقة، تحكمها الأعراف وتخنق الإنسان باسم الجماعة.
سادسا: الجانب الفني
نقاط القوة:
عمق إنساني نادر في تناول مأساة المرأة دون شعارات.
مشاهد درامية مؤثرة، خصوصا مشهد موت رمّانة ومشهد وضحة وهي تفكر في مصيرها.
لغة صادقة تنقل الواقع دون تجميل، لكنها تحمل جمالها الخاص من رحم الألم.
براعة في رسم الشخصيات النسائية بتعدد مستوياتهن النفسية والاجتماعية.
نقاط الضعف:
إطالة بعض المقاطع الوصفية أحيانا بما يبطئ السرد.
غياب واضح لصوت الراوي الداخلي أو التحليل النفسي الذي كان سيمنح الشخصيات عمقًا إضافيًا.
نهاية مفتوحة تُبقي وضحة معلّقة بين التمرّد والاستسلام، وقد تُربك القارئ الباحث عن الخلاص.
لكن هذه الملاحظات لا تنتقص من القيمة الفنية والواقعية للنص، بل تؤكد أنه عمل فني صادق أكثر من كونه مثاليّا.
سابعا: الرسالة الإنسانية والفكرية
الرواية ليست مجرد قصة، بل وثيقة إنسانية تدين مجتمعا بأكمله، وتدعو إلى إعادة النظر في منظومة القيم التي تقتل النساء باسم الفضيلة.
“زمن وضحة” ليس زمنًا مضى، بل زمنٌ مستمرّ في عقولٍ لم تتحرر بعد.
إنها صرخة في وجه الجهل والتسلط، وإيمان بأن الكتابة يمكن أن تكون شكلًا من أشكال المقاومة.
✨ ثامنا: الخلاصة
في زمن وضحة نقرأ وجع الأمّة من خلال جسد امرأة، ونرى التاريخ الذكوري يعيد نفسه في كل بيت.
إنها رواية عن النساء اللواتي يعشن ويمتن بصمت، وعن العالم الذي يسكت حين تذبحه العادات.
عمل يستحق أن يُدرّس في الجامعات كأنموذج للأدب الواقعي النسوي، الذي لا يصرخ من أجل المساواة فحسب، بل من أجل الكرامة الإنسانية ذاتها
باحترام رانية مرجية كاتبة وناقدة فلسطينية
٢٥-١٠-٢٠٢٥










