مدخل: بين التخييل والواقع
في روايته «رولا»، الصادرة عن دار الجندي في القدس عام 2015، يواصل جميل السلحوت مشروعه السردي الإنساني في تتبّع ملامح المجتمع الفلسطيني من الداخل، بعيدا عن الشعارات، وقريبا من نبض الناس البسطاء. يكتب السلحوت بلغة عامية محكية في كثير من المواضع، تكسر صلابة الفصحى وتمنح النصّ صدقًا حياتيًا نادرا، لتبدو الحوارات مأخوذة من جلسة حقيقية في بيت فلسطينيّ في جبل المكبر أو”السواحرة”، أكثر مما تبدو من نسج الخيال.
منذ السطر الأول، يعلن الكاتب أن «الشخصيات والأحداث خيالية»، لكنه في الحقيقة يكتب عن كل بيت فلسطيني يعرف السجن والفقد والانتظار. إنّ خيال السلحوت مشبع بالواقع، وواقعه مشبع بالخيال.
البنية السردية: الواقعية في أصدق تجلياتها
يبني السلحوت روايته على مشهد أسري بسيط يبدأ بقرار أمّ فاطمة تزويج ابنها صالح، لكنه لا يلبث أن يتحول إلى بانوراما كاملة للمجتمع الفلسطيني. البيت الواحد يتوزّع فيه الصراع بين القديم والجديد، بين المرأة التقليدية والرجل المحافظ، بين جيلٍ آمن بأن “الرجل لا يبكي”، وجيلٍ يرى في التعليم والتغيير خلاصا.
في الحوار الذي يدور بين أبي كامل وزوجته، وبين زينب وأمّها، وبين كامل والإمام والمختار، نكتشف أن الرواية ليست عن زواجٍ مؤجّل فحسب، بل عن مجتمعٍ يسائل ذاته: من يختار؟ من يقرر؟ وما معنى الحرية؟
الشخصيات: مرايا لزمنٍ مضطرب
زينب هي بطلة الرواية الحقيقية، تمثل وعي المرأة الفلسطينية الجديد، تتعلم في جامعة بيرزيت، وتواجه بعقلها الصافي مجتمعًا يريدها “سترة” في بيت رجلٍ لم تختَرْه. لكنها تصرّ على أن تكون شريكة لا تابعًا، وتطلب لقاء العريس قبل القبول به، في مشهدٍ يُعتبر ثورة هادئة ضد الموروث الأبوي.
خليل الأخ الأسير، هو ضمير الرواية ورمزها الوطني. حين يُفرج عنه، لا يعود كما خرج؛ يخرج من السجن محملا بوجع الأسئلة، ومثل جميع الأسرى، لا يبحث عن بطولة، بل عن مساحة من الضوء والتراب ورائحة التين.
أبو كامل هو جذر الحكاية، الفلاح الذي يعرف قيمة الأرض ويقدّسها، لكنه يعيش صراعًا داخليًا بين ما ورثه وما يراه في أبنائه. في شخصيته تتجسد التحولات الاجتماعية بين الأجيال الفلسطينية.
فاطمة (أم صالح) تجسيد للمرأة التي تخضع للعرف، وتورّث هذا الخضوع لبناتها، لكنها في عمقها إنسانة حنونة مكلومة، تخاف الوحدة وتبحث عن استقرارٍ في زواج الأبناء.
اللغة والأسلوب
لغة جميل السلحوت تجمع بين السرد الفصيح والوصف الحيّ والحوارات المحكية. اللهجة الفلسطينية هنا ليست مجرد أداة تعبير، بل شخصية بحد ذاتها. هي ما يمنح النص روحا فلسطينية أصيلة، تجعل القارئ يسمع الأصوات كما لو كان بينهم.
أمّا الوصف، فيأتي مدهشًا في قدرته على رسم المشهد الريفي: الأرض، شجر الزيتون، التين، المنسف، المقاثي، وحتى رائحة التراب بعد المطر. الطبيعة في الرواية ليست خلفية، بل كيان روحي متكامل يوازي الشخصيات في العمق والصدق.
الرمز والمعنى
رواية «رولا» ليست رواية أسماء وشخصيات فحسب؛ إنها تأمل في فكرة الوطن. السجن في النص ليس فقط جدرانًا، بل هو استعارة لحالة عامة يعيشها الفلسطيني داخل قيود الاحتلال والعادات معًا. والحرية ليست مجرد خروج من الأسر، بل خروج من التقاليد القاسية التي تحاصر الحلم.
ورولا – رغم أن حضورها الفعلي محدود – تمثل الحلم البعيد، الأنثى الرمزية التي تلوح كأمل مؤجّل، وكأنّ السلحوت يقول إنّ فلسطين نفسها هي «رولا» المؤجلة.
الرؤية الفكرية والإنسانية
من خلال الحوارات التي تجمع بين المختار والإمام وكامل، يقدّم السلحوت نقاشًا عميقًا حول الدين والسياسة والفكر. لا ينحاز الكاتب إلا للإنسان، ولا يتورّع عن نقد رجال الدين حين يبرّرون الاحتلال بقدر إلهيّ، ولا عن انتقاد المتعلمين الذين ينظرون للمجتمع من برجٍ عالٍ.
إنّ الرواية تقول ببساطة: النصر لا يأتي من السماء وحدها، بل من وعي الإنسان وإيمانه بعدالة قضيته.
البعد النسوي في الرواية
تتفوق «رولا» على كثير من الروايات الفلسطينية بجرأتها في تناول قضايا المرأة. زينب لا تخجل من قول “لا”، ولا من المطالبة بأن تختار شريكها. الرواية تُظهر المرأة الفلسطينية كإنسانة تفكر، تحب، تتمرد، وتحلم، دون أن تفقد أنوثتها أو انتماءها.
حتى الأمّ فاطمة، على رغم تقليديتها، تُقدَّم برحمةٍ لا بإدانة؛ فهي ضحية ثقافة أكثر منها رمزًا للجمود.
القضية الفلسطينية: الحاضر الدائم
الأسير، الأرض، الزيتون، الجامعة، الاحتلال… كلّها ليست ديكورا بل نبض الرواية الحقيقي. ينجح السلحوت في جعل الوطن خلفية لا تنفصل عن البيت. فكما تتحدث الأمّ عن العريس، يتحدث الأب عن القمح والمحراث، ويأتي ذكر الأسرى كأنهم أفراد العائلة الممتدة. هكذا تتحول الرواية إلى سيرة جماعية للفلسطينيين جميعا.
خاتمة: الرواية كوثيقة حياة
«رولا» ليست رواية بطولة أو نضال مسلح، بل رواية الوعي الفلسطيني في حياته اليومية. فيها ما يشبه الموروث الشفهي وما يشبه البيان السياسي وما يشبه الحلم الشعري.
جميل السلحوت، في أسلوبه البسيط والعميق، يكتب التاريخ الإنساني الصغير الذي يصنع التاريخ الكبير.
وفي زمنٍ يغيب فيه الصوت الفلسطيني الأصيل عن المنابر العالمية، تأتي «رولا» لتقول إنّ الحكاية لم تنتهِ بعد، وإنّ النساء والرجال الذين يسكنون قرى القدس ما زالوا يحرسون الذاكرة كما يحرسون الزيتون.
٢٩-١٠-٢٠٢٥










