في بلادٍ تتآكل فيها الجغرافيا كما تتآكل الذاكرة، وتُمحى القرى بالحبر الرسمي وتُهجّر الأسماء من الشوارع، ينهض جميل السلحوت كأيقونةٍ فلسطينية، لا يُهادن، ولا يُساوم، ولا يصمت. هو ابن القدس، لا بوصفها عاصمة أبدية فحسب، بل بوصفها حكاية يومية تُسرد على أرصفة القهر، بين جدارٍ يبتلع الشمس وطفلٍ يبحث عن حقيبته في ركام بيته.جميل السلحوت ليس مجرّد كاتب. هو جبهة أدبية، مناضل بالكلمات، ومؤرّخ للتفاصيل التي يخشاها المؤرخ الرسمي. يكتب عن الطفولة لا ليحكيها، بل ليفضح كيف سُرقت. يكتب عن المرأة لا ليجمّل حضورها، بل ليفضح تغييبها. يكتب عن القدس لا ليمدحها، بل ليؤرّخ خرابها، وليذكّر بأنها ما زالت هناك، في الزقاق، في الكنيسة، في المسجد، في الخطوة، وفي الدمع.الميلاد في لحظة نكبة: كأنما التاريخ اختار توقيتهولد جميل حسين إبراهيم السلحوت في 5 حزيران 1949، بعد عام واحد فقط من النكبة، في جبل المكبّر – ذلك الحيّ المقدسي الذي يحمل اسمه كما يحمل أهله وجع التاريخ وأمل العودة. وُلد ليكون شاهدًا على مرحلةٍ لم تعد تشبه شيئًا، وعلى مدنٍ ضاعت، وحكاياتٍ حوصرت، وأرواحٍ نُفيت عن جسدها.درس اللغة العربية وآدابها في جامعة بيروت العربية، ولكن تجربته الحقيقية لم تكن في قاعات المحاضرات، بل في السجون، وفي القرى المهجّرة، وفي عيون أمهات الشهداء. سُجن سنة 1969، ومكث عامًا خلف القضبان، ثم وُضع تحت الإقامة الجبرية ستة أشهر أخرى. لم يكن ذلك أول ولا آخر أشكال القمع الذي تعرّض له، لكنه كان شرارة المقاومة الأولى عبر القلم.من التعليم إلى التوثيق: حين يصير الحبر مقاومةعمل السلحوت مدرسًا للغة العربية، قبل أن ينتقل إلى الصحافة، محررًا وكاتبًا في “الفجر”، و”الكاتب”، و”العودة”، و”الشراع”، وغيرها من الصحف التي حاولت أن تحفر في الوعي حفرة صغيرة للضوء.لكن جميل السلحوت لم يكتفِ بالحرف الصحفي، بل انتقل إلى الأدب، وهناك بدأ المشروع الحقيقي: مشروع التوثيق السردي للنكبة وللصراع الفلسطيني الإسرائيلي من منظور إنساني، اجتماعي، نقدي. منذ ذلك الوقت، أصبحت رواياته شهادةً غير قابلة للتزوير، وسيرته سلسلة مقاومة صامتة، صاخبة في المضمون، هادئة في الأسلوب، لكنها تنهش الضمير.في رواياته… لا نكبة واحدة، بل نكبات متسلسلةكتب جميل السلحوت العشرات من الروايات والدراسات، لكن أبرز مشروعه الأدبي يتمثل في سلسلة “درب الآلام الفلسطيني”، والتي تضم روايات مثل ظلام النهار، جنة الجحيم، هوان النعيم، برد الصيف، العسف، وأميرة. في هذه السلسلة، يبتعد عن البطولة الفردية، ليقدّم بطلاً جماعيًا هو الشعب الفلسطيني، ويحوّل القارئ إلى شاهد لا يستطيع أن يدير وجهه عن الحقائق.في العسف، مثلًا، نرى شخصية “خليل”، الذي يُعتقل ويُعذّب على خلفية وشاية من جاسوس. لكن الرواية لا تكتفي بسرد ما يحدث في الزنازين، بل تكشف عن منظومة اجتماعية كاملة تتآكل تحت الاحتلال والارتباط العضوي بين القهر السياسي والانهيار الأخلاقي. إنّها رواية عن القهر الاجتماعي كما هي عن الاحتلال، رواية عن كيف يُولد العميل من رحم الفقر، وعن كيف يُصبح الشكّ عقيدة في مجتمع منكوب.من الذاكرة الشخصية إلى المأساة الجماعية: “أشواك البراري” أنموذجًافي أشواك البراري، لا يكتب جميل السلحوت سيرةً ذاتية فحسب، بل يكتب تاريخًا بديلًا عن رواية المركز. هنا، الطفل الذي ينام في المغارة، ويتعلّم في مدرسة لا سقف لها، يصبح هو الراوي، وهو المراقب، وهو المدافع عن نفسه ضد وصمة الفقر، وضد قسوة البيئة، وضد ثقافة الذكورة القامعة.لكن السلحوت لا يستدرج التعاطف، بل يقدّم رؤيته النقدية لمجتمعه، لموروثاته، لأخطائه، دون تبرئة أو تجميل. هذا هو الأدب الحقيقي: حين يتحوّل الكاتب إلى مرآة لا تُجامل.النساء في أدبه: ليسن بطلات أسطوريات، بل ضحايا وباحثات عن الذاتفي أعماله، تحتل المرأة موقعًا مركزيًا لا باعتبارها موضوعًا للغزل، بل بوصفها فاعلة ومفعولًا بها في آنٍ معًا. في اليتيمة مثلًا، يُقدّم شخصية أنثوية تختصر مأساة النساء في مجتمع لا يرحم، يعاقبها لأنها مختلفة، أو لأنها تُفكّر، أو لأنها تجرأت على قول “لا”.المرأة عند السلحوت ليست “زهرةً” كما في الأدب الذكوري، بل إنسانة مكسورة، تقاوم داخل بيتها، داخل القرية، داخل الجسد، داخل الحكاية. وبذا يفتح السلحوت جرحًا آخر في الرواية الفلسطينية، جرحًا داخليًا يتجاوز الاحتلال، ليطرح أسئلة أكثر وجعًا.أدب الأطفال: لأن التربية تبدأ من الحكايةلم يُقصِ جميل السلحوت الأطفال من مشروعه الثقافي، بل كتب لهم أعمالًا تُربّي الذاكرة وتُحصّن الوعي. من حمروش إلى اللفتاوية، يُقدّم حكايات تربوية بلا وعظ، بل برؤية فلسفية عميقة، تقول إن التعليم يبدأ من الفقد، وإن الطفل الفلسطيني لا يملك ترف البراءة، فهو منذ ولادته مشروع مقاومة.شخصية القدس الثقافية: تكريم لا يختصر المسيرةعام 2012، اختارته وزارة الثقافة الفلسطينية “شخصية القدس الثقافية”، وكرّمته عشرات المؤسسات. لكنّ جميل السلحوت لم يكن يومًا بحاجة إلى الأوسمة، فقد اختار طريقًا يعرف أنه لا يحمل كثيرًا من الجوائز، لكنه يحمل الحقيقة.هو ابن القدس، لا نجمها. يكتب من قلب الجبل، لا من أبراج الثقافة. صوته يشبه حجارة الحرم، صلبًا، صامدًا، لا يتكسّر.في الختام… جميل السلحوت ليس كاتبًا، بل ذاكرة تمشيفي زمنٍ تُشترى فيه الأقلام كما تُشترى الذمم، يظلّ جميل السلحوت كاتبًا من طراز نادر. لا يكتب للنجومية، بل للذاكرة. لا يكتب لينال الرضا، بل ليوقظ الضمير. هو ليس “كاتبًا مقدسيًا” وحسب، بل هو القدس حين تتجلى في الكتابة، في الوجع، في الصمود، في الأمل العنيد.فلسطين، بكل ما فيها من تعبٍ وتوق، تجد في جميل السلحوت شاهدها الأمين. وقراءه لا يخرجون من كتبه كما دخلوها، بل محمّلين بسؤال: كيف يمكن للكتابة أن تحفر في الحجر؟ وجميل يجيبهم دومًا: بالحقيقة، ثم بالصبر، ثم بالحبر المشتبك