صدر عن دار الأزبكيّة للنّشر والتوزيع في رام الله قبل أيّام قليلة، كتاب” شقيقي داود-سيرة غيريّة” للأديب المقدسيّ جميل السلحوت، ويقع الكتاب الذي أخرجه ومنتجه سمير حنّون في 200 صفحة من الحجم المنوسّط.
قبل الدخول إلى السيرة أنوّه إلى أن أي عمل أدبي يجب أن يحقق المتعة للقارئ، وهذا المتعة تأتي من خلال سهولة السرد وقدرة الكاتب على جذب المتلقي، أعتقد أن “جميل السلحوت” نجح في هذا الأمر، حيث يمكن للمتلقي تناول السيرة في جلسة واحدة، وهذا يعد أحد عناصر النجاح لكتاب.
على الفلسطيني أن يدون تاريخه، أن يكتب مذكراته، سيرته، سيرة أهله، فصراعنا مع الاحتلال يوجب علينا ذلك؛ لأنه صراع متعلق بالأرض والإنسان، فعندما نكتب سيرة/مذكرات بالتأكيد نبيّن ونؤكد أننا أقدم منه على هذه الأرض، ونحن أصحابها منذ أن وجدت البشرية.
اللافت في هذه السيرة الغيرية أنها تتناول جانبا من تاريخ الفلسطيني المعاصر، فالراوي يتحدث عن دور والده في حرب عام 1948، وكيف أن الوالد ذهب شخصيا إلى سورية لجلب السلاح والذخيرة، لكنه عاد حاملا “نصف شوال من الرصاص” فقط، ممّا جعل القائد عبد القادر الحسيني يوجه رسالة إلى الأمين العالم لجامعة الدول العربية جاء فيها: “أحملكم المسؤولية بعد أن تركتم رجالي في أوج انتصاراتهم بدون عون أو سلاح” ص21، وهذا الرسالة كانت بمثابة وداع للقائد للمجاهدين وللأنظمة العربية التي تخلّت عنه وعن فلسطيني، حيث “بعد يومين أي في8 نيسان 1948” تم استشهاده في القسطل، فهذا الرسالة ما زالت تصفع وجوه الحكام الذين ما زالوا يتفرجون على ضياع فلسطين، دون أن يقدموا لها أي عون أو مساعدة، وما يجري في غزة الآن إلا تأكيد لتخاذل ومشاركة الأنظمة العربية بنكبة فلسطين وما حصل ويحصل لشعبها.
كما تتناول سيرة “شقيقي داود” إجراءات الاحتلال التي تحول دون بقاء الفلسطيني في وطنه، فرغم أنه ابن هذه الأرض إلا أنه لا يستطيع دخولها إلا من خلال تصريح من دولة الاحتلال، يحدثنا عن شقيقه “راتب” بقوله: “أن راتب المولود في القدس أبا عن جد لا يستطيع دخولها إلا بجواز سفر أجنبي، وبتأشيرة سياحية من المحتلين” ص117، هذه صورة من الصور التي تبيّن حجم المعاناة التي يتعرض لها الفلسطيني وخاصة سكان القدس، فالاحتلال يعمل جاهدا على تفريغ المدينة من سكانها تحت حجج وإجراءات وقوانين جائرة، يحدثنا عن شقيقه داود: “أمّا داود فقد جرّده المحتلون من حقه بالإقامة في مسقط رأسه جبل المكبر ـ القدس والتي غادرها في أغسطس 1988، وسحبوا بطاقة هويته المقدسية ـ حسب قوانين الاحتلال ـ التي تتعامل مع المقدسيين الفلسطينيين كمقيمين لا مواطنين.. ووضعوا شروطا جائرة منها أن لا يغيب المقدسي عن البلاد لمدة سبع سنوات متتالية بغض النظر عن أسباب غيابه، ومع أن داود لم يغب عن البلاد سبع سنوات متتالية، إلا أنهم سحبوا بطاقة الهوية منه” ص189، بهذا الشكل يتم تفريغ القدس من الفلسطينيين، حتى أن القوانين التي يضعها الاحتلال لا يلتزم بها، وذلك لأن هدفه هو تفريغ الأرض وخاصة القدس من السكان.
من هنا يمكننا القول إن أي سيرة فلسطينية لا بد لها من تناول السياسية وما يجري وجرى في فلسطين وللفلسطيني، وهذا ما يجعلنا نقول على كل فلسطيني أن يكتب.
ونلاحظ في هذه السيرة تناولها للمجتمع الفلسطيني الأبوي والذكوري، وكيف يتعامل مع الأبناء الذين يفترض أن يخضعوا للأب وسلطته دون معارضة: “النساء والأطفال ممنوعون من إبداء الرأي، بل ممنوع على الأبناء مهما كان عمر الواحد منهم أن يتكلم في حضرة أبيه أو جده أو عمّه، وحتى من كانوا آباء ووالدهم موجود ممنوع عليهم أن يتدخلوا في زواج بناتهم، فالجدّ ما دام حيا هو صاحب الرأي والمشورة في زواج حفيداته، أو أي أمر يتعلق بالأسرة “مش معقول ابن بولي يخالف شوري” ص23، بهذه العقلية كان من الصعب تجاوز سلطة الأسرة، فما بالنا بالحكومة والنظام!.
وفيما يتعلق بالنساء فقد تمّ التعامل معهن على أنهنّ جوار، وليس كزوجات: “ولم يكن للمرأة أي قيمة إنسانية، بل إن وجودها مرفوض، وسعيدة من تنجب الذكور ولا تٌخلف البنات، لأن البنت ليست خلفا، لذا فإن من أنجبت بنتا أو أكثر يدعون لها ولزوجها بالخلف الصالح، والمقصود ابن ذكر أو أكثر.. “الأولاد أوتاد” وعدم انجاب البنات وحتى وفاتهنّ أمنية اجتماعية، “اللي بتموت وليته من حسن نيته” “البنات مثل خبيزة المزابل” “ابنك لك وبنتك لغيرك” ص24، وهذا ما جعل المرأة خاضعة للمجتمع وغير قادرة على الفعل، ممّا جعل المجتمع كسيحا/عاجزا على الرؤية الواضحة لواقعه وللمستقبل، وما النكبة إلّا إحدى نتائج المجتمع الذكري، الأبوي الذي قادنا من هزيمة إلى هزيمة.
من هنا نجد تعاطف الكاتب مع أمّه من خلال تحديد ساعة ويوم وشهر وسنة وفاتها: “في الساعة السابعة وعشرين دقيقة من مساء الجمعة 22 كانون ثاني ـ يناير ـ انتقلت إلى رحمة الله تعالى والدتنا الحنونة “الحاجة أمينة” عن عمر يناهز 88 عاما”ص164، نلاحظ أن الكاتب حدد الساعة وحتى الدقائق، بينما في حالة الأرب اكتفى باليوم فقط، وهذا يشير إلى تعاطفه وانحيازه للأمّه وللمرأة التي وجدها تعاني من ظلم المجتمع الذكوري والسلطة معا.
العربي في أمريكيا يغرق هناك، فهو يتجاهل/يتناسى التمتع بالحياة وما فيها من مسارات، باحثا بشكل مستمر ومتواصل عن الأعمال وزيادة الأرصدة، يحدثنا الكاتب عن هذه الأمر بقوله: “في عام 213 قرر داود وراتب بيع هذا المحل، لأنهما ما عادا يقدران على العمل فيه، وفي تقديري أنهما ارتكبا خطأ جسيما في إدارة المحل، يتمثل في عدة أمور منها:
أنهما عملا في المحل ستة عشر عاما دون عطلة أسبوعية، وحتى أنهما كانا يلتزمان بالدوام حتى في حالة المرض، دون مراعاة منهما لقدرتهما الجسدية والنفسية، فراتب الذي التزم في الدوام من الساعة الثانية ظهرا حتى الثانية من صباح اليوم التالي ردد على مسمعي مرات كثيرة:
“أطفالي ما عادوا يعرفونني، لأنهم لا يرونني، فأنا أعود من البيت وهم نيام، ويذهبون إلى المدرسة وأنا نائم” ص147، هذه هي الحياة في أمريكيا، فهي ليست سهلة، بل حياة عمل دون رحمة أو راحة، وكل من يذهب إليها عليه أن يعيش هذه الظروف مجبرا.
ولتلطيف السيرة ينقل لنا الكاتب معلومة عن جماعة تسمي نفسها “أميش” تعيش حياة كلاسيكيّة، حيث ترفض التعامل مع التكنولوجيا: “لا يستعملون التلفاز أو المذياع، ولا يقرأون الصحف، منعزلون كليا عن العالم، أحدهم قال أنهم لا وسائل الإعلام؛ كي لا تفسد أخلاق الأطفال” ويبلغ تعداد هذه المجموعة في أمريكيا هذه الأيام ثلاثمائة وثمانين ألف شخص”ص 161، وجود مثل هذه الجماعة في هذا الزمن يعد حالة فريدة، لأن الاتصالات والمواصلات أصبحت متاحة للجميع وسهلت التعرف والتنقل على ما يجري في الكرة الأرضية.
23-1-2024