الدكتور ممدوح أبو عقيلة هو الشخصية الفاعلة الرئيسية والمحركة لكثير من الأحداث في رواية (زمن وضحة) للكاتب والروائي المقدسي جميل السلحوت، وصدرت أواخر عام 2015 عن مكتبة كل شيء الحيفاويّة
الكتور ممدوح أبو عقيلة في الرواية ليس فقط طبيب وشخصية بل هو فكرة، وهو موقف، وهو فلسفة ورؤية للحياة وللمجتمع، ولدور كل فرد في هذه الحياة، وفي المجتمع المحيط به.
المجتمع الذي صورته هذه الرواية مجتمع فيه شرور كثيرة، وفيه جهل وتعصب، وفيه أنانية ومصلحية وضيق أفق. مجتمع يميل معظم أفراده إلى الجمود ومقاومة أي تغيير مع أن فيه عناصر خيِّرة كامنة، ولكن تلك العناصر الخيرة لم يكن لديه الوعي أو الاطلاع أو الأفق للتغيير. هي تمارس طيبتها وخيريتها ضمن ذلك الإطار الاجتماعي وتحاول التعامل معه ضمن آفاقه وما تسمح به ظروف البيئة المحيطة. مجتمع يقوم على القمع وهضم الحقوق، ولا رأي للمرأة فيه زوجة كانت أو بنتاً، بل لا رأي للشاب بوجود والده الحاسم الحازم حتى في أكثر قضايا الشاب خصوصية. تعم هذا المجتمع أمراض فكرية لم تخلص منها القيادات التقليدية ممثلة بالمخاتير ومن ضمنهم إمام المسجد. مجتمع يقاوم العلم ممثلا بالطب، ويقاوم التحضر بكل صوره وأشكاله ابتداء من البيوت التي يقيمون بها وانتهاء بالتعليم وتوفير الخدمات الضرورية للساكنين.
انتصر الدكتور ممدوح أبو عقيلة مثال للانتماء الاجتماعي الحقيقي، إذ يصر على أن تطوير القرية في جوانب متعددة بالفعل لا بالقول، ويصر على أن يقيم في القرية مع أنه يعمل في المدينة ويقيم فيها، يصر على ذلك بعقله العلمي المتفتح وتحليله المنطقي، وبصبره وحلمه وسعة صدره، وبرؤيته وتحديده للأهداف والمصالح التي يسعى إلى تحقيقها في سبيل تنمية فكرية واجتماعية واقتصادية وتربوية.
انتصر الدكتور ممدوح لمعرفته بالواقع المحيط في البيئة التي ينتمي إليها، ولإدراكه العميق لحاجات تلك البيئة، ولكيفية تنميتها ومعالجة قضايا المجتمع وأمراضه البدنية والعقلية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية. انتصر الدكتور ممدوح لا بعبقريته الفردية، وإن كان رجلاً متميزاً في فكره، بل بقدرته على توظيف النوايا الخيرة الكامنة في القرية لصالح التطور والتحضر. انتصر الدكتور ممدوح لأنه صاحب إرادة وعزيمة تعاونت مع البذرات الخيرة والإيجابية في القرية وجعل منها أدوات فاعلة بعد أن كانت معطلة لا يعرف بها أحد. انتصر الدكتور ممدوح لا بالقول بل بالفعل والعمل والتعب والإصرار. فاز بتغيير العقول، وضم إليه في النهاية أو قبيل النهاية من كانوا بالأمس يتهمونه ويقاومون أفكاره ومشاريعه. انتصر الدكتور ممدوح لأنه أثبت للجميع أنه مستعد أن يكون الرائد في أي عمل، ولم يكن يريد الاستفادة الذاتية أو المصلحة الشخصية أو المنافع العائلية، بل كان يضحي من أجل تنمية القرية كلها، وأهالي القرية جميعهم، ذكوراً وإناثاً، صغاراً وكباراً، من حامولته أو من غيرها. لم تعقه محاولات المحبطين والمثبطين والمشككين والمتشككين. بهذه الصفات والملكات والجهد والوعي انتصر أبو عقيلة.
انتصر الدكتور ممدوح الموقف والفكرة والفلسفة والرؤية التقدمية والتنموية على التخلف والجهل والتسلط والظلم والقهر. انتصر الدكتور ممدوح على الجمود والتعصب، انتصر ممدوح كطبيب يعالج المرضى ويقاوم أساليب الاستطباب الجاهلة (الكي بالنار وغيرها) التي كانت تضرب بجذورها في أعماق المجتمع القروي الريفي. انتصر ممدوح كمحلل نفسي واجتماعي إذ نقل عارف من شخص قمعه المجتمع وحطم شخصيته وأطلق عليه صفة الجنون، وكوّن منه طاقة مهملة ومعزولة عن المجتمع ليصنع منه الدكتور ممدوح طاقة إيجابية منتجة وفاعلة، ليس على المستوى الشخصي فقط بل جعله ينتشل معه غيره من مستنقع الظلم والقهر والاستبداد والجهل.
انتصر ممدوح على النزعات الفردية والأنانية والمصلحية الفردية الضيقة والعمياء. انتصر على نزعة حب الظهور والتبجح بدون عمل حقيقي إو إنجاز فاعل. انتصر ممدوح على ضيق الصدور وعلى انغلاق الآفاق والبصائر وجعلها تتفتح للحياة الناهضة، للحياة المنتجة، للحياة المتطورة. نجح ممدوح وأنجح معه كل من سار في الدرب الذي سار فيه ودعا إليه وقاد مسيرته وترك وراء ظهره المعاندين والمصرين على استمرارية هذا الجهل وهذا التخلف (المختار فرج الذي بقي في النهاية وحيداً): لم يعد عارف مجنونا ضائعا، وتغير محمود العفش من شكاك ومشكك في نوايا الدكتور ممدوح، ومن معارض شرس لمشاريعه إلى مؤيد ومناصر وداعم ومشارك في إنجاز تلك المشاريع، وفي الآفاق تدخل وضحة بزواجها إلى عالم جديد وبيئة فكرية واجتماعية مختلفة: تدخل المدرسة وتخطط لإكمال تعليمها، والعمل معلمة، ولتصبح تقود السيارة مقلدة لريتا (زوجة ممدوح) الصيدلانية التي درست في بيروت بعيدة عن عائلتها وحراستهم لعرضها، والتي تجمع بين العلم والعمل والفن والذوق الرفيع، إذ نظرت لها نساء القرية بمزيج من الإعجاب والاستغراب والغيرة، ولكن كنّ في دواخلهن يتمنين أن يكنّ مثلها. ممدوح أقنع الأغلبية من أهل القرية أن يكونوا إلى جانبه وأن يسيروا في ركب التنمية الذي رسمه وخطط له وحشد له كل الطاقات الذاتية في القرية، وبجهوده ضم الجهات الرسمية الحكومية إلى تلبية مشاريعه وتوفير ما تتطلبه تلك التنمية.
لعل أهم إنجاز للدكتور ممدوح أنه حول الطاقات المتناقضة المتصارعة، والمتصلبة والجامدة والجاهلة ومغلقة التفكير ومتسمة بالأنانية، حوّلها من طاقات معطِّلة وسلبية ومدمِّرة إلى طاقات جماعية ومنتجة وإيجابية. نجح الدكتور ممدوح في تغيير العقلية وطريقة التفكير، وهذا بدوره كان الأساس في السلوكيات والمواقف التالية لهذا التفتح والتغير والقائمة عليه. أرسى الدكتور ممدوح روح التعاون والتآلف والتآزر بدل التناقض والصراعات على ما لا يجدي ولا ينفع أهل القرية (شركة الحافلات بخاصة).
نجح الدكتور ممدوح في بث آفاق كثيرة مبشرة للقرية، مثل تعبيد الطريق بين القرية والمدينة، وتوسيع مدرسة الذكور والتبرع للمرة الثانية بقطعة أرض لبناء مدرسة عليها، وتوسيع ومدرسة الإناث لتضم المرحلة الإعدادية ومن المنتظر أن تكمل المرحلة الثانوية. ونجح ممدوح في إنشاء شركة حافلات تنقل أهل القرية إلى المدينة وتسهل عليهم تحركهم وتريحهم من عناء الأسفار أو الانغلاق (إذ سيصبح التواصل مع المدينة أفقاً آخر للمستقبل). نجح الدكتور ممدوح في أن يوصل التيار الكهربائي إلى كل بيت، وهذا إنجاز كبير لأن له تبعات كثيرة في تطوير حياة الناس. نجح الدكتور ممدوح في فتح آفاق التعلم والتطور إلى من فاتهم قطار التعلم، بفتح مجال لبرامج محو الأمية.
وكما كان الدكتور ممدوح رائداً لفتح هذه الآفاق كانت زوجته ريتا تفتح للنساء آفاقاً أخرى تفتح بها عين نساء القرية نحو حياتهن وفهمهن للأدوار التي يمكن أن تقوم بها المرأة غير تلك الآفاق التي أوضحها لها زوجها في نهاية الرواية عن الأعمال التي تقوم بها المرأة في تلك البيئة القروية. بدأت مسيرة التغير في القرية اجتماعياً أيضاً، فزعرورة تصر أن يكون عرسها كعرس بقية بنات القرية وأذخت إلى جانبها إخوتها معاكسة رأي والدتها المتمسكة بالتقاليد المضرة. بدأت حياة المرأة تتغير مع زيارة وضحة لصيدلية ريتا وللمزينة (الكوافيرة) وما تبع ذلك من تحولات في حفلة عرسها أثارت دهشة الحضور: زينة جديدة، واختلاط ورقص مع العريس وهو مالم يكن مسموحاً من قبل، بل يعتبر عاراً.
أنحياز الدكتور ممدوح للتقدم والتطور –والذي هو بصورة ما رؤية المؤلف- هو الذي جعل من هذه القرية نموذجاً “حافزاً للقرى المجاورة” (ص215)، وهو نموذج لا يكتفي بانتظار أن تقوم الدولة (الحكومة غير الموثوق في فعلها لدى أهل القرية)، بل يستند إلى دور اجتماعي وتنموي يقوم به أهل القرية ابتداء، ويسعون لدى الجهات المعنية للمساهمة والدعم والإنجاز. وهذه رؤية أخرى تسعى إلى تنشيط الدور المجتمعي في تنمية الذات بالمبادرات التنموية والتقدمية.