صدرت رواية المائق للفتيات والفتيان للأديب المقدسيّ جميل السلحوت عن مكتبة كلّ شيء في حيفا، 2024، تنسيق شربل إلياس، وتقع في 149 صفحة.
الكاتب جميل السلحوت روائيّ غزير الإنتاج، يطرق مواضيع مختلفة في رواياته، وهي في معظمها تتمحور حول العادات والتقاليد والأفكار النمطيّة السائدة في المجتمع العربيّ، وقد خصّ المرأة وما تتعرّض له من تميّيز وإجحاف في حقوقها، في الكثير من رواياته منها: رواية الأرملة(2023)، وهي رواية مشتركة مع الروائيّة المقدسيّة ديمة السمّان، رواية المطلّقة(2020)، رواية الخاصرة الرخوة(2020) كما أنّه لم يغفل حياة البداوة وعاداتها وتقاليدها، فذكرها في العديد من رواياته، ومنها رواية المائق.
والمائق هو الطفل الذي يتأخّر في الحبو. تدور أحداث الرواية في العهد العثمانيّ في البادية في عشيرة الشيخ مسعود، التي تقطن في منطقة” الطّبق” قريبا من مقام النبي موسى-عليه السلام- في فلسطين في الطريق الواصل بين القدس وفلسطين. وكان ماجد الملقّب” بالمائق” ابن الشيخ مسعود، ووالدته صفيّة.
طرح الروائيّ السلحوت مواضيع عديدة في روايته منها:
- تعريف الناشئة بحياة البداوة: العادات والتقاليد، منصب المشيخة وأهميّة الشيخ للقبيلة، مصادر الرزق، الكرم والسخاء عند قبائل البدو، وقد ظهرت هذه الصفة بشكل خاصّ لدى الشيوخ، الذين يكرمون ناسهم وضيوفهم، فتبقى مضافتهم مفتوحة، ونارهم موقدة.
- أهميّة إنجاب الذكور: بيّنت الرواية تفضيل الولد على البنت، وخاصّة شيوخ العشائر، “فالأولاد عزوة”، والولد الذكر هو من يرث المشيخة عن والده. لذا كان الشيوخ يتزوّجون العديد من النساء؛ ليلدن لهم الكثير من الأبناء الذكور، وكانت الأفراح تعمّ العشيرة برمّتها عندما تنجب نساء الشيخ أولادا، في حين لا يكترث أحد لولادة البنت. وقد بيّن الكاتب أنّ لا علاقة للمرأة في تحديد نوع الجنين، فجاء بآية من القرآن الكريم تبيّن ذلك:” الله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء، يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور”. ص 46.
- خضوع المرأة للرجل ووجوب طاعته: بيّنت الرواية مدى خضوع الزوجة لزوجها، وعدم الاعتراض على زواجه من امرأة أخرى، أو توجيه أسئلة له عن الأماكن التي يذهب إليها، والاهتمام بجمالها حتى تبدو دائما جميلة في عين زوجها. وتلعب الأمّ دورا هاما في تقديم النصائح لابنتها وفي الحفاظ على جمالها خاصّة إذا كانت زوجةً لشيخ العشيرة. ومن نصائح زبيدة لابنتها صفيّة زوجة الشيخ مسعود ما يلي:” ضعي الولد في حدقتي عينيك، تجهّزي لتحملي ولتلدي كلّ عام طفلا أو توأمين، فالشيوخ يحبّون العزوة، فكوني للشيخ مسعود فراشا؛ ليكون لك غطاءً. لا تظهري أمامه إلا وأنت كما يُحبُّ، تجمّلي له؛ لتقنعيه أنك المرأة الوحيدة على الأرض كي لا يأتيك بضُرّة”.(ص 10).
وقد وضعت زبيدة والدة صفيّة بصمة من الحنّاء على جبين صفيّة، وبصمة أخرى على منتصف لحيتها، طلبت منها أن تتمدّد على الفراش وترفع ثوبها، ليظهر بطنها وصدرها، وضعت دائرة من الحنّاء حول سُرّتها، رسمت بالحناء وردتين على نهديها، ووردتين على منتصف فخذيها وهي تقول: “عندما يرى الزّوج هذا على جسد زوجته فإنه يهيم بها، ثم رسمت وردة على ظاهر وبطن كفّيها وذراعيها”.( ص 19-20). مع ذلك فإن المرأة البدوية كانت تعتبر من الحرائر، ولا تعيش حياة الحريم، وهذا يعني أنها كانت تتصرّف بعفوية دون حرج كما الرجال، وتتحدث معهم دون خوف، وقد تمتّعت المرأة برشاقة الفرسان، وكانت فارسة تركب الخيل وتتعلّم الفروسيّة.
- الفروسيّة: تطرّق الرّواية إلى أهميّة ومعزّة الخيول العربيّة الأصيلة لدى البدو، وخاصّة الشيوخ، فكانت الخيول الأصيلة ملكا لشيوخ العشائر، مخلصة لصاحبها، تبكيه إذا مات، وبعضها يموت حزنا بعد وفاة صاحبها.
- موضوع ختان الأولاد الذكور: بيّنت الرّواية حكم الشّرع فيه، فالختان من السّنة ولم يُذكر في القرآن:” اتّفق أهل العلم على مشروعيّة الختان، واختلفوا في حكمه، فقال بعضهم بوجوبه، وقال البعض بسُنّيتهِ”.(ص 36).
- حريّة التنقّل في الأقطار العربيّة: ففي العهد العثمانيّ لم تكن هناك حدود بين الدول العربيّة، فالشيخ مسعود تزوّج زوجته الأولى والثالثة من بادية الشام، أمّا ابنه ماجد فبعد أن طرده والده ذهب للعيش في تبوك في السعوديّة.
- تربية الأولاد وعدم الإفراط في تدليلهم : ولعلّه الموضوع الأهمّ في هذه الرواية، فقد بيّن الكاتب أن الدلال المفرط يسيء إلى الولد، وقد ظهر ذلك في تدليل صفيّة وأمّها لماجد ابن الشيخ مسعود، حتّى أنّه تأخّر في الحبو حتى بلغ عاما، في حين حبت أخته في عمر أربعة أشهر. وبعد أن أخذت صفيّة ابنها ماجد لفحصه عند إمام المسجد، أخبرها أن زواج الأقارب هو السبب في ذلك؛ فصفيّة ابنة عمّ الشيخ مسعود، وجاء بقول لابن قدامة:” اغتربوا لا تضووا” يعني أنكحوا الغرائب كي لا يضعف أولادكم. ص 29.
ورغم محاولات الشيخ مسعود تعليم ابنه الفروسيّة منذ طفولته، إلا أنه لم يفلح بذلك، فماجد لم يكن نبيها، ولا يسأل ليتعلّم، وكان منطويا لا يخالط أحدا، ممّا أغضب ذلك الشيخ وآمن أن ابنه ماجد لن يغدو شيخا في المستقبل. وقد استاءت صفيّة من ذلك، وخشيت أن يتزوّج الشيخ مسعود بامرأة أخرى، ورغم أنّ صفيّة أنجبت ولدا آخر (سلطان) وقد كان نبيها ذكيّا بعكس أخيه، إلا أنّ الشيخ مسعود تزوّج بفتاة أخرى، وأحضر ضرّة لزوجته صفيّة التي اغتاظت وبكت، لكنّ والدتها نصحتها بالتظاهر بالرضا ومباركة هذا الزواج.
لم يحتمل الشيخ مسعود بلاهة ابنه وسذاجته فطرده من العشيرة رغم أنه كان متزوجا منذ فترة وجيزة، وقد ترك زوجته حاملا دون أن يعلم بذلك. فهام ماجد على وجهه في البراري حتى التقاه صدفة أعرابيّ فأخذه إلى عشيرته في تبوك في السعوديّة، وقد احتضنه شيخ القبيلة( الشيخ سعيفان) وعرف من ماجد أنه ابن الشيخ مسعود، وجعله يرعى الماشية مع أولاده، وعلّمه الفروسيّة، فشعر ماجد برجولته؛ فصار يتنبّه لأمور ويدركها، تحسّنت قدراته بشكل لافت، وبعد مرور خمس سنوات صار يشارك في سباقات الخيول وفاز في إحداها، كما صار يجالس الرجال في ديوان الشيخ، وإذا ما جاء متخاصمان فإن ماجد يستمع مع الشيخ لحجّة كل ّ منهما.
بعد خمسة عشر عاما قرّر ماجد العودة إلى عشيرته، فنصحه سعيفان ثلاث نصائح تنجيه من الموت إن اتّبعها، وبالفعل نفّذ ماجد نصائح الشيخ سعيفان ونجا من الأخطار التي واجهته في طريق العود، وحين وصل ماجد سالما إلى عشيرته تفاجأ الجميع من شخصيّته ولم يصدّقوا أن هذه هو ماجد الذي كان أبلها بسيطا وقد اعتقدوا أنه مات، وها هو يعود رجلا واثقا بنفسه ومعه كميّة كبيرة من الذهب وجدها في طريقه عند السيل الجارف. ثمّ ما لبث الشيخ سعيفان أن زار الشيخ مسعود وسلّمه ثلاثمائة رأس من الغنم البيّاض، هي أجرة ماجد من عمله بالرعاية. وهكذا اشترى الشيخ مسعود الكثير من الأراضي الزراعيّة في مدينة أريحا، وبنى البيوت لأولاده، وانتقلوا الى العمل في الزراعة.
كتبت الرواية بأسلوب شائق ولغة جميلة، تكثر فيها الأمثال الشعبيّة والأقوال المأثورة، والأغاني والمهاهاة، الأحاديث النبويّة والآيات القرآنيّة، ممّا يرسّخ هذا التراث الهام في نفوس فتياتنا وفتياننا. ومما ورد في الرواية ما يلي:” “النساء أكثر من الهمّ على القلب”(ص 11). “إكرام الميّت دفنه”( ص 42). :” فرحنا للأقرع حتى يونّسنا، كشف عن قرعته وخوّفنا”(ص 29). :” الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة”(ص 48).:” التعارف من السُنّة”( ص 71).:” إذا كان صاحبك عسل لا تلحسه كلّه”(ص 76).:” بين حانا ومانا ضاعت لحانا”(ص 92). ومن المهاهاة ما يلي:”
أويها يا شيخ بيتك مشرّع بفتيخه
آويها شِقْ بيتك مقعد للشيخه
آويها يا شيخ بيتك مشرّع بالخاتم
آويها وشِقْ بيتك مقعد للحاكم”. (ص85).
هاي ويا بيّ ماجد يا عامود رجالنا
هاي ويا صاحب الهيبة وامشِ قدّامنا
هاي ويا بيّ ماجد يا عامود أهالينا
هاي ويا صاحب الهيبة وامشِ على هوانا”(ص 85).
يمكن اعتبار رواية المائق، رواية تعرّف الناشئة بحياة البدو، وهي زاخرة بالقيم العربية الأصيلة عند البدو، كالكرم واحترام الضيف وتقدير شيوخ العشائر، والاهتمام بالفروسيّة ونجدة المستغيث، ومساعدة المحتاج، إضافة إلى أهميّة تربية الأطفال تربية صالحة دون الإفراط في تدليلهم، وتربيتهم على القيم والاعتماد على النفس، وإغداق الأطفال بالحبّ والصبر عليهم في التربية، والايمان بهم وبقدراتهم، ولعلّ ايمان الشيخ سعيفان وحبّه لماجد ورعايته الصالحة له، ساهمت في صقل شخصيّته وجعلته رجلا بكلّ ما تحمل هذه الكلمة من معنى.
28-4-2024