القدس: 10-10-2019 ناقشت الندوة ديوان “ما يشبه الرّثاء للشّاعر الفلسطيني فراس حجّ محمد، ويقع الديوان الصادر عن دار طباق للنشر والتوزيع في رام الله في 194 صفحة من الحجم المتوسط.
بدأت النّقاش ديمة جمعة السمان فقالت:
جمع الشاعر في ديوانه هذا أقسى القصائد، فما في القلب أقسى من لغة القصائد، قالها الشاعر بثقة العارف بوجع القصيدة على صاحبها وعلى المتلقّي أيضا.
اصطحبنا الشاعر برحلة نفسيّة صعبة من خلال أكثر من ثمانين قصيدة، كان كل حرف فيها يمرّ على القلب يزيد من اتساع رقعة جرحه، وكأنه يقول: عليّ وعلى أعدائي. سرق من خلاله الطاقة. فالحرامي لا يسرق النقود فقط، بل الطاقة تُسرق أيضا؛ لتترك ضحيتها غارق في بحر من اليأس، أمواجه المتلاطمة تتآمر مع الشّاعر، تمنع كل من قرأ القصائد من الوصول إلى شاطئ الأمل، يغبّ شيئا من السّكينة والهدوء النّفسي، فيوجعه السؤال وتزيد من تعبه الحقيقة.
لم يكن الديوان يشبه الرثاء، بل كان رثاء كاملا حمل كل المعاني.
الرثاء يكون -كما اعتدنا – لمن صعدت روحه إلى السماء، ولكن الشاعر لم يرثِ في هذا الديوان الأموات، بل رثى الأحياء، الذي تغلّب عليهم اليأس وهزمهم وكسرهم من الداخل، فتركهم أشباه أموات، غرباء عن أنفسهم، يجترّون الحزن من عمق المأساة، يسدلون السّتائر، يصرّون على بقاء الظّلام فيهم، لا يسعون إلى إدخال النور إلى نفوسهم الصدئة المتعفنة، لا يسعون لترميمها لتعود إليهم الحياة من جديد.
لم أر شبه بصيص من الأمل سوى في قصيدة داخل ديوانه أسماها: المدينة لا تموت، وقصد بها قدسنا المحتلّة، ختمها بِ:
إن مات كل شيء واستراح
هي لا تموت
الشّاعر متمكّن من ناصية اللغة، يشكّل الكلمات ويرتبها بإتقان المتمرس. تكون بين يديه أشبه بالعجينة، يصنع منها لوحة فنان.
إلا أنّني أرى لو أنه تجنب بعض الكلمات – المباشرة- والتي ما كانت ستضعف قصيدته لو استبدلها بكلمات أخرى، وصور أخرى تحمل ذات المعنى ولا تخدش الحياء، خاصة وأن لغته جميلة وقوية، وهو قادر على ذلك دون أدنى شك.
فقد حرم كتابه من دخول المدارس، وحرم مكتبات المدارس من أن تقتني ديوانا قويا لشاعر مبدع، خاصة وأنه يعمل مشرفا تربويا في مدينة نابلس، ويعي تماما ما قصدت.
وقال ابراهيم جوهر:
إنّه رثاء مكتمل
الرّجل عبّر عن اغترابه في الحياة، وقدّم هويته الخاصة بمنظوره الإبداعي
ورسم صوره الفنّيّة بلغة مجازية متوتّرة.
لم يخرج عن المألوف ولم يكسر تابو وإن اقترب من حِمى الأحلام وحاور المرأة كجسد مشتهى تارة أو حلما وطيفا يزوره؛ ليبقيه في وحدته وخيبته وانكساراته.
الشاعر “فراس حج محمد” في قصائد “ما يشبه الرّثاء” يرثي حقّا وإنسانا وأحلاما: يرثي حقّ الإنسان في الحرية والحياة والإبداع،
ويرثي إنسان المرحلة الذي فقد هويته وسار في نهر الاغتراب عن القيم والغايات الكبرى، ويرثي أحلامنا المتبخّرة في أتون سياسة المرحلة.
هذا شاعر يعي ما يقول وهو يكتب وكأنّه ينحت في صخر: صخر الواقع اللئيم وصخر اللغة التي تحمل غبارها وشظاياها وانكساراتها، وكأنّه يثوّرها أو يسعى لتثوير قارئه وتحريضه ليسأل: وماذا بعد؟ إلام نبقى ندور في ربقة الاغتراب القاتل؟
تبرز “أنا” الشّاعر” في قصائده التي وصفها بأنّها تشبه الرّثاء بروزا لافتا، وهي وإن عبرت عن أناه الخاصة إلّا أنّه في رثائها المحقّ يعني “أنانا” الكلّيّة العامّة. فالشاعر الجريء بلغته وتعبيره في اعترافه بخيباته لا يعبّر عن ذاته بل نرى فيه ذواتنا أيضا.
وقال جميل السلحوت:
كتب الشّاعر فراس عمر حجّ محمّد، الشعر، والنقد واليوميات والمقالة، وصدر له حتّى الآن حوالي ثمانية عشر كتابا، ومن يتابع كتابات هذا الشّاعر سيجد أنّه كاتب إشكاليّ، جريء، يملك ناصية اللغة، مرهف الأحاسيس، يسعى إلى تطوير أدواته الكتابيّة؟، مستفيدا من ثقافته وسعة اطلاعه، وفراس حجّ محمد يخوض مجالات التّجريب بحثا عن جديد في فنون الأدب. وجرأته هذه سبّبت له أكثر من مشكلة، لكنّه واصل طريقه لقناعته بأنّ الأدب يساهم في تغيير السّائد نحو الأفضل.
ومن يعرف الشّاعر فراس حجّ محمد عن قرب يعرف أنّه إنسان متديّن بوعي وفهم صحيح للدّين، وقد نشأ منذ بداياته في أحضان حزب التّحرير الإسلاميّ.
والقارئ لديوانه الأخير “ما يشبه الرّثاء” سيجد أنّ الشّاعر يرثي نفسه، ويرثي أمّته، ويرثي قدسه ووطنه ولغته وثقافته، فكلّ شيء ينهار أمامه، وهذا الرّثاء ليس نابعا عن يأس، بمقدار ما هو حالة غضب على الإنهيارات والهزائم المتتالية. كما أنّه شاعر يكتب الغزل ويوغل فيه.
وفي هذا الدّيوان سيلاحظ القارئ النّبيه مدى تأثّر الشّاعر فراس حجّ محمد بالشّاعر الكونيّ الرّاحل محود درويش، وأكثر ما يظهر هذا التّأثر في قصيدته “وجع السّؤال- تعب الحقيقة” ص158. حيث يحاكي فيها جداريّة محمود درويش، والمقارنة بين القصيدتين تحتاج دراسة مطوّلة، وممّا جاء في جداريّة درويش:
” نسيتُ ذراعيَّ ، ساقيَّ، والرّكبتين
وتُفَّاحةَ الجاذبيَّةْ
نسيتُ وظيفةَ قلبي
وبستانَ حوَّاءَ في أَوَّل الأبديَّةْ
نسيتُ وظيفةَ عضوي الصّغير
نسيتُ التّنفُّسَ من رئتيّ.
نسيتُ الكلام”
بينما يقول فراس حجّ محمّد في قصيدته آنفة الذّكر:
” تعبت من النّهار
أمازح الطّيف يمخرني بأناة محترف جريء
تعبت من عضوي الذّكريّ يسيل حليبه كلما استذكرت صوتك
واكتناز الصّدر في الصّورة
واكتناز الرّدف والفخذين…….”
وبغضّ النّظر عن الإختلاف أو التّوافق مع فراس حجّ محمد، فيما يسمّى”خدش الحياء”، بوصفه لمرحلة يمرّ بها كلّ المراهقين الذّكور، فإنّ ما أتى به ليس جديدا في الأدب العربيّ، فقد سبقه إلى ذلك شعراء وأدباء ومفكّرون وفقهاء، وبالتّالي هو لم يخرج عن الثّقافة العربيّة الموروثة، وممّا جاء في الحديث النّبويّ الشّريف:
” قال النّبيّ (صلى الله عليه وسلم): «مَنْ تَعَزَّى بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ ، فَأَعْضُوهُ بِهِنِّ أَبِيهِ، وَلا تُكَنُّوا» (رواه النسائي، وصححه الألباني)، ما جاء في الأثر: عن أُبيِّ (رضي الله عنه) أن رجلًا اعتزى، فأعضه أُبيُّ بهنِّ أبيه فقالوا: ما كنت فاحشا قال: إنَّا أُمِرْنَا بذلك.
ودعونا نتمعّن بهذين البيتين من معلقة امرئ القيس:
فِمِثْلُكِ حُبْلَى قَدْ طَرَقْتُ وَمُرْضِـعٍ… فَأَلْهَيْتُهَا عَنْ ذِي تَمَـاتِمَ مُحْــوِلِ
إِذَا مَا بَكَى مِن خَلْفِهَا انْصَرَفَتْ لهُ… بِشِـقٍّ وَتَحْـتِي شِقُّـهَا لَمْ يُحَـوَّلِ
والحديث يطول.
وكتب الدّكتور عزالدين أبو ميزر:
قبل كل شيء، انا أتابع ما ينشره صاحب الديوان من مقالات أدبيّة ونقديّة وحتى الكتابات السياسية، وقرأت كتابه في النقد ( ملامح من السرد المعاصر ) حول الرواية.
يعجبني أسلوبه في الكتابة ويشعرني أنه قاريء جيد ومطّلع، وأنه متمكن من ناصية الكتابة واللغة، ومن ملكهما يستطيع الكتابة في كل شيء يخطر بباله، أو يعتلج في نفسه، ويعبر عن مكنونات صدره، ويتصارع في النفس التي يحملها إذا وجدت لديه الملكة والموهبة اللتان هما هبة من الله ولا دخل للإنسان الا في صقلهما وإغنائهما بالقراءة والإطلاع والممارسة، بالطريقة والأسلوب الذي يراه الكاتب مناسبا من وجهة نظره التي قد تعجب البعض وتؤدي إلى غضب ونفور البعض الآخر، وكما قلت في قصيدة لي هذا البيت:
لَئِنْ تساوت عيون النّاس أجمعهم
فإنّ نظرتهم للشيء تختلف
قرأت ديوان الأستاذ فراس ورأيت في قصائده صورا غير مكتملة تتأرجح على حبال من الشك والريبة أحيانا، والأسى والنقمة التي تصل حد الحقد أحيانا أخرى، تتشعوط على نار غضب لا يخفى ولا يؤدي الى احتراقها، حيث يطل برأسه من خلف غلالة من الرمزيّة الظاهرة والموغلة في التخفي بين قصيدة وأخرى، إلى أن تصل في بعضها الى الظهور الفاضح والتعرّي الكامل حتّى من ورقة التّوت كما يقال.
ولا ألوم الكاتب فيما كتب، فهو يعبّر عمّا يختزنه في داخله من هواجس ومفاهيم قد اقتنع هو بها، هي صحيحة من وجهة نظره، وخاطئة من وجهة نظر غيره، وتعكس ما يراه بعينيه أمامه من صور وأحداث. وهذه هي الحياة على هذا وذاك، ورضا الناس غاية لا تدرك، وذائقتهم تختلف وتتنوّع، وقد تجمع النّقيضين في آن واحد.
فالانسان يحب ويكره، ويعظّم ويُسقط، ويرفع ويخفض، وحين نفخ الله في أبينا آدم الروح نفخ فيها هذا الاختلاف حيث يقول في آخر سورة هود:
“ولو شاء ربك لجعل النّاس أمّة واحدة ولا يزالون مختلفين .إلّا من رحم ربّك ولذلك خلقهم.”
وعودة الى ديوان وقصائد شاعرنا( ما يشبه الرثاء ) بعد قراءته فإنّني أراه بالفعل رثاء لا ما يشبه الرثاء، فهو رثاء للكاتب نفسه في حال من الأحوال ولمجتمعه ومثله وقيمه، وقد سمّاه ما يشبه الرّثاء؛ ليترك ولو كوّة صغيرة للتّفكر والاستنتاج والأمل، في أماكن كثيرة، وإن كان أملا ميئوسا منه من وجهة نظره حقيقة.
وقد حاولت جمع ما تناثر في قصائده من صور غير مكتملة في مرآة فكري وعقلي لأجعل منها صورة متكاملة، وإذا بالمرآة تقع وتصبح شظايا وتعود بقايا الصور الى مواقعها وحالها في القصائد.
أنا لا أحب الإغراق في الرّمزيّة في الكتابة وخاصّة في الشعر بشكل عام، وإن كنا نحتاج اليها أحيانا وليس دائما، حيث أنّني أمارس هذا النّوع من الكتابة وأدرك وأحس مدى تفاعل من يسمع ويقرأ.
الشعر كتلة من المشاعر يختزن فيها الشاعر كمّا من الرسائل التي يريد إيصالها الى سامعه وقارئه، فهو نبيّ ورسول بشكل أو بآخر ويبلغ رسالة، على أن تعرض بشكل جميل وجاذب للذهن والعين، لا أن يمتحن الناس بأحاجي وألغاز أحيانا يصعب فهمها وتفسيرها، ومعرفة المراد من ورائها، ويترك السامع أو القاريء ليفسّرها كيف يشاء.
فإن فهم السامع أو القاريء المراد تفاعل معه وطرب له وصفّق منتشيا بما سمع أو قرأ وإلا صمت أو ألقى الكتاب جانبا.
وحيث أن الشاعر الموهوب إذا ملك ناصية العبارة والبيان والخيال والإبداع الملوّن بألوان الأزهار والفراشات والعصافير، فإنه يكتب كما قلنا في كل شيء ومنها الجنس، وإن لم يعجب البعض ورآى فيه سقوطا وإسفافا، فلا ننكر أنه موضوع يشكل نصف الحياة، إن لم نقل أنه يشكل الحياة بكاملها في جانب من الجوانب، وهو استمرار الحياة في وجودها.
ولو رجعنا من بدء كتابة الشعر في الجاهليّة الأولى وإلى العصر هذا الذي نحن فيه، فإنه لم يخل عصر من العصور إلا وكتب شعراء في الجنس حتى الفاضح منه، قلّوا أم كثرو من امرىء القيس، إلى عمر بن أبي ربيعة، إلى جرير وأبى نواس وكامل عصره في النساء والغلمان، إلى ابراهيم طوقان وإسعاف النشاشيبي وأبي سلمى ونزار قباني…إلخ.
ولا يمكن إنكار ذلك وهو مدوّن ومكتوب أو متداول على الألسن بأساليب وأشكال تختلف من شاعر لشاعر آخر. والناس لها ذائقات مختلفة كما أسلفنا، وكما لم أنكر على من كتب مثل هذا الغزل المكشوف لأي شاعر كان، ولا أعيب على من يطرب لمثل هذا الشعر ويصفّق له، فإنني لا أنكر كذلك على من ينفر من هذا النوع من الكتابة أو يعتبره مقززا أو سوقيا ولا أزكّي على الله أحدا.
وأعود لأكرّر أنا شخصيا ولا ألزم به غيري أنني لا أميل إلى الإغراق في الرمزية وإن كان الغموض والتورية والاستعارة جزء من البيان والإبداع، وهي مدعاة للتفكر والاستنباط واختراع صور مدهشة لدى السامع أو القارىء قد لا تكون أصلا خطرت على قلب من كتب النّصّ.
وقال عبدالله دعيس:
من يرثي الشّاعر في ديوانه؟ وهل هو رثاء صريح وبكاء على الأطلال؟ أم أنّه يركب أمواج بحور الشعر وأغراضه ليرثي نفسه وأمّته، بل ليرثي الإنسانية التائهة في بحر متلاطم من اللامعقول؟ سؤال يتبادر إلى ذهن القارئ عندما يطالع عنوان الديوان المثير.
يستهلّ الشاعر كتابه بنصّ غير معنون، يعلن فيه عن نظرته التي ستحملها القصائد جميعها، ويهيّئ المتلقي لما سيجد في الصّفحات اللاحقة:
“لا شيء فينا كاملٌ أو ناقصٌ
كلّ شيء هو هو
ناشئ بفطرته
تشوّهه الحياة بلغز مبتذل” ص 5
فهل قصائده دعوة للتجرّد من الدّنيا وأوزارها والعودة إلى الفطرة السليمة؟ أم ربما عودة إلى وحشيّة الغاب وبداءة العيش؟ وهل يمكن للإنسان أن يتصرف ويقول على سجيّته، ويحطم الحواجز التي يضعها الآخرون؟
يُفصح الشاعر عمّا سيأتي في ديوانه، في القصيدة الأولى المعنونة (هكذا آتيكم)، والتي تعطي صورة واضحة عمّا سيأتي في مجمل قصائده، وتفسّر الإشكاليات التي ستثار حولها. ففيها يعلن أنّه لن يأتي بوجه مقنّع أو بابتسامة خادعة تغطي عمّا في داخله من مشاعر سلبيّة، ولن ينمق كلماته، ويخفي ما يريد وراء ستار من الصور المصطنعة. وتزخر قصيدته هذه بالعواطف التي تعبّر عن السخط من عالم مضطرب تحكمه المصالح، ويقوده النفاق والإختباء خلف الأقنعة الزائفة، وقد ماتت فيه كل معاني النخوة والمروءة، وأصبح الاستغلال هو العنوان، ورضخ فيه المظلومون واستكانوا للعبودية، أو جذبهم بريق المال، وأسلموا أنفسهم وأوطانهم للذل والدمار. ويقف الشاعر ليتكلم بصراحة قد تجرح السامعين، الذين تغوص رؤوسهم في الرّمال، بينما تتكشّف ظهورهم للرّماة.
وتسيطر على الديوان عواطف الغضب والحزن واليأس والإشمئزاز والألم. فلو طالعنا عناوين القصائد لوجدنا كلمة (حزن) تتكرّر فيها مرات عديدة، وعند قراءة النصّوص نرى أبياتها تتدفّق بالحزن والغضب والتّشاؤم، ونلحظ أن كلمات الحزن والبكاء والانكسار والوجع والألم والغياب والشقاء والأحلام، تسيطر على معظم قصائده، وتفصح عمّا يعتمل في نفسه من عواطف. فالشاعر يرى واقعا قاتما، وذكريات لماضٍ لم يكن أجمل من الواقع، رغم أننا نغلفة بهالة من الذكريات والتنهّدات. ولا يرى الشاعر فجرا قريبا، ولا عهدا جديدا قادما من بين دياجير الظلمة. ويتألّم الشاعر لما يدور في هذا العالم الذي يراه برهافة نفس وعاطفة شاعر، فيتمنّى أن يغفو ليصحو على صباح أفضل. لكنّ سوداوية الأفكار هي التي تحكمه، وأكثر ما يؤلمه هو ضياع أحلامه وآماله واصطدامه بمرارة الواقع.
والشاعر يرى النّور الذي في نهاية النفق خافتا تتراقص فتيلته وتوشك على الانطفاء. لكنّه يحاول، ولو بيأس، أن يستحث الهمم للانطلاق من جديد:
“وأين من يمضي معي لنعيد صوغ الأغنيات
على وقع الوتر
في ظل خضراء الشجر” ص 8
وتظهر فسحة الأمل عنده ضعيفة باهتة، لكنها تبرز أحيانا في بعض القصائد:
“هذه المدينة المسمّاة فينا
القدس…
إن مات كلّ شيء واستراح
هي لا تموت” ص 119
والشاعر يكتب معظم قصائده بلغة الأنا، فهو يرى العالم ويحكم عليه من خلال نفسه. وتكشف قصائده عن نفس مضطربة قلقة متشظّية شاكّة، تتمنّى أن يقودها الشّكّ إلى القين، لكنّه يحطمها وينهكها. ويبقى الشاعر متشبّثا بأهداب اليقين رغم رياح الشك وعذابات الحيرة؛ فيلجأ إلى الخيال والأحلام الوردية ليتخطى الواقع، لكنّها لا تسعفه؛ إذ أن الأشواك تسبق الأزهار إلى يده التي يمدّها إليها فتدميها. وعندما تضطرب نفس الشاعر، لا يجد غير الشعر لينهض بها من كبوتها، فهو كالنّورس مكسور الجناح، لا يبقيه على بعض حياة إلا الذكريات والأحلام الدافئة. والشاعر يرى نفسه غريقا تلتهب نفسه وتستعر بنيران الشّكّ والعذاب، فينتظر الموت ليرفعه من بوتقة العذاب، ولا يرى طريقا للخروج من الحزن والألم، لأن الخروج لا يكون دون هزّات موجعة وآلام أخرى تتجدّد وتتجذّر.
“إذا كانت الدنيا ملبدة بأحزان القمر
فالبحر يغسلها، وبالموج الشديد
نام الصدى، واستسلمت آهاته
فلعلها تصحو غدا
إذا ما هزّها الوجع المجيد” ص 27
يستغرب الشاعر كيف يستطيع الإنسان الاستمرار بالحياة رغم الكآبة التي تعصف به، والموت الذي يحيط به، وكيف يستطيع أن يغزل من أحلامه وأشواقه وشهواته خيطا يعبر به دروب الحياة الوعرة وينسج به فرحا مصطنعا.
“هو ذا أنا،
ليل بلا قمر، بلا رؤيا، بلا حلم، بلا فلك يعاوده المدار” ص44
ويتوق الشاعر إلى براءة الطفولة وأحلامها، وإلى نقاء النفس والروح التي فقدها، ويتوق إلى حياة بسيطة بعيدة عن الأفكار المؤلمة.
“يا بحار الشوق عودي واغسلي الأفكار من
وجع الرّمال
في شواطئك النّبيلة” ص 58
يعلن الشاعر موقفه من الفاسدين والمتسلقين والمنافقين وأدعياء البطولة الكاذبين، ويرى نفسه مكبّلا لا يستطيع مواجهتهم؛ فيستسلم للشكّ في كل من هو حوله، فيشير بأصابع الاتهام لكل من يحيط به، فمن ظنّ فيه الخير والبراءة وجده غير ذلك، وكأن الشاعر يفقد ثقته في كلّ شيء، ويسيطر عليه سوء الظّن ليلقيه في أتون حزن جارف. يتجلّى هذا في قصيدة (لم يعد أحد بريئا) (ص83 – ص85) وهي قصيدة جميلة تتناص مع قصة يوسف عليه السلام، لكنّ استخدامه لرمزيّة يوسف، كان فيها إساءة وخروج عمّا هو مقبول.
وقصيدة (نهايات محرقة)، تلخّص سيرة الشاعر وطريقه الوعرة: فهو بدأ يشقّ طريق الحياة الصعب يحدوه الأمل بالقادم، ثمّ غدا يرى الدنيا على حقيقتها وتنتابه الحيرة، ثمّ اكتنفته اضطرابات النفس وبدأ يتجرّع آلام الحياة، فلجأ إلى القلم ليعبر فيه عما يعتمل في نفسه من شقاء، لكنّ هذا لم يُجدِ ولم يعيده إلى البراءة التي افتقدها.
ولا تخلو قصائده من بعض الفكاهة الممزوجة بالألم. تأمّل كيف يصوّر بلغة تهكّمية على لسان الدكتاتور، في قصيدة (خطبة الدكتاتور الأخيرة الموزونة جدا) خيبة الشعوب التي تصنع جلّاديها بنفسها.
“وقبل أن يقضي الشعب أوزاره لآخر مرة
يروي ليلته الحمراء لبادية الريح
ينهض كالفراشة حاملا منّي بقايا نطفة
لن تموت…” ص 150
ويستمرّ بهذا التهكّم في قصائده الأخيرة، التي يحاول فيها أن يرسم صورة منفرة للدنيا، وينعى انغماس الناس فيها دون أن يتفكّروا بمآلهم القريب، لا سيما العلاقات الجنسيّة، التي يصوّرها بصورة مقزّزة، فلا تلبث هذه الشهوة أن تخبو، ويكتشف الإنسان حينها، أن ما كان يسعى إليه ويحتلّ أفكاره وخياله، ما هو إلى سراب وشهوة زائفة تعافها الأنفس.
“كشيء تافه أشعر بالقرف الشديد
تتذوقني آلة من اللاشهوة للفجور
تختمر الأبجدية فكرة عفنة
تلتفّ عليّ بساقها العرجاء
كأني لست أعرج أو غريب الانبعاج” ص 157
لكن فراس حج محمد يوغل في وصف ذلك بطريقة تخدش حياء المتلقي وتجرح كرامة المرأة، فهو يتعمّد أن يوصل فكرته بشكل فجّ فاضح، فيهوي بكلّ الجمال الذي كان في قصائده السابقة إلى الحضيض، ويثير جدلا كان، بلا شكٍ، بغنى عنه، فحبذا لو ترفّع عنه، وطهّر ديوانه من هذا الإسفاف غير المبرّر.
رحلة القارئ في ديوان (ما يشبه الرّثاء) متعبة شاقّة، تعيد الإنسان إلى نفسه، تهزّ مشاعره، تأخذه إلى أعماق نفس الشاعر المرهفة المعذّبة، وتنكأ جروح قلبه الذي يرى هوان الأمّة ويحاول أن يغض الطرف عنه، ويعرّي له بعض الحقائق التي يرغب أن يسدل الستار عليها، ويتركه على عتبة جديدة، قد يختار أن يعبرها، أو يعود ليتستّر داخل قوقعته.
وقالت هدى عثمان أبو غوش:
قصائد بما يشبه الرّثاء، برائحة الموت والإنكسار،بطعم الرّحيل ،العذاب والجراح، ورائحة ثورة النفس الأمّارة للشهوات وفتنة النّساء، أشمّ في تلك القصائد عطر الحزن الذّي يخيّم على الشّاعر، وعطرا يخرج من أعماق وآهات العاطفة صارخا يبحث عن الدفء وهو يخشى تقدّم العمر وذبول القلب، فهنا تتجسّد الحالة النّفسيّة والعاطفيّة للشاعر الذّي جاوز سنّ الأربعين ،والذّي يبحث عن ذاته وملاذه، وحرمانه. والسّواد يخيّم على حروف القصائد، فالقصيدة سيئة السّمعة كما يقول الشّاعر، ويعبّر عن حالة عدم الإتّزان في مختارات من قصيدة “وأخيرا” فيها يختصر حالته فيقول:”وأبقى مثل علامة التّرقيم ذابلة ومحنيّة مثل قلبي مشكلة وعقلي قنبلة”.ولا ينسى الطفل السّوري إيلان في إحدى قصائده.
في هذا الدّيوان، تئن القصائد جريحة تنتظر الورود التّي تُحمل للوطن فلا تجد غير الضياع. كما في قصيدة “الغريب” ، ونجد انتفاضة الرّوح المعذّبة ، والعقل ثائر وماجن.
يسكب الشاعر مشاعره فوق الأوراق ويفضح علاقة الرجل غير الشرعيّة بالمرأة ، وعلاقته المتعددّة للمرأة، حيث يعبّر عن أسراره العاطفيّة، وهنا يقوم الشاعر بالمسّ بمشاعر القارئ في ثلاثة قصائد حين تجرأ باستخدام الألفاظ الجنسيّة دون مراعاة ردة فعل القارئ، فما الفائدة المرجوة من صور غير لائقة تخدش الحياء في تلك القصائد؟ وهنا تستوقفني قصيدة “اولئك المردة” حيث يقول” المثقفون منزعجون منّي، الآن سيطلقون كلاب كلامهم لتنبحني في المحافل كلّها”، أمّا أنا فأقول سيتحقق ذلك بسبب الألفاظ القاسيّة البذيئة وأنت الذّي جنيت على نفسك.
أكثر الشّاعر من استخدام كلمة “الرّيح” فقد حلّقت في سماء حروفه عشرين مرّة وأكثر. فالرّيح التّي ترافق مشاعر الشّاعر هي التيه والضياع الذّي يعاني منه الوطن، وهي الخلاص الذّي يبحث عنه في حياته العاطفيّة. وهي السّراب والعدم في عدم تحقيق رغباته.
يقول في إحدى القصائد:
“وتطعم شهوتي للرّيح
وتصلّي نظرتي في الرّيح
وتطحن قامتي كالرّيح.”
وقال محمد موسى عويسات:
جاء العنوان (ما يشبه الرّثاء) ليعبّر عن مضمون الدّيوان، فكان بحقّ اختيارا موفّقا، فلا تكاد تخلو قصيدة منه من رثاء أو ما يشبه الرّثاء، لا بل هو البكاء وأحيانا الصّراخ. والسّؤال الذي يبعثه العنوان هو ما الذي رثاه الشّاعر؟ أي ما القضايا التي بكاها الشّاعر في ديوانه؟ والحقّ أنّ الشاعر رثى أمورا كثيرة، يرثي الوطن، ويرثي القدس، ويرثي الثّقافة، يرثي حال الشّعر والنّقد والرواية، ويرثي حال الشّعب في تسلط الاحتلال عليه كما في قصيدة شيء عن الجنود، ولكنّ هذا الرّثاء أو ما يشبه الرّثاء جاء على صورة النّقد المجتمعيّ العامّ، ومنه النّقد الاجتماعيّ، فالسّخط والتبرّم والرّفض وغيرها هي السّلك الذي تنتظم فيه هذه القصائد، وقلّما تجد قصيدة تخلو منه، فمثلا يقول في قصيدة (ضدّ عليك): أنا يا وطن الأراجيف… ضدّ من شربوا بكأسك خمرة البلد الشفيفة… أنا ضدّ من لبسوا بعارك مخملا ظلّا… بآهات مخيفة”. وفي كلّ هذا يجعل الشّاعر من نفسه محورا لكلّ هذا النّقد، يقول في قصيدة (شيء عن الجنود): الجنود يغتصبونني… ويأخذون منّي لغتي… ويسرقون ملامح صوتي. إلى أن يقول: الجنود يغسلون دمي المدنّس بالشّظايا”. وتغلب على قصائد الشّاعر النّظرة السّوداويّة فهناك حشد عظيم من الألفاظ والعبارات البكائيّة الرّثائيّة الحزينة اليائسة: (عيون اليأس ملأى، وقفت سويعات الهباء، تفيض به المحارق، صحراؤنا عفراء تلفظنا، قولي له قد مات، غريبان هنا وهنالك، ينقلب العالم يمشي على رأس مشوّه، إلخ. وهكذا عبّر الشاعر بهذه اللغة عن نفس يختلجها ألم وحزن مكنونين، وحسبنا بعض العبارات التي تعبّر عن حالته النفسية إذ يقول في المقطع الرابع عشر من الجزء الموسوم بـ (أخيرا): ما في القلب أقسى من لغة القصائد … خائنة قصائدي هذه، إلى أن يقول: “خائنة دمائي التي تغطّيني… بقطعة منّي… وتستر نفسها بالتورية”. يقول في قصيدة الوقت مشبع بالثرثرة: “أنا لا أحبّ تتابع السنين… وأكره الرزنامة والأجندة … وتاريخ ميلادي وأعياد ميلاد الأصدقاء والقربى… وذكريات حبيبتي المبتعدة … وأكره يومين آخرين بعيدين قريبين… الأول من يناير والأخير من شهر ديسمبر… وأنسى طوال العام هذا المفترس الأكول… يقضمني يوما فيوما… ويجعلني محتاجا لمراجعة الطبيب أكثر… أكثر من أيّ عام مضى.”
والجانب الآخر في هذا الديون، الموحي بحالة نفسيّة تعتري الشاعر وتتجلّى ظاهرة للعيان، هو البوح الجنسيّ الجريء، فالديوان مغرق في تفاصيل تصلّ حدّا يمسّ بالذّوق السّليم، ويأباه الدّين، وتأباها الأعراف والقيم، وهذه تأخذ مساحة لا بأس بها من أشعاره في هذا الدّيوان، وتعدّ قصيدته ( وجع السّؤال… تعب الحقيقة) ص158 خير دليل عليها. ويقول في قصيدته (غير أمّي): “ثمّة امرأة غير أمّي… تفتّش في ملابسي الداخليّة عن أمارات النساء الأخريات… عن مصير الحبّة الزرقاء في جيبي … عن رائحة أنثويّة في الخلايا النائمة”. وهذا البوح له تفسيران: الأول أنّ الشّاعر يعبّر عن معاناة ذكوريّة، فيحاول تقيؤها عبر أشعاره، يصرح بهذا في قوله: “وتقلّ بعد قليل شهوتي… وشهوتي تأخذ بعدا افتراضيّا مريضا…. وأكون مضطرا وأنا أرى تجاعيد وجهي الأبيض وفي شعر رأسي وجسمي… وتساقط الشّعر عن ساقيّ وصدري… أشعر أنّني صرت أقرب للعدم”. وفي هذا السّياق نرى الشّاعر يحمل على النّساء، وينظر لهنّ نظرة شهوانيّة، فالمرأة في ديوانه موضع شهوة، وقد بدت الإساءة لهنّ بيّنة، والنّظرة لهنّ دونيّة، يقول في المقطع الخامس والعشرين من (وأخيرا) في حديثه عن لفظة (نساء) وفي تلاعب لغويّ ناجح: النّساء ليست جمعا مطلقا… مفردة لغويّة تخلو من المعنى… تكذب في دلالتها أحايين أخرى… النّون عارية… كأنّ النّهد في جوف حوت… والسّين مثل كناية من السّعف المجرّد… في الرّمل يابسة… أسقطت في البحر ثلاثة من أسنانها”. إلى أن يقول في الهمزة من لفظ نساء: تخلع نفسها وتعوم في بحر من الإغراء… تحمي نفسها من ضعفها الكونيّ… النّساء بلا عائلة”. ويقول في قصيدة (صفّ من النّسوان) مصوّرا المرأة كبيرة السّنّ في أبشع صورة: صفّ من النّسوة … مقطّشات الملابس مثل الحمام الهرم…. منفّشات الرّأس، والأذرع بالية، والجلد أجعد أصفر دون زغب طريّ. إلى أن يقول: “يحاولن احتمالا ميّتا في افترار الابتسام… فتصيب الكشرة أفواههنّ الدّردة… تفوح منهنّ كؤوس السّهرة بعد منتصف السّكر… يمتعض البعوض من غثاء أقلقه… صفّ من النّسوان يتقنّ كلّما مرّت ظلال الفحل فصول تلك الثّرثرة… تصمت عاجزة شهواتهنّ العجِزة”. فالشّاعر في أغلب حديثه عن المرأة لم يحسن الحديث عن الحبّ والمشاعر والخوالج العاطفيّة، بقدر ما أجاد وأكثر من الحديث عن الشّهوة، وهذه بحقّ أفرغت قصائده المتألّقة من النّاحية الفنّيّة واللغويّة، من المضمون الإنسانيّ الراقيّ والمعنى السّامي. فالحديث الشّهواني وهذه الإباحيّة تثير سؤالا، أو تردّنا إلى قضيّة: ما المقصود من الأدب إذا لم يكن مأدبة للتربيّة النفسيّة الرّاقية، والذوق الفطريّ السّليم؟
أمّا التفسير الثاني لمثل هذا البوح الصّريح، فقد يكون بقصد لفت النّظر للشّاعر وشعره من خلال ضجيج تثيره في المحافل الأدبيّة والأوساط النقديّة، وهذه حالة نفسيّة أخرى غير الأولى، وهي ظاهرة ملحوظة في عصرنا، وفي عصور خلت، فلمّا أراد بشار بن برد أن يطلب الشّهرة وأخذ موقع في مربد البصرة، هجا جريرا. يقول شاعرنا في المقطع الأول من (وأخيرا): “وقصيدة عمياء تخبط كلّ باب … تشجّ رأس الهاربين من الخراب إلى الخراب” ويقول في قصيدة (اسم في المذكّرة): جمعت شتاتي في آخر المشوار… رقما تربّع في مهاوي الذّاكرة… رسمت نجومي في سماء مكفهرّة… تلبّدت أسماؤها التي نافت عن العشرين… لأكون ذيلا في محطّة … نعت لي نفسها بمرور قافلة… من العرسان كلّهم لم يعجبوها”. وإذا ما جئنا إلى اللغة والصّورة، وجدنا الشّاعر يبدع في معظم قصائده، وبخاصّة فيما يتعلّق بالنّدب والبكاء والرّثاء ونفث الحسرات، وفيما يتعلّق بالحديث عن الشّهوة والصّراخ الجنسيّ، ولكنّني لم أره أفلح كثيرا في جانبيّ اللغة والصورة لمّا تناول بعض القضايا، من مثل النّقد للحالة الأدبيّة الشعريّة والنّقديّة والثقافيّة، ففي قصيدة (أولئك المردة) نجده يميل إلى المباشرة ويتحوّل شعره إلى سباب بلغة بسيطة وصور فنّيّة باهتة، يقول: ” المثقفون يحيون في غابة صنعوها بأيديهم… وصاروا ذئابها… كلّ شيء ينهشون… الوردة والقصيدة” إلى: ” المثقّفون مرض عضال… مزدحمون في المقهى… لا يعرفون الحبّ”. وقد تجلّى هذا الضعف في حديثه عن مدينة القدس في قصيدته (المدينة لا تموت)، فلا أرى الشاعر أجاد الحديث عن المدينة، وبدا على قصيدته التكلّف، وكانت خالية من العاطفة، والمتفكّر فيها لا يجدها أكثر من موضوع تعبير، بل بدا التكلّف في صورة معقّدة جاء بها:” تلك المدينة… مذ كانت قرنفلة تعيش بنفسها… يتسلّق التاريخ ظلّها الأبديّ كلّما انتبه النّهار… لحجارة من بابها الغربيّ… في جبل المكبّر” … ثمّ يأتي في أسلوب تقريريّ ليقول: ” تلك المدينة المسمّاة مجازا القدس… روح الله…. معبر نحو السماء الثامنة… ماء الله والنّجوى الإلهيّة” فهل هذه صورة يستسيغها الذّوق الشّعريّ السّليم؟! وممّا يؤخذ على الشّاعر في هذا الدّيوان أنّه لم يحسن التّوظيف التراثيّ، وبخاصّة في الجانب الدّينيّ، وأقف هنا عند توظيفه لقصّة يوسف في قصيدة ( لم يعد أحد بريء) يقول: ” رأيت دماء يوسف نازفة… وقميصه المقدود من قُبل… ومن دُبُر جريح… ويوسف لم يكن في الجبّ” ويقول: ” رأيت يوسف في الشّوارع… يذرع الحانات واحدة فواحدة… ليشرب نخب ذئب وحمل”، فهو لم يأت من قصّة يوسف بحدث حقيقيّ يوظّف ليعبّر عن واقع أو يؤخذ منه درس، أو يصنع منه صورة جماليّة، بل عمد إلى القصّة وقلبها رأسًا على عقب دون أن يلتفت أنّه يتحدث عن نبيّ الله يوسف. فوصف يوسف يدور على الخمّارات ورجل هوى وظالم وجاهل وغير ذلك أمر يتنافى مع الدّين. وربّما يفسّر هذا الأمر بما فسّر به إغراقه في البوح الجنسيّ، ينشد به الضّجيج الذي ربّما يرفعه أو يخفضه. ويبقى السؤال الملحّ في كلّ ما يكتب من الألوان الأدبيّة هو: لمن نكتب؟. صحيح أنّ الكاتب يعبّر عن نفسه وعن تجربته وشعوره ورؤيته الخاصّة، ولكنّه في نهاية المطاف يقدّم كلّ هذا للنّاس، في الشّكل واللغة والمضمون. فالإغراق في الرّمزيّة، أو جلب الاستعارة الغريبة المركّبة، أوالإغراق في الخيال إلى حدّ الانغلاق، أوالخروج عن الذّوق العامّ، أو المسّ بالقيم الدينيّة، وتوظيفها مشوّهة، أو حشد الألفاظ الغريبة، كلّ هذا يفقد النّصّ قيمته، ولا يخرجه من محبس دفتيّ الكتاب. ولا يعذر كاتب أو شاعر في أنّه مسبوق إلى مثل هذه الأمور، فقد قال بشّار بن برد أشعارا كثيرة، كان بها فحلا من فحول شعراء مطلع العصر العباسيّ، وقد خالطها كثير من الغثّ في مضمونه، وقد فرضت غثاثة المضمون غثاثة في اللغة، فكانت أشعاره المقدّمة لطلاب العربيّة منتقاة، والمتروك منها متروك لاستكشاف شخصيّة بشار. وعلى أيّة حال لا بدّ أن يكون نتاجنا الأدبيّ ملتزما، أي ذا قضيّة جليلة نافعة توجّه الناس والأجيال، ولا بدّ أن يبتعد أدب عن البكاء والجلد والتفريغ النفسيّ.
وقالت دولت الجنيدي:
تعودنا في ندوتنا الراقية ندوة اليوم السابع أن نتقبل الرأي والرأي الآخر مهما اختلفت الآراء في مناقشة أي كتاب يوضع بين أيدينا لنقرأه ونبدي راينا فيما نقرأ .
واليوم بين أيدينا ديوان الشاعر فراس حج محمد ( ما يستحق الرثاء ) وبما ان كل كاتب له الحرية فيما يكتب فكذلك للقارئ الحرية في إبداء رايه فيما يراه مناسبا من وجهة نظره .
ولقد اطلعت على آراء عدد لا بأس به من زملائي في الندوة لأتجنب تكرار ما كتبوا، ورأيت أن معظم الآراء تتشابه مع ما كنت أود كتابته، فأراحوني من عناء الكتابة المستفيضة .
فديوان ما يستحق الرثاء هو الرثاء لكل ما حولنا من قيم وا
أخلاق وتطلعات ومن نهج حياة .
فالشاعر يعبر عن مكنونات قلبه ومعاناته وما يفتقده من الاستقرار الداخلي والروحي، وذلك ظاهر جدا في أشعاره. وكل كاتب أو شاعر حر فيما يكتب على أن لا يكون في ما كتبه ما يخدش الحياء للمتلقي ويجرح مشاعر القراء، خاصة من النساء اللواتي لم ينصفهن في أشعاره بل يجني عليهن.وللجميع الحق في رفض ما تناوله الكتاب في هذا المجال .
وأنا أعلم أن شعراء قبله قد تناولوا مواضيع مشابهة ، وهم أحرار في ما كتبوا، ولكن ليس معنى ذلك أنهم محقون فيما كتبوا.
ونحن في هذا الجزء المقدس من العالم لنا عاداتنا وتقاليدنا وأخلاقنا التي ترفض هذا النوع من التوصيف. فبعض الناس من العامة يتكلمون بكلمات تخدش الحياء بكل أريحية والبعض الآخر تتأذى أنفسهم وحتى آذانهم من سماع ذلك.
ولست أدري ماذا يستفيد الكاتب من زج الحياة الجنسية في أشعاره ومواضيع لو خلت منها لكان أفضل بكثير؛ لأن أشعاره جيدة ومعبرة عن روح إنسانية معذبة رغم الرمزية والغموض الذي يكتنفها. وأنا شخصيا لا أحبذها ولا أحبها، ولكن الكاتب أو الشاعر يستطيع أن يلجأ للرمزية إذا اضطر لذلك بسبب الظروف.
وقالت أمل أبو ماضي:
تركت وحدي مع قصائد الشاعر الفلسطيني المتشائم فراس حج محمد، أفزعني ما قرأت، وأفجعتني تلك المشاعر السوداوية التي تغوص في عتمة الروح، لا احد يحتاجها، حسب معرفتي المتواضعة في قرض الشعر، الشعر ينظم كعقد من اللؤلؤ للترويح عن النفس، أو يسكب مسشاعر فياضة تفيض عن الروح فتترجم الى كلمات شعرية غاية في الأناقة، غاية في الرقة. رقراقة كماء نهر جار عذب.
أمّا شاعرنا فراس حج فشعره كجواد امرئ القيس يتخبط في صحراء العرب؛ والذي وصفه الشّاعر العربي القديم بقوله:
مكر مفر مقبل مدبر معا كجلمود صخر حطه السيل من عل
أمّا أفكار الشاعر فمحبوسة في سجن مظلم لا تطلع عليها شمس ولا ينفذ إليها هواء.
بلا منازع للكاتب لغته الخاصة، انتقى الألفاظ بعناية فائقة، وصبّها في قلب القارئ بلا رحمة وبتوليفة أدبية تشاؤمية.
وحدث ولا حرج عن الكم الهائل من المفردات النارية، وليست نورانية تنير الطريق أو تبدّد العتمة.
والشاعر يجمع شتات أفكاره وهواجسه في هذا التجمع من الكلمات الرمزية مرة والغامضة أحيانا..لا أصدق أن هذا شعر.
نعم باح الشاعر بمكنونات نفسه، ولكن ليس كل الكلام مباح هناك حدود من أخلاق ومراقبة النفس .
الكاتب لا ريب فريد في قلمه، إلا أن مداد قلمه يقطر ظلاما دامسا بغلف القلوب.
للأسف لم يسلم من لسانه أيّ مقدس حتى القدس لا يعترف بأنها مقدسة.
رافقني سؤال طوال قفزي فوق سطور القصائد..لمن يكتب هذا الشاعر؟ قد يبدو للبعض أن سطوره جريئة، ولكنها من منظوري جرأة غير أدبية، وأقل ما توصف به أنها سقيمه أحيانا.
أطلب من الشاعر أن يرأف بقلوبنا، وأن يحترم عقولنا، وأن يتلطف بأرواحنا عندما يحمل قلمه في المرة القادمة.