القدس: 16-6-2022. من ديمة جمعة السمان:
ناقشت ندوة اليوم السابع الثّقافيّة المقدسيّة ديوان “قدسيّ الهوى” لخولة أحمد الإمام. صدر الديوان عن دار إلياحور للنّشر والتّوزيع في القدس، ويقع في 159 صفحة من الحجم الصّغير.
افتتحت الأمسية مديرة النّدوة ديمة جمعة السمان فقالت:
عنوان موفق جميل، جاءت بعض نصوصه تشكو لوعة وطن مسلوب، ومدينة منتهكة دون مراعاة لقدسيتها، تسكن حجرات قلب الكاتبة المقهور، كما هو حال كل مقدسي أصيل.
خمسون نصّا جمعت بين النّثر والقصائد المنثورة، منها الموزون، ومنها ما تمرّد على الوزن؛ ليمرّر رسائل ضاق بها صدر الكاتبة، فكان لا بدّ من خروجها ولو كانت دون ضوابط، ومع ذلك أطلقت ” إمام” على كتابها اسم “ديوان شعر”.
وهنا أتساءل، هل حقا ما نناقشه اليوم هو ديوان شعر؟
لا شكّ أنّ النّصوص معبّرة، فيها صور أدبيّة في غاية الجمال، والعناوين الداخلية للنّصوص موفّقة جدا ومشوّقة، من الواضح أن اختيارها تمّ بعناية.
وعلى الرّغم من الحزن الذي طغى على النّصوص، إلا أنّ الكاتبة فتحت نافذة من الأمل أدخلت بصيصا من النّور إلى القلوب. رأيت فيها القوة والإرادة والإصرار، فلا حياة مع اليأس ولا يأس مع الحياة.
رأيت جمال مدينة القدس بكل ما فيها من خلال نصوص تغزّلت بزهرة المدائن.
أمّا الاهداء فقد جاء رقيقا ناعما جميلا أيضا، رأيت باقة من الشكر والامتنان تطلّ برأسها بين الحروف، موجَّهة لمن كان له الفضل على الكاتبة. إذ أهدت خولة إمام نصوصَها لوالديها رحمهما الله.
جاء في الاهداء:
” إلى من روى عروقي بحبّ الشّعر وعلّمني حروفَه. إلى من كان الأمانُ على راحتيه. إلى من كانت البسمة تُرسَم على وجهه حين يرى اسمَه في الصّحيفة، عندما أنشر كلمات متقاطعة أو حروفا بسيطة. الآن حان الوقت أن يرافقني اسمُك في أولى خطواتي على طريق الشّعر.
إلى من رافقتني خطواتي وأنارت لي شعلةَ الحياة والنّجاح.. إلى أمّي.
هو ذا قطافُ كلماتي أهديهِ إلى والديّ رحمهما الله.. وأسكنهما فسيح جنانه.
“نصوص” جميلة كان فيها الحلم سيّد الموقف، إذ أن الحياة دون حلم لا طعم لها ولا لون.
وقال الدّكتور عزالدين أبو ميزر:
قبل عدة أشهر من الآن ناقشنا كتاب ( اشواق تشرين) ل د.روز شعبان واختلف الحاضرون في تسمية نصوصه أهي قصائد شعرية؟ وماذا نسمي من يكتب مثل هكذا نصوص؟ أهو كاتب أم أديب أم شاعر؟ وكانت مداخلتي أن هذه النصوص هي مما سمي بالشعر الحر أو قصائد النثر، وبينت آنذاك من الكاتب ومن الأديب ومن الشاعر وخصائص كل منهم؟ وأن الكاتب لا يمكنه أن يكون شاعرا، وأن الأديب قد يصبح شاعرا إذا توفرت الموهبة وصقلها، لأن لديه الخامة الأدبية، وأمّا الشاعر فمن السهل أن يكون أديبا.
واليوم نحن أمام كتاب آخر شبيه بذاك كتب على غلافه:” ديوان قدسيّ الهوى” للشاعرة: خولة أحمد إمام، وستكون مداخلتي وتعليقي، ولا أدعي أنها دراسة متكاملة، ولكنها أكثر قليلا من مداخلة وتعليق.
أوّلا: على كلمة ديوان وعن الشعر عامة ومسماه وخصائصه، وما يمكن أن نسمي هذا النوع من الكتابة؟ والكثيرون يكتبون الأنواع المختلفة من النثر، وبعضها يكون على شكل قصائد التفعيلة، فيظنه البعض شعرا وما هو بشعر، والقليل القليل يكتب الشعر على أصوله، ولشرح ذلك أقول:
بعد قراءة متمعنة لما جادت به قريحة كاتبتنا الرائعة: خولة أحمد إمام وما خطه قلمها تحت عنوان: (ديوان قدسي الهوى).
فهل نستطيع أن نطلق عليه إسم ديوان؟ ونطلق على ما ضمه هذا الديوان أنه قصائد شعرية؟
رجوعا بنا إلى تعريف الشعر أوّلا، ووضع القواعد التي يقوم عليها الشعر بتعريفه وقواعده حسب ما عرّفه أهل الخبرة والمعرفة والاختصاص -ولست أنا واحدا منهم- ونقيس ما بين أيدينا عليه، فنرى هل هو ينطبق على التعريف، وعلى القواعد فنقر وبكل يقين أن ما سطر على غلاف الكتاب هو صحيح ولا غبار عليه، وينطبق الوصف عليه حقا أم لا.
تعريف الشعر:
إن الشعر من الفنون العربية الأولى عند العرب من قديم العصور، حتى أصبح وثيقة يُتَعرّف من خلاله على أوضاعهم ومعيشتهم وثقافتهم وأحوالهم، ولذلك أطلقوا عليه إسم : (ديوان العرب). بالعموم ثم أصبح الاسم يطلق على مجموع قصائد كل شاعر باسمه فيقال : ديوان الشاعر فلان، وذلك من خلال استعمال الوزن الشعري والقافية المناسبة لأبياته الشعرية وأشكالهاالبلاغية من استعارة وتشبيه وكناية وخيال إلخ.
ولذلك عرفوا الشعر بأنه الكلام الموزون المقفى، ويُقصد منه فكرةٌ عامة رئيسة، وتحمل معان لغوية وموسيقى شعرية خاصة، تؤثر في الإنسان حال قراءته أو سماعه لها.
وأي كلام لا يحتوي على الوزن الشعري ولو اتصف بباقي الصفات لا يصنف ضمن الشعر بل يسمى نثرا.
وتدرج الشعر عبر العصور إلى أن وصل إلى ما يسمى بِ( الشعر الحديث ) بعد أن مرّ بمرحلة الموشحات الأندلسية.
وأول رواده كانت الشاعرة والاديبة العراقية : نازك الملائكة وذلك في سبعينات القرن العشرين، في كتابها (قضايا الشعر المعاصر).وأطلقت عليه خطأ إسم ( الشعر الحر). وهو مؤسس على التفعيلة، وهو شعر حديث.
وقد تراجعت عن هذه التسمية بعد ذاك.
وانضم إليها عبد الوهاب البياتي، وتلاه صلاح عبد الصبور واحمد عبد المعطي حجازي ونزار قباني وخليل حاوي وفدوى طوقان وأدونيس الخ.
عناصر الشعر :
العاطفة: من فرح وحزن وحب وغضب الخ.
الفكرة: وهي العمل الفكري الذي تقوم عليه القصيدة.
الخيال: وهو ما لا يرتبط بالواقع ويستعين به الشاعر لإيجاد صور فنية شعرية تضيف طابعا خاصا للقصيدة.
الأسلوب: لكل شاعر أسلوبه الخاص في كتابة قصائده، مما يجعلها مميزة عن قصائد غيره، حتى أن المتمرس يستطيع التمييز ومعرفة صاحب القصيدة.
النظم: وهو أسلوب جمع الألفاظ الشعرية والمعاني المقصودة، وكلما كان النظم صحيحا كان أكثر بلاغة وتأثيرا.
أغراض الشعر:
تنوعت أغراض الشعر وستبقى تتنوع مع مرور الأيام شكلا وموضوعا.
وحدة الوزن والقافية.
بحور الشعر:
هي أنظمة إيقاعية تعتمد التفعيلات الشعرية.
الفرق بين البحر والوزن:
البحر قد يُقسّم ويُجزّأ إلى مجموعة من أجزاء الوزن الشعري، بحيث يمثل كل جزء من هذه الأجزاء المقسّمة وزنا خاصا مستقلا في حد ذاته.
والتامّ منه: ما استوفي كل تفعيلات بحره.
وصولا إلى الشعر الحديث، الذي اعتمد التفعيلة أو مجزوء البحر أومنهوكه، وتخلص من عبء القافية ووحدة البيت من صدر وعجز.
وصار يعرف بشعر التفعيلة، وهو موزون وتسكين أواخر بعض الكلمات حفاظا على الوزن والموسيقى. مع الأبقاء على باقي مقومات الشعر العمودي من بديع وخيال وكناية وحسن انتقاء الكلمات والدلالات والبيان.
وهناك نوع آخر على سبيل المثال لا الحصر: هو الرباعيات والخماسيات.
وأخيرا وبعد شعر التفعيلة وصلنا إلى ما أطلقوا عليه: (الشعر الحر). والذي نحن بصدده اليوم مع كاتبتنا الفاضلة خولة، والذي تخلص من الوزن والتفعيلة والقافية، وبقي يكتب على شكل قصيدة التفعيلة التي أيضا أخذت شكلها تقليدا لترجمات المترجمين العرب من الشعراء الأجانب.
وما هو بشعر ولا ينطبق على أي نوع من أنواع الشعر، وقد سُمّي شعرا ظلما وعدوانا (وكثير من كبار الشعراء كالجواهري ) رحمه الله كان لا يعترف به، و (أدونيس ) الذي يصر على أنه نثر ويجب أن يكتب على شكل فقرات نثرية، لا على شكل شعر التفعيلة. وهو في حقيقته نثر جميل ورائع وبديع، ويعبر عن كاتبه بصدق وشفافية، ولا ينقص من قيمته الأدبية كونه نثرا.
فما التأنيث لاسم الشمس عيبٌ
ولا التذكير فخر للهلالِ
وعودة إلى كاتبتنا الموهوبة في إصدارها :
( قدسيّ الهوى )
التي أنا مثلها قدسي الهوى وربما أكثر قليلا وقد قلت في ذلك:
كل امرىءٍ وله روح يعيش بها
أمّا أنا فلروحي توأم ثاني
القدس توأم روحي من سواي له
روحٌ كروحي وعنوانٌ كعنواني
وقد أسميت ديواني :
ب (توأم الروح).
إن بين دفتي ما باحت به الكاتبة وسطرته حروفا وكلمات على صفحات كتابها الكثير الكثير من صدق العاطفة، وروعة وحسن اختيار وانتقاء مجمل مفرداتها، حاملة إياها على أجنحة الخيال الجامح أحيانا وواقعية تدمي القلوب بصدقها في أحيان أخرى، مزينة بكلمات أحسنت اختيار معانيها ببديع اللغة والذوق الرفيع مما رفع من قيمة العمل وأغناه.
ولن أبخس الكاتبة حقها، ففي ما كتبته كان هناك أبيات شعرية موزونة ومقفاة لا تكتمل كقصائد، إذ يضيع الوزن بعد ذلك، وتعود الكاتبة إلى الحرية التى فضلتها عن قيود الوزن والقافية، والتي أجدها سجعا أقحم إقحاما في كثير من المواضع.
والذي يتقن كتابة الشعر يعرف معنى ما أقول.
وأستدل على أشياء مما ذكرتها بقصيدتها (امراة أنا)
تقول في مقطع منها :
(امرأة أنا بيدي القصيدة
بيوتها نثر، وحروفها شذرات
من نفحات العصور
أبجديتي صرح الحضور
وعبيري مسك وبخور)
وكأنها تقول لنفسها ما قلته أنا فيما كتبت.
ولولا أنني أطلت لجئت بأمثلة على ذلك فيطول المقال والمقام.
وقالت هدى عثمان أبو غوش:
“قدسي الهوى”هو عنوان الدّيوان الذي يوحي بمضمونه، أي في تطرق الكاتبة إلى حبها للقدس، وعلاقتها بها، والعنوان يحمل إحدى القصائد في الدّيوان.
“قدسي الهوى” يمكن اعتباره مجموعة قصائد نثرية خالية من الوزن أو نصوص نثرية تحمل الشاعرية والصور الفنية.
عبّرت الكاتبة في هذا الدّيوان عن المواضيع الوطنية، خاصة عن القدس ومدى ارتباط مشاعرها المتينة بها، وقد انتقدت العرب الذين خانوها والتزموا الصمت. تقول”ما خطب العرب وهمتهم، أين الأمجاد وعزتهم، أين الأفلاك بأمتهم”.
وتقول في الصمت “حتى متى نلتحف الصمت قسرا؟ولا يحنو علينا سوى قلب التراب”.
وتطرقت إلى شعب الخيام،والحنين إلى الماضي، إلى سنوات قبل النكبة والنكسة؛ لتؤكد وجود الفلسطيني وحنينه لبلاده، فتصور لنا تراثه.
عزّزت الكاتبة من صمود المرأة وصورت احتياجها لآدم، وعبرت عن الطفولة المسلوبة، كما عبرت أيضا بكلماتها عن حالة القلق والخوف، الألم والمواجع التي أصابتها وأصابت الوطن، ونجد في قصائدها البحث عن الأمن والاستقرار، وانتظار الخلاص من العذاب.
ورغم ملامح الحزن والقهر إلاّ أنّ الكاتبة تتمسك بشعاع الأمل، فتخاطب القدس وتواسيها وتعزز من صبرها.
تقول:”رغم القيد أقمار صبركٖ لا بدّ يوما تعلو رغم القيد”. وفي قصيدة أُخرى تقول”لم تزل هنالك في جعبتها بضع حروف على قيد الحياة فيها الأمل”،”سيزول عتم القهر حتما، لن يدوم وستضحكين”
وظّفت الكاتبة مفردات الطبيعة للتعبير عن الحالة النفسية الخاصة بها وعلاقتها بها وعن الوطن.
“وجه الماء يحاكيني
ضوع الأزهار يناغيني
نسمة تشرين تهاديني”.
وقد ذكرت الأشجار كالصفصاف واللبلاب، والياسمينة، الأقحوان، الزنابق الزيزفونة، وذكرت الخريف والسحاب وغيرها.
غلبت العاطفة الحزينة على معظم الديوان بكثافة، لذا نلاحظ استخدام الكاتبة للكثير من المفردات والعبارات التي تدلّ على الحزن والقلق والخوف، منها على سبيل المثال:
(رميم الحزن، كسرة أمل، تجاعيد حلم عميقة. غدوت طيفا بلا نبض، أقضم رغيف الهمّ، لا أمتلك إلاّ صلاة، وأفقت على هزيم الخوف، عذاب،…الخ)وتصل ذروة التعبير عن الألم في الصورة المؤلمة”أمّاه انذري صوما حتى يبلغ القهر الفطام”.
استخدمت الكاتبة تكرار الخريف والحزن في عدة قصائد لتصور حجم المعاناة.
استخدمت المناداة للتعبير عن احتياجها للأمن والرّاحة.(يا صبوة الورد، يا صرخة الرّيح، يا حيرة الوجد، يا ملح الجراح).
وظّفت فعل الأمر للتعبيرعمّا يدور في النفس من ألم كما في قصيدة “كن كالصقيع”.
استخدمت أُسلوب الوصف التصويري في بثّ أرشيف الذكريات قبل الاحتلال في “بقايا ذكريات” لتجسيد جمال ارتباط الفلسطيني بأرضه في ذهابه للحقل، وحنينه ووصيته لأبنائه في حمل مفتاح العودة.
حملت بعض القصائد الأمنيات والأحلام والتساؤلات أملا في تغيير الحالة البائسة التي تمر فيها القدس وأيضا حالتها.
لقد ابتدأت القصائد وأنهتها بتنصيص لا حاجة له، ربما هو خطأ مطبعي.
وقالت د. روز اليوسف شعبان:
تطرّقت الشاعرة في ديوانها إلى عدّة مواضيع منها: القدس، الاغتراب، القهر ومعاناة الشعب الفلسطينيّ، الضياع، المنفى، حلم العودة، فقدان الثقة بالعرب والأمل بتغيّر الأحوال إلى الأفضل.
على أنّ الثيمة البارزة في الديوان هي ثيمة الاغتراب والضياع. وقد عبّرت الشاعرة عنها في عدّة قصائد مثل: “بلا عنوان”، “هذيان حرف”، “قدسيّ الهوى”، “جذور”، “بقايا ذكريات”، “علامات فارقة”، “تمتمات حرف”، “ماذا لو”، “على جناح فراشة”، “على ربوة الحلم”.
في جميع النصوص المذكورة أعلاه تكرّرت ثيمة الضياع والاغتراب، ولعلّ من الضرورة بمكان، توضيح مصطلح الاغتراب .
معنى الاغتراب في العصر الحديث لا يختلف عن معناه في العصور القديمة؛ إذ يشير الشقيرات إلى أنّ مفهوم الاغتراب حديثًا يحتوي على عدّة مضامين منها: الاغتراب بمعنى الانفصال: يبرز هذا المضمون في كتابات هيجل تبعًا لمفهومه للكَوْن بأنّه مكوَّن من أجزاء منفصلة ومتناقضة ومتفاعلة، وهي متكاملة في الوقت نفسه؛
- الاغتراب بمعنى الانتقال: ورد هذا المضمون في البحوث التاريخيّة الإنجليزيّة، حيث كان يُقصد به نَبْذ حقوق الملكيّة المتعلّقة بأحد الأفراد، أو مصادرتها، أو نقلها من ذلك الفرد إلى شخص آخر؛
- انعدام القدرة والسلطة: برز هذا المضمون في نظرة ماركس لمفهوم “الاغتراب”، وقد لوحظ أنّ معنى “العجز” (Powerlessness) وعدم القدرة أو الاستطاعة هو أكثر المعاني تكرارًا في البحوث المعنيّة بموضوع الاغتراب؛
- انعدام المغزى: يعني ضياع المغزى عند الفرد؛ إذ يتطلّع الفرد إلى تحقيق غاية ملموسة.
- تلاشي المعايير: يُقصد بهذا التلاشي أنّ المجتمع الذي بلغ هذه المرحلة يفتقر إلى المعايير الاجتماعيّة المطلوبة لضبط سلوك الأفراد، أو أنّ معاييره التي كانت تتمتّع باحترام أعضائه لم تعُد تستأثر بذلك الاهتمام والاحترام، الأمر الذي يفقدها السيطرة على السلوك؛
- العزلة: أكثر ما يُستخدم هذا المصطلح ضمن مفهوم “الاغتراب” في وصف وتحليل دور المفكّر أو المثقّف الذي يغلب عليه الشعور بالتجرّد وعدم الاندماج النفسانيّ والفكريّ مع المقاييس الشعبيّة في المجتمع. (الشقيرات، 1987، ص. 13-14).)
إنّ الإنسان، كما يراه وطفة (1998)، هو كينونة جوهرها العقل والحريّة والعمل والانتماء، وكلّ ما من شأنه أن يمسّ هذه الأبعاد الأساسيّة لجوهر الشخصيّة بضرر ما فهو يدفع الشخصيّة إلى حالة اغتراب واستلاب. الاغتراب في حدود ما ينظر إليه وطفة هو الوضعيّة التي ينال فيها القهر والتسلُّط والعبوديّة من جوهر الإنسان، وهو الحالة التي تتعرّض فيها إرادة الإنسان أو عقله إلى الاغتصاب والقهر والاعتداء والتشويه..[1]
في نص” بلا عنوان“، تعبّر الشاعرة عن ضياع الطيور التي ترمز إلى ضياع الانسان، ثمّ تتحدّث عن نفسها التائهة بلا بوصلة” على نافذة الغيوم اليتيمة في لوحة الغياب دوّنت تواقيعها الطيور ومضت أسرابًا في سحيق الاغتراب” ص 7 ” ومضيت بلا بوصلة كنورس اعتاد ارتياد شواطئ العمر في حلّة الترحال”. ص 8. وفي نص “هذيان حرف” تتحدّث عن الاغتراب وما يسببه من ألم وقهر:” أه لو كان بإمكاني أن أمسح دمعة مغترب،
أه لو كان بإمكاني أن أهدي باقات الفرح لحديقة عمر منسيّ
لباب الدار المنتحب مذ غادر عنه الأحباب”. ص 15.
وفي نصّ” قدسيّ الهوى” يؤرّق الشاعرة صمت العرب وتجاهاهم لقضيّة شعبها فتشعر باغتراب تجاههم وابتعادهم عنها”
ضاعت فلسطين وتلتها الشام وعراق ضاعت
مسرانا يبكي في أسره..”ص 27.
ثم تستشهد بما غنته فيروز ” ما عاد يقال” أجراس العودة فلتقرع” والأقصى ما عاد العنوان، ثمّ تحاطب درويش قائلة له: “درويش لا تحلم بالأوطان فلقد ضاع الإنسان 28. وفي نصّ “جذور“، تتحدّث الشاعرة عن اقتلاع الفلسطيني من جذوره ووطنه، واغترابه في العيش في المخيّم والوعود الكاذبة بالعودة إلى الوطن:” قالوا ستعود غدًا والوعد ما زال يراودني كنور شمعة تخبو في الظلام”. ص 58. وفي قصيدة ” بقايا ذكريات” تختصر قصّة وتاريخ الشعب الفلسطينيّ في سرديّة مؤثّرة، فتصف كيف كان يعيش في هدوء وسكينة، يلتصق بالأرض بزعترها وزيتها وخبز طابونها، عودة الأب من الحقل، ثوب الجدّة المهترئ، الجد الذي لم يعد ومفتاح البيت الذي يسلّمه الأب لابنه ويوصيه حين يعود بزيارة البيت وقراءة الفاتحة وبعض السور عن روح والده:” هذا مفتاح بيتي يا ولدي
أمانة لديك إن متُّ أن تبقيه لديك
وإن عدتَ يومًا إلى حيّنا
أن تفتح بيتي تصلّي الفجر
وتقرأ لروحي الفاتحة وبعض السور”. ص 68.
وفي قصيدة “ علامات فارقة“ تتحدّث الشاعرة أيضًا عن الضياع والاغتراب:” في أرضي أنا منسيٌّ كنصّ ما له عنوان”. ص 76. وتعبّر الشاعرة عن هذا الضياع بقولها:” أنا من يبحث عن علامة فارقة ترشدني أني بخير أنني ما زلت حيًّا أم غدا هذا محال؟”.ص 78.
في نصّها “تمتمات حرف” تذكر أيضًا الخوف والضياع:” أخاف أن أتوه
أن تظلّ مراكبي من بعيد للحلم الندى
رغم أنّات المدى.
من للأقحوان إذا بكى من غربة الوجد السليب؟
من للسنابل إذا اكتوت من عصف القهر المغير على الوجيب؟ “. ص 80.
وفي نصّ “ماذا لو” تذكر ايضًا الضياع وأمنيات ليتها تعود:” ماذا لو غادرت عن أيامنا الثكلى كلّ ألوان الدمار والحصار؟
وهل يا ترى ستعود نجمة وفراشة؟
صرخت أين أنا؟ من أنا؟ إلى متى؟
تلاشت من جفني أسراب السلام”. ص 85.
وفي نصّ” على جناح فراشة” تذكر الضياع فتقول:” يمّمت صوب شطري المنسيّ في قلب المدينة الغافي
على رصيف التاريخ
في رحلة البحث عني هناك
لم أجدني…
هنا بقايا ذاكرتي”. ص 96.
حتّى المرايا أنكرتني
ما زلت أسأل عني أين أنا؟
لا المكان يعرفني لا الزمان يذكرني أين أنا؟
وجدتني في مدارات الضياع
كنجم يتلاشى كالهباء
حينها أدركت أني بلا هويّة
كطيف بلا أثر
وسط الزحام قد تاه منّي” ص 98-99.
وفي نصّ ” على ربوة الحلم” تقول عن الضياع:” أهٍ من عمر طواني كما التيّار!
ما زلت أبحث عن شاطئ ترسو عليه حكايتي
ما بين مدٍّ وجزر
أرنو إلى جبال غربتي
متى يا ليل تنجلي؛ يبصر النور جناني؟”. ص 140.
ورغم كلّ هذا الضياع إلّا أن الشاعرة تتمسّك بالأمل فتقول في قصيدة” أين السبيل”:” لكن في قلبي دليل رغم أطياف الذبول
سيبلغ الطير مداه
وبقيت أردّد والصدى يجيب: لا شيء مستحيل”. ص 125.
كذلك تعبّر عن هذا الأمل في قصيدة” أيا صغيري” فتقول:” لكن يا صغيري ما زال هناك شقّ من أمل وأقاح
لم تملّ من عودة الصباح إلى المقل”. ص 129.
وفي نصّ ” أنا وعد السماء” تقول:” قناديل الروح تبحث عن منار
قم ما زال عندك الرجاء
امسح دموعك
الحزن المخيّم على الجفون يردّد: أنا الأمل المصلوب ما زلت حيًّا أنا وعد السماء”. ص 22.
الخلاصة:
من خلال هذا الاستعراض لثيمة الضياع والاغتراب نجد أنّ الشاعرة استخدمت في نصوصها لغةً سهلةً واضحةً، وقد جاءت بعض نصوصها تقريريّة إنشائيّة وفي بعضها الآخر كانت تعابير مجازيّة شاعريّة. ولعلّ قصيدتها على هامش المدينة ص 55 خير دليل على ذلك فقد حوت القصيدة الكثير من التعابير المجازية والاستعارات مثل:” دون أن يموت الحرف على شفة القصيدة
دون أن أغدو شريدًا عن بلاطك المقدّس يا أميرة
دون أن يأسرني الحزن في قيد أهدابك العريقة
كيف تنبت من كفّ النهار مواسم إشراق وجدول”.
وتبقى القدس هوى الشاعرة وحبّها الأبدي ففي قصيدتها” على هامش المدينة” تخاطبها قائلة لها:” علّميني سيّدتي كيف أضمّد جرح أحلامي السبيّة
علّميني كيف تزهر أناملك عناقيد من زهرك الورديّ. ص 57.
وقالت نزهة أبو غوش:
حملت الشّاعرة خولة قلمها المملوء بحبر العاطفة، الاغتراب، الحبّ والعتاب، الألم والأمل، الأحلام والهذيان والهلوسات؛ لتصنع لنا مجموعة شعريّة جميلة. تروق القارئ وتستفزّه أحيانا، وتشحنه إِحساسا عميقا بمعنى الوطن وضياعه، وغربته وقهره مكبّلا بقيود صلدة متينة.
من خلال قراءتنا لديوان الشّاعرة نجد أنّنا أمام شاعرة مثقّفة واعية للماضي والحاضر مدركة المستقبل؛ وتحمل مخزونا ثقافيا وحضاريّا.
وظّفت الشّاعرة الأسلوب السّردي والحوار في بعض قصائدها، ممّا أضاف لها تشويقا وجمالا، وإِنّ تداخل السّرد والحوار في الشّعر، يقرّب النّص الشّعريّ للتّعامل مع الواقع بشكل أسهل.
في قصيدة ذكريات تسترسل الشّاعرة بالأسلوب السّردي الجميل حول ذكريات الطّفولة البريئة، والمفتاح الّذي خلّفه الآباء للأبناء، وأمل العودة؛ وكأن القصيدة رواية فلسطينيّة مغموسة بنغم موسيقيّ حزين. يكتنف شعور الخوف شاعرتنا المقدسيّة ممّا تعيشه في ظلّ إرهاب وتسلّط.
في قصيدة قدسيّ الهوى يخاطبها حجر سور مدينتها:
“يا أختاه أجيبيني/ ما خطب العرب وهمّتهم؟/ أين الأمجاد وعزّتهم؟
قلت: يا هذا فتمهّل/ فالعرب تعالوا في
البنيان/…والغرب غدا لهم عنوان”ص27
زمن أبرز الأضواء على عناصر البناء في السّرد الشّهري في قدسيّ الهوى: الحدث وإبراز المكان والزّمان، وتعدد الصّراع كما برز في قصائد الدّيوان؛ الصراع مع الانسانيّة والّلا إِنسانية. الصّراع ما بين الشّرق والغرب.
تعدّد الخطاب في قصائد الدّيوان، فهو أحيانا يكتنفه الرّمز والغموض، وأحيانا التّساؤلات، والتّعجّب، والانبهار، واستخدام التّمني؛ من أجل عالم أفضل:
” ليتها تعود للأيك العنادل/ ليتها تزهر الياسمينة/ ليتها تضحك الزّيزفونة/ليتها…ليتها/تعلن ميلاد أجراس المدينة” ص40
نجد أنّ الشّاعرة تعبّر في قصائدها عن رؤاها الذّاتيّة والغيريّة من أبناء شعبها المقهور ظلما وتعسّفا.
نجد اللمحة التّشاؤميّة بارزة في أسلوب القصائد، نتيجة للأوضاع السياسيّة والاجتماعيّة والدّينيّة الّتي تحياها الشاعرة في ظلّ الاحتلال:
” يا أيّها المارّ عن رصيف العمر/ وحدك… والخريف يعصف بك” ” عكّاز وتجاعيد حلم عميقة/ تسكن الموقد”ص39
ظهرت الرّمزيّة في أسلوب الشّاعرة خولة بلغة استعاريّة جميلة توضّح بها فكرة الظّلم الّذي حدث لفلسطين: ” الصّفصاف واللبلاب/ تغفو على وسادة مهلهلة قد باعها الكبار في مزاد/ كان الثمن غربة بلا مفتاح”ص53
أمّا توجّهها فكان أحيانا استسلاميّا:
” من أخبرك أنّ العيش رغيد؟/ الزم مخدعك/ وتوسّد قيدك/ ما دمت في قبضة كابوس”
كتبت الشّاعرة عن الغربة وآلامها:
” هناك خلف الضّباب لا الزّمان زمانك/ ولا المكان مكانك…” ” تتسرّب منك الدّقائق هشّة كما حبّات الرّمال” ص7
أحلام الشّاعرة جميلة، لكنّها تبدو مستحيلة ” أن أرسم بسمة نيسان لتحلّق فوق الأوطان”ص14.” أتراني يمكنني حقّا/ أم أنّ الحلم بلا ألوان؟” ص16.
رغم الحزن والخوف والألم نجد في هذه القصائد فسحة من الأمل: ” الغد بحيرته رئانا/ يرتقب صيحة ميلاد/ ربيع الأمّة ينبثق من ليلة ظلماء”ص114.
أمّاعن الحبّ والحنين للحبيب فقد كانت جريئة وقوية تطالب بحقّها منه؛ لأنّها امرأة من كلّ العصور” تلك أنا فكن لي كما قيس لليلى” ” أحتاجك كما يحتاج النّبت للندى/ أحتاجك كما يحنّ النّحل للشذى” ص143.
الشّاعرة بقلبها الرّقيق لا تحمل الحقد فهي رغم كلّ شيء تغفر” لكنّي رغم ليالي العصف/ في قلبي مواسم غفران” ص152.
ومن شيكاغو كتبت هناء عبيد:
العنوان وحده يأخذنا إلى القدس قبل الشروع في قراءة الديوان، وهو وحده كفيل بتأجيج العواطف والحنين والشوق إلى مهبط الأنبياء ومركز الحضارات والشعاع النوراني الذي نستمد منه السلام والطمأنينة.
استهلت الكاتبة ديوانها بإهداء قدمته إلى والديها رحمهما الله وأسكنهما فسيح جناته.
وكما هو العنوان كان المحتوى الّذي شمل عدة قصائد اندرجت تحت عناوين مختلفة تصب في نفس الوعاء.
ففي قصيدتها الأولى المعنونة (بلا عنوان) أحاسيس تنطق بشعور من تغرب على الأرض سواء خارج أسوار القدس أو داخلها، فالغربة تسكننا حتى لو كنا داخل المكان حينما يدوس المكان غريب يحاول طمس الهوية، وسحب بساط القدسية من تحت الأقدام، لكن هيهات أن يتم ذلك، وقد تعبأت الذاكرة منذ الطفولة بعشق الأرض، حين كان الطفل يستمع الى الحكايات في المكان الذي لن ينمحي من القلب يومًا، يلهو بين حقول الدحنون، ويحلم رغم القهر، ورغم الحزن، ولعل في الذاكرة وإن كانت مقهورة ذكريات تجعل من الأمل علمًا يرفرف أمام ناظر كل من سكن القدس، فالأحلام وإن كانت حزينة، لكنها تظل تحمل بارقة الأمل بنهايات سعيدة لا تعرف اليأس، رغم كل محاولات اجتثات كل حلم وكل أمل وكل سعادة.
تقول في قصيدتها المعنونة (ذاكرة مقهورة)
“طفل أحلم بكنوز علاء الدين
مصباح سحري وبنانير
نشيد الصبح بمدرستي يشجيني
أكتب عن فجري وسنيني”.
وفي قصيدتها(هذيان حرف) تريد أن تمسح فيه دمعة مغترب، وأن ترسم حلمًا قمريّا في عشّ يمام شاميّ.
إنّها المسؤولية الّتي حملها عاتق كلّ مسؤول وصاحب ضمير، فمن حرق بنار الظّلم يشعر بمآسي غيره.
وتتساءل هل الحلم بلا ألوان؟!
نعم الحلم يتزين بكل الألوان، يتزين بالصبر والأمل، وأمنيات تحمل في طياتها عودة وطن لأهله تحت ظل العدل والحب والرفاهية.
وفي قصيدتها (أو تعلمين؟)
يتجلى الانتماء لقلب القدس بكل نبض ومشاعر ومحابر، ورغم وجودها في المدينة فهي تعلن شوقها الذي لا ينطفئ، فالربيع دونها يغدو فراغا هائلا لا يكتمل إلّا ببسمة ثغرها.
ويعود الأمل في قصيدة أنا وعد السّماء، حيث تقول بلغتها الأنيقة:
“كوضوء عابد في جوف الدجى
كالياسمين الغافي على شرفة المدى
قناديل الروح تبحث عن منار
يد الصباح تمتد
تربت على كتف الندى
قم، ما زال في غدك الرجاء
امسح دموعك”
نعم إنه الأمل الذي لا ينعدم من جوف مشاعر صادقة منتمية.
وفي (قصيدتها قدسي الهوى) الّذي اختارت عنوانها ليكون عنوان الديوان، تحدثنا عن مدى عشقها لهذه المدينة، وتصور لنا جمال هذه المدينة البهية بشاعرية آسرة فتقول:
“فوق ربوعك سحر
يتوه به الرائي
يسرق اللب والنظر
صلاتي فيك تحيي مني
شراييني وأوردتي”
وتتساءل عن أولئك العرب الذين نامت أعينهم عن وطن ينتظر همتهم فتقول:
“والعرب باتت تتنكر
قدسي القلب وايماني
بالله أبدًا لن يقهر
(فيروز) ما عاد يقال
أجراس العودة فلتقرع”
والأمل حاضر بوجدان الشاعرة كما في وجداننا لنجد قصيدة عنونتها (على قيد الأمل)
فتقول:
“لم يزل هنالك
بضع كلمات لم تقل
بضع حروف تبحث عن شق أمل
وسطور حالكات
تنتظر قطرة بوح
من غيث المقل”
نعم يظل الأمل يسكننا، فالحق لا بد أن يعود لأصحابه ولو بعد حين.
وتستمر الشاعرة بقصائدها؛ تبكي تارة لحلم طفل يخشى ضياعه، وتتشبث بالأمل تارة أخرى، تتغنى بجمال المدينة وعظيم شوقها لها، وتبكي تارة لحزنٍ ينتظر يدًا حانية لمسح دمعته.
القصائد جميعها كما العنوان قدسية الهوى، تأخذنا بأجنحة الشوق إلى مدينة ليست كباقي المدن، إلى أرض نورانية، يسطع شعاعها من خلال شاعرية متدفقة صادقة نابعة من وجدان دافئ، وضمير واع لا يمكن أن يخذل أمنيات الأمل،
القصائد لم تخذل المشاعر، بل أججتها بلغة متينة رصينة وأحاسيس دافئة وانسيابيّة، جعلت من الحزن والفرح والأمل أنهارًا دافقة منسابة رقراقة، تسر الأذن والعين والمشاعر.
ديوان “قدسي الهوى” هو ضميرنا بصوت الكلمات الشاعرية، وشوقنا المتأجج بثنايا الحرف الصادق، وأملنا الذي لن يخبو يومًا، فهنيئا للمكتبة العربية بهذا الإنجاز الأدبي الشاعري القيم.
[1] وطفة، 1998، ص. 241-281.