” شقيقي داوود” سيرة غيرية للأديب المقدسي جميل السلحوت، صدرت مؤخرا عن دار الأزبكيّة في رام الله، وتقع في 200 صفحة من القطع المتوسط.
قد يتساءل البعض عن أهداف فن السّيرة الأدبية، بشقّيها: السّيرة الذّاتية أو السّيرة الغيريّة.
فلماذا يلجأ بعض الأدباء لهذا الفن الأدبي؟ وتحديدا السّيرة الغيريّة التي يتمّ من خلالها سرد قصة حياة شّخص آخر، يسعى الكاتب إلى إعادة تشكيل حياته من خلال الكلمات، بكل ما فيها من حقائق، وليس من وحي الخيال؟ مع العلم أنّ هذا الفن يقيّد الأديب، لأنّه يكبح جماح خياله ويحصره بسرد حقيقيّ، فهو ملزم أن يوثق حياة الشخص بأمانة، وبموضوعيّة، وهنا لن يستطيع أن يبتدع قصّة من وحي خياله يستمتع به، فلا يشعر أنّه سيّد الأحداث، هي ليست رواية رسمها وشكّلها من ألفها إلى يائها، يحرّك فيها شخوصا ابتدعهم ، وقد يتخفّى في عباءة أحدهم، فيغوص في أعماق ذاته يتعرف عليها أكثر.
لماذا لجأ السّلحوت إلى أدب السّيرة الغيريّة؟ كان أوّلها ” ابن العم أبو شكاف”، ثم شقيقي داوود”؟”
اجاب الأديب السلحوت على هذا السّؤال في مقدمة السّيرة، إذ قال: ” لفت انتباهي ما كتب أديبنا الكبير محمود شقير في تقديمه لسيرة “ابن العمّ أبو شكاف” : “وإذا كان مألوفًا ظهورُ سِيَرٍ ذاتيّة أو غيريّة للمثقّفين والأدباء والفنّانين ورجال السّياسية، فلماذا لا يكون مألوفًا، بل مطلوبًا ظهورُ سِيَرٍ لرجال الأعمال النّاجحين، الّذين صنعوا نجاحهم بجدّهم واجتهادهم، وليس عن طريق الغشّ والتّـزوير والسّرقة والاستغلال، وكذلك لغيرهم من الكفاءات في حقول العلم والتّجارة والاقتصاد؟
سؤال وجيه، يؤكد على أن توثيق حياة هؤلاء العصاميين من الشّخصيّات، قد تكون منارة للبعض، ودافعا قويّا لهم يشجعهم ويسحبهم من دائرة اليأس إلى الأمل. فلماذا لا يخوضون التّجربة؟ لماذا لا يسعون إلى النجاح بجدّ واجتهاد ويكونون مثل من سبقهم من الشخصيات الذين تجاوزوا العقبات وحققوا أحلامهم؟
إذا، هذا هو سبب كتابة السّلحوت سيرة شقيقه داوود، فهو رجل أعمال متميز، صنع نفسه بنفسه. كان عصاميّا، اجتهد واستطاع أن يحقّق نجاحا دون اللجوء للغشّ والتزوير، ودون استغلال أيّ كان. كان الأديب السلحوت يعرف تفاصيل حياة شقيقه داوود منذ أن ولد، بحكم فرق السّن بين الشّقيقين، فقد كان يكبره بأربعة عشر عاما، لاحظ تميّزه وذكاءه منذ الولادة، ولهذا رأى في توثيق سيرته ما يمكن وصفه بمدرسة تتعلّم من خلالها الأجيال، شعارها “من جدّ وجد”.
لقد وجد أنّ شقيقه داوود يعتبر أنموذجا وقدوة لكل من يئس واستكان وعزل نفسه، مدّعيا أنّ الظّروف خذلته، فبات يندب حظّه، دون أن يخطو أيّة خطوة تجاه تجقيف أهدافه.
ونلاحظ أن السلحوت لم يبدأ بأحداث السيرة منذ ولادة شقيقه داود، بل قبل ولادته، لأنّه يؤمن أن الانسان ابن بيئته، لا يمكن فصله عن مجتمعه وجذوره، وقد وضح ذلك في مقدّمة السّيرة، قال: “لا يمكن للمرء أن يتحدّث عن مسيرته الحياتيّة دون العودة إلى جذوره القريبة على الأقلّ، وإلى البيئة التي ولد فيها، وما صاحبها من واقع اجتماعيّ، اقتصاديّ، علميّ”.. إلخ. لذلك نلحظ أن هذه السيرة تعتبر أيضا سيرة مكان وسيرة مجتمع، بكل ما فيه من عادات وتقاليد وطبيعة حياة، فوصفها بدقّة، وتحدّث عن بعضها بإسهاب.
وقد تحدث السلحوت عن هجرة شقيقه إلى الولايات المتحدة، وسرد التّحديات التي واجهته هناك وكيف استطاع أن يتخطّاها، على الرّغم من أنّ بعضا ممن هاجروا فشلوا في تحقيق ذواتهم هناك، إذ خطف أنظارهم بريق أمريكا، وسحبهم إلى مستنقع الرذيلة والحرام.
كما أشار السّلحوت إلى بعض الغرائب التي شاهدها لأول مرّة عندما زار شقيقه داوود. وقد أسهب في وصف المكان، وركّزعلى بعض العادات والتقاليد هناك، مما جعلني أشعر أنني أقرأ كتابا يختصّ في أدب الرّحلات. وقد كان هذا لصالح الأديب، الذي قدّم للقارىء وجبة دسمة من المعلومات الغريبة الشّيّقة والنّادرة.
ومما لفت نظري، أنّ السلحوت ركّزفي الفصل الأخيرالذي جاء تحت عنوان: “البلاد طلبت أهلها”، على عودة شقيقه داوود إلى الوطن واستثماره فيه، وقراره أن يمضي حياته داخله بين أهله وأحبّائه، على الرّغم من أنّه كان يحقّق في المهجر نجاحات مستمرّة، إلا أنّه آثر العودة، وقد كانت رسالة قويّة، بمثابة الدعوة لكلّ من هجر وطنه، بأن يعود إلى بلاده، يستثمر فيه، فلا بديل للوطن.
4-4-2024