القدس: 2-2-2023 من ديمة جمعة السّمّان- ناقشت ندوة اليوم السّابع الثّقافيّة المقدسيّة رواية “منارة الموت”، للكاتبة المقدسيّة ابنة العيسويّة المغتربة في أمريكا هناء عبيد، صدرت الرّواية عام 2022 عن دار فضاءات للنّشر والتّوزيع في عمّان، وتقع في 234 صفحة من الحجم المتوّسّط.
افتتحت الأمسية مديرة الندوة ديمة جمعة السمان فقالت:
” منارة الموت” عنوان الرواية تمّ انتقاؤه بعناية، يحمل مدلولات عميقة، يعكس ما جاء في الرواية، من خلال الطرح والتفاصيل التي تشير إلى حجم التناقضات في المجتمع الواحد، والذي لا يخضع إلى معايير ثابتة، فالحياة للأقوى، قوانينها أشبه بقانون الغاب.
الرواية موزعة على عشرة فصول.
أبدعت الكاتبة في الولوج إلى دواخل بطل الرواية آدم الذي ولد بإعاقة في رجله، ويعيش حياة بائسة في حي فقير، يتعرض لكل أنواع الاضطهاد والتنمر المجتمعي، على المستويين: أولا الإعاقة وثانيا الصراع الطبقي الذي يطحن كل من هو ضعيف لا سند له، إذ يعيش في ثنايا معادلة غريبة؛ ليكون الحيّ الميّت، لا حقوق تدعمه، ولا ضمير يراعي احتياجاته، بل يتم استغلاله حتى آخر نفس، يصعدون على أكتافه ليحققوا مآربهم السلطوية التي لا تراعي إنسانيته، فيخدمهم الإعلام الذي يروّج لهم، فيعلي كلمتهم، ويخدم أهدافهم ويدعم مصالحهم لتزيد من معاناة الفرد البسيط في المجتمع.
يشترون كل صاحب نفوذ، ليساندهم، ولا يدفع الثمن سوى الفقير الضعيف الذي لا حول له ولا قوة. ومن تثور عليه كرامته، فيعترض، أو يتفوّه بعدم الرضا، يكون مصيره وراء الشّمس.
على الفقراء المعدمين أن يظهروا الولاء وينحنوا بقاماتهم إلى من نصّب نفسه وليا لنعمتهم، وهنا جسدتها الكاتبة بشركة كاربنتر المتسلطة والمستغلة لأبناء الطبقة الفقيرة المقموعة. وهي شركة لصناعة الأدوية، تسوّق الأدوية غير الصالحة للشعب، إمّا منتهية الصلاحية أو المخزنة بشكل لا يتناسب مع طبيعة الدواء؛ فيؤدي إلى إتلافه، مما تسبّب بقتل بعض المرضى، كما تتاجر بالأعضاء البشرية لكل من يحاول أن يقف في طريقهم. ولا يسمح للمتضرر أن يلجأ إلى الشّرطة أو القضاء، إذ أن السّطوة “الكاربنترية” قادرة على شراء الأجهزة الأمنية والقضائية، ومن يتجرأ على المحاولة يكون مصيره الموت.
ومع ذلك، فهناك من حاول الاعتراض وكشف الحقيقة، بعد أن وصل إلى قناعة بأنه لم يعد هناك ما يخسره، إذ كان الفقد لريان الذي فقد ابنته بسبب الدواء التالف، وكذلك جورج الذي فقد والدته لذات السبب أكبر من قدرتهما على الاحتمال، كما أن رمزي، العامل في مصنع كاربنتر، والذي طرد من عمله إلى الشارع حيث الفقر والجوع، بعد تعرضه لإصابة عمل، إذ لم يتعرّف عليه المصنع، ولم يعطه حقوقه، كان أكبر من قدرته على الاحتمال، فواجهوا الثلاثة مصيرهم المحتوم، دون أي شفقة أو رحمة.
كما أن المنح الدراسية التي تم رصدها لمساعدة الفقراء على إكمال تعليمهم الجامعي، تذهب للأغنياء، ويكون للواسطة النصيب الأكبر.
وقد دخلت الكاتبة إلى دواخل بعض الشخوص الأخرى في الرواية من خلال المونولوج الداخلي، الذي يجيب على بعض أسئلة القارىء؛ ليغوص في الرواية أكثر، ويفهم تفاصيل غابت عنه، فيتعاطف مع الشخصية، أو ينقم عليها. إذ أن الراوي كان البطل “آدم” في معظم الفصول وليس الراوي الحكيم.
الكاتبة لم تحدد مكانا ولا زمانا في الرواية، واختلطت أسماء الشخوص بين العربية والأجنبية، وهذا في صالح العمل الروائي، فلم تحدد الكاتبة لا المكان ولا الزمان، لأنّها قصدت الإنسان في كل مكان وعلى مرّ الزمان، إذ أن المعايير والقوانين تتعدل وفق مصالح أصحاب النّفوذ، فتوقع المزيد من الضحايا في صفوف الفقراء والمساكين.
رواية واقعية، كتبت بلغة جميلة معبّرة، غلب عليها عنصر التشويق، إذ كانت الحبكة الروائية متقنة، خدمت أهداف الرواية.
وكتب محمود شقير:
بلغة سلسة لا تعقيد فيها ولا التواء تصف الكاتبة هناء عبيد من خلال تعدّد الرواة واقع مجتمع يتصارع فيه الفقر مع الثراء، وتكون الغلبة للأثرياء الذين يسخّرون الفقراء لخدمتهم ويسومونهم أفدح عذاب.
تكرس الكاتبة الفصول الأولى في روايتها لوصف حالة مألوفة سبق أن أتت عليها الرواية العربية من سنوات طويلة، ثم لا تلبث أن تضع القارئ في الفصول التالية أمام حالة أكثر بشاعة من التسلط والاستغلال، حين تقوم إحدى الشركات بالتعاون مع مافيا الأدوية الفاسدة بالترويج لأدوية لا تشفي من مرض، بل تودي بحياة كل من يتعاطاها من المواطنين.
في كفاحه من أجل إثبات وجوده في هذه الحياة القاسية يعمل بطل الرواية آدم، الذي يعاني من إعاقة في ساقه، أجيرًا في مقهى وعاملًا في فندق وبائعًا لقلائد الزهور قبل أن يلتحق بعمل بسيط في مصنع الشركة، ومن ثم ينتسب إلى الجامعة ويصبح طبيبًا، وفي الأثناء لم يتوقف عن الاعتناء بشقيقته الصغيرة سيلينا، وبطفل آخر مريض من أبناء القرية اسمه سام، وظل طوال الوقت يكنُّ للطفلة هانا حبّا خاصّا، وهي التي خذلته حين أصبحا بالغيْن، فارتبطت بزميل لها في الجامعة وجدته يلبي تطلعاتها التي لا يستطيع آدم الفقير تلبيتها.
ثم إن آدم يشفق على أمّه من جرّاء عملها خادمة في بيت أحد الأثرياء، وينتظر اليوم الذي يخلّصها فيه من هذا الشقاء، وفي الوقت ذاته فإنه يُنحي باللائمة على والده الكسول المتخاذل الذي يتخذ من بيع الذرة مهنة له، من دون أن يحقق أي نجاح.
وفي ظني أن قسوة آدم على والده تبدو غير مبرّرة، وذلك لأنه ضحية لهذا المجتمع الظالم، وهو جدير بالشفقة وبضرورة إقناعه بالكفّ عن اضطهاد زوجته وعن الخضوع للمستغلّين السفلة، وعن محاولاته ثني ابنه آدم عن تقديم الخدمة الطبية الإنسانية للفقراء. إن حاجة الوالد إلى الوعي الصحيح تستدعي بذل الجهد لانتشاله من حالة الضياع بدلًا من ذمّه وتركه فريسة للجهل والانكسار.
رواية هناء عبيد التي لا تشير إلى مجتمع ذي جغرافيا محدّدة وأماكن واقعية معروفة، يمكن أن تنطبق على حالة مجتمعات عديدة في العالم الثالث تعاني من الاستغلال الطبقي ومن هيمنة الأغنياء وشركاتهم الظالمة، وهي؛ أي الرواية، تنحاز في مجملها إلى رفض الظلم وإلى تلمّس الطريق من أجل دحر الطغاة والطغيان.
لكنّ بعض التفاصيل التي حشدتها الكاتبة من أجل ذلك بدت كما لو أنها بحاجة إلى معالجة أكثر إقناعًا، لتخليصها من المبالغات، ومثال ذلك لجوء جورج وزميليه الآخرين إلى العمل المأجور في مصنع الشركة الظالمة، لعلهم يتوصّلون إلى أدلّةِ إدانةٍ ضدّها بعد أن تسبّبت أدويتها الفاسدة في موت الأمّ والطفلة وغيرهما، لكنهم للأسف وقعوا في أيدي القائمين على أمور الشركة، وتمكنوا من كشفهم واغتيالهم. ولعلّ في تمويه الفتاة شمس على حقيقتها؛ بحيث تتظاهر وهي تعمل في مصنع الشركة بأنها صمّاء بكماء دليلًا آخر على مبالغات لا ضرورة لها.
أمّا نقطة الضوء البارزة في هذه التفاصيل، أو المنارة الأبرز في معمعان هذا الموت وهذا الغموض فهي ماثلة في العمل الجماعي المنظم الكفيل بإطاحة الطغاة المستبدين، وهو الذي أشارت إليه الكاتبة مشكورة بكل وضوح.
وكتبت نهى عاصم:
غلاف روايتنا عبارة عن فضاء واسع مكتوب فيه اسم الأديبة واسم العمل، تحلق فيه النوارس فوق سطح بحر مليء بالغيوم.. وعلى اليابسة فتى يحمل فوق كتفه متاعه كمن يحمل همومه الثقيلة، ويلوح بيمناه ولا ندري لمن يلوح هل لمستقبله أم لماضيه؟
وعلى الغلاف الأخير كلمات تحمل الغموض والتشويق عن:” آدم الصبي الذي تلامس يداه السماء حينًا، وينغمر وجهه بالوحل حينًا آخر”.
لتنتهي الكلمات بـ: “أيهما سينتصر، ابتسامة الحب، أم رصاصة الكراهية؟”
أهداء رقيق يليق بالكاتبة تدين فيه بالولاء والحب والمعروف والجميل للكثيرين أولهم والداها.
آدم طفل ولد باختلاف في طول ساقيه، فكان يخنبء من أقرانه في طريقه إلى
إلى المدرسة كي لا ينعتوه بأقبح الكلمات، أو يقذفونه بالحجارة.
فيتمنى لو يستطيع الانتقام منهم عندما يكبر، لكن القهر كما يتكفّل به فهو يتكفل
بوالديه كذلك وكل ذنبهما الفقر وقلة الحيلة.مسكين هذا الصبي تأرجح بين الأحزان والمآسي بساقين.
نشأ آدم في قرية الزهور، قرية ظالم أهلها وكما تقول الأديبة:
” يبدو أن كل نزيه في هذه القرية سيعيش خاسرًا مدى الحياة، فإما أن يرضخ للقوي، وإما أن تطرحه الكبرياء أرضًا.”
يذهب آدم بعيدًا عن أسرته وأخته الصغيرة للعمل في مصنع الأخوان كاربنتر، المصنع الذي كان يمنحهم الصدقات-والتي يسرق معظمها المسؤولون بالحي- وهو يحلم بالكثير الذي يتمنى تقديمه لأسرته ولهانا جارته ورفيقة عمره. ودراسته وحبيبته.. المصنع الذي كان عليه أن ينحني لصورة صاحبه كل يوم في الصباح هو ورفاقه.
وهناك يتعرف على زملاء غرفة نومه الثلاثة، ويعرف حكاياتهم وتتوالى عليه صدمات الحياة؛ ليدرك كم سذاجته في كثير من الأشياء.
تشير الكاتبة بإشارات واضحة إلى اضطهاد المرأة الفقيرة من أسرتها، وكأن الفقر لا يكفيها، فتضطهد من أب ثم من زوج، وتعيش طوال العمر تحت وطأة القهر ومذلة الحرمان.” هي تعلم تمامًا أن اعتراضها يعني ركلًا أو حبسًا في قن الدجاج أو لكمة على وجهها. لقد أدركت كل هذه النتائج من خلال تجربة والدتها التي لم يستقر لها سن، ولم يستطع الثبات في مكانه.”
كما تفرد جزءًا هاما عن خضوع آدم لسطوة عالم الفيس بوك، فتوجه رسالة تحذير خفية لكل من قد يقع تحت سطوته وتحدثنا عن أشياء كثيره يقترفها من يدخله.
أسماء القرى والمدن لدى هناء رمزية قرية الزهور، مدينة الأنوار، شارع المحبة.
ولم تكشف لنا عن أي بلد عربية يدور الحوار وإن كنا نستطيع وضع كافة بلادنا مكانًا لبلد روايتها إذ تقول: :” هذا هو حال البلاد التي لا تحكمها القوانين الصارمة، كل يريد أن يتخطى القانون، فهو يعلم أنه لن يأخذ حقه إلا بالصراع، أخذ حقوق الناس أصبح شطارة، واتباع القوانين غباء، ذلك أن القانون لا يطبق على الجميع بالتساوي.”
الكاتبة ذات حس مرهف وكلمات جميلة هادفة مثل:” زرع الوالدان الأمل في قلوب أطفالهما وإن كان كذبًا، أمر لا ينتقده أحد حتى وإن شوه ذلك أرواحهم مستقبلًا.”
“خشيت أن يتلوث البلاط اللامع من انعكاس وجهي عليه”
“مسكين أبي، أسد علينا، وفأر أمام الآخرين”
” الفقر أحيانًا يصنع القلب الدافيء، وما إن طار بجناحي الثراء حتى ملأ السواد باطنه.”
” ضحكت كثيرًا بيني وبين نفسي حينما تذكرت عبارة بعض الفلاسفة: إن المال لا يصنع السعادة، إذن ما هي السعادة أيها الفلاسفة؟ جيبي المخروم أم حذائي المثقوب؟”
كما أنها تتميز بخفة الدم فها هو البطل يستهجن اسم ياسمين على خطيبة صديقه في العمل جورج، فلكل نصيب من اسمه، ولكنها ليس لها أي نصيب منه، بل يليق بها الحنظل المر، ولا تلبث أن تعتذر للحنظل عن ظلمها له، فمنه يصنع الدواء.
ومع القراءة تتكشف لنا أشياء جميلة رغم المآسي، كما تتكشف لنا ما هي منارة الموت، والمعنى الخفي في اسم الرواية.. فندرك أن اختياره كان موفقًا وذكيًا من قبل الكاتبة.
وقالت هدى عثمان أبو غوش:
“منارة الموت”عنوان يثير في المتلقى أسئلة كثيرة ويجذبه، فإن العنوان يأخذنا إلى مضمون الرّواية من حيث كثافة الموت التي اعترى الشخصيات، فالمنارة هي المصباح الذي يسلط الضوء على أسرار موت الشخصيات في الرّواية، ومن ناحية أُخرى فالمنارة هي قدرة بطل الرّواية على مواجهة الصعاب في حياته وعدم استسلامه، فقد استطاع آدم أن ينير قلبه المليء بالموت الداخلي، نتيجة الصراعات حول حقه فب العيش بكرامة وأمن والعاطفة الحزينة، من خلال صبره وصموده والتحلي بالأمل، لتسلق منارة الحياة وذلك عندما استطاع أن يصل لمنزلة مرموقة، كمحاضر في كلية الطب رغم كلّ الصعوبات والمضايقات.
يمكن اعتبار هذه الرّواية كسيرة ذاتية كتبت بضمير المتكلّم، احتوت تسلسلا في مراحل حياته المختلفة، مرحلة الطفولة القاسية، والجامعة والتخرج والعمل، وقد وجدنا تفاصيل كثيرة عن بيئة آدم وعائلته وعلاقة تنمر زملائه بالمدرسة معه، تطرح الأديبة هناء عبيد صور الفقراء والبؤساء في مجتمع يقع تحت ظلم المجتمع والحاكم، لم تحدد الأديبة أسماء الأماكن والمدن أو الحقبة الزمنية بل جعلتها رمزية لتعبر عن كل زمان وكل مجتمع ظالم.
طغت العاطفة الحزينة فوق أوراق الرّواية، فكانت مشبعة بالبؤس والحرمان والفقد والجراح والخيبات والذلّ والحبّ الفاشل وقلة الفرح، ممّا يرهق القارىء، مع العلم أن السّرد كان متقنا ومعبرا، فأصابت الأديبة في جعلنا نحزن ونتعاطف مع بطل الرّواية آدم.
المشترك بين أغلبية الشخصيات الثانوية هو اختفاء الشخصيات والفقر.
لقد نجحت الأديبة في تصوير حالة آدم، الذي يعاني من إعاقة في قدمه وإبراز ظروفه الاقتصادية والاجتماعية، وحالات التنمر من قبل زملائه بالمدرسة، وكان الحوار الداخلي والتساؤلات الحزينة والصراع عند آدم كالنيران تشعل مشاعره وغضبه، يبحث عن أجوبة وعن شمعة تنير حياته:” ما الذي يسعدهم في اختلافي وغيظي وانكساري والطين المختلط بدموعي”.
في هذه الرّواية أو السّيرة تضع الأديبة عبيد القارىء أمام ميزان القوة والضعف في المجتمع، وتأثير سيطرة القوي على الضعيف اقتصاديا واجتماعيا، وبين مواجهة الحق والصمت، وبين ميزان العدل الظالم، فقد جاءت نهاية الرّواية بموت الكثير من الشخصيات الفقيرة بسبب الدواء الفاسد من قبل شركة كاربنتر، مما جعلت المجتمع ينتفض ضدها، لكن الفساد عاد وانتشر.
جاء اختيار أسماء الشخصيات لأسماء بعضها عربي(آدم،شمس،أبوالأحزان،رمزي)،والأخرى أجنبي (جورج،سام،هانا،وغيرهم)،وذلك يجعلنا نتساءل هل الأديبة تتحدث عن المجتمع الأمريكي وطبقة البشرة السوداء والبيضاء، مع العلم أنها لم تتم الإشارة إلى ذلك، أم هي عن مجتمعاتنا العربية في ظلّ حاكم عربي ظالم.
نجاح تحقيق الذات عند البطل آدم رغم كلّ الحزن الذي اعتراه وظروفه الخاصة، هو الفرح الجميل في السّيرة، نجاحه في مساندة سيلينا وسام من خلال فتح محل للزهور، إن الحب والعطف والحنان والعطاء كلها صفات امتاز بها آدم، واستمدّ قوته من مساعدته للآخرين مما منحه الدفء.
“منارة الموت” صرخة في البحث عن العدل ومساواة الحقوق الاجتماعية والاقتصادية وحفظ كرامة الإنسان، وعدم الاحتقار والاستهزاء بالضعفاء وذوي العاهات، وهي رسالة لشعلة الإصرار والصمود في وجه عاصفة الحزن والوجع.
وكتبت تالا تُشير:
تملأ المنارة قلوب البحارة بالطمأنينة والراحة، مشيرة إلى اليابسة حيث الأمان، ولكن لن يحدث ذلك في الرواية. اعتمدت الكاتبة على الأسلوب السردي، بواسطة الشخصية الرئيسية آدم، يقوم أدم بسرد أحداث حياته اليومية؛ ليعكس الواقع الذي يعيشه فرد نشأ في منزل يعاني من الفقر المادي.
تتناول الرواية شتى المواضيع، أبرزها الإعاقة التي يعاني منها آدم، التي عبّرت عنها الكاتبة بطريقة رمزية، إضافة الى حقوق العامل من الفئة المستضعفة ماديا، ودور الهاتف النقال كوسيلة لمواجهة الفقر.
منذ البداية نتعرف على أدم، طالب مدرسة حزين محبط، يعاني من التنمر والاعتداء من قبل الطلبة بسبب إعاقته الجسدية، التي يعاني منها منذ الولادة. في البداية كانت الإعاقة تملأ فكره، وكان لها تأثير كبير في حياته اليومية. ولكن مع مر السنين لا يعطي أدم إهتماما للإعاقة، وينسى القارئ الإعاقة؛ لينتقل اهتمامه وتركيزه إلى رحلة أدم لمحاربة الفقر. الإعاقة هي الرمز الذي يشكل عائقا كما الفقر، فهو لم يخترهما، بل شاء القدر أن يكونا من حليفه. في البداية كان لها دور كبير في حياته اذ شبّه نفسه بالحشرة في ص49. ولكن سرعان ما تجاهل ذلك، وذهب يسعى للتغير. نجح آدم في تحقيق ذلك، حيث أصبح طبيبا. ولكن في النهاية ذكرت الكاتبة مشهد طرْد الطبيب أدم من وظيفة بسبب إعاقته، وتصور للقارئ نظرة المجتمع البائس الذي يحب التفرقة ووضع عقوبات شبه وهمية أمام من ليس مثله. الإعاقة الجسدية ساهمت بوصف الحالة الاقتصادية والنظرة الاجتماعية لها.
إضافة الى ذلك، نجحت الكاتبة بامتياز بزيادة لوعة وشوق القارئ. حيث يصرخ القارئ بحرقة وهو يقلب بين الصفحات. وينصدم القارئ حين يتم إطلاق النار على جورج وقتله كمحاولة لدفن كلمة الحق. مقتل جورج يجسد السخرية الواردة في مجتمعنا اليوم. حيث اشتهرت في الماضي مقولة ” لو كان الفقر رجلا لقتلته”، إلا أن في القصة يحدث العكس تماما في هذا المشهد.
تعرف آدم على جورج في العمل في مصنع الأدوية، كما تعرف هناك على شخصية إضافية، رمزي. رمزي عانى من إصابة وهو يعد نفسه للذهاب إلى العمل، يتجسد هنا تجاهل المصنع له ومعاملتهم السيئة. فلم يهدر المصنع ولو لحظه واحدة من وقته للعناية به، وإنما قاموا بفصله، متجاهلين حقوق العامل الأساسية. وعملية فصله من العمل وعدم تلقيه المعالجة الفورية في المشفى يعكس تهميش من ليس لديه المال في المجتمع. فنرى أن من ليس لديه مال لا حماية قانونية ولا إنسانية له في هذا العالم.
يلعب الهاتف النقال دورا هاما في احداث القصة. يشتري أدم هاتفا نقالا؛ ليسهل عليه التواصل مع أحبابه والناس من حوله. يتعرف أدم على تطبيق الFacebook خلال القصة، وهذا يساعد القارئ على الإستدلال بأن زمن القصة هو الوقت الحالي. أمّا بالنسبة لرمزية الهاتف المعنوية فتنقسم الى قسمين، في البداية كان الهاتف سببا لليأس وهدر للوقت في حياة أدم. فقد كان يتصفح الفيسبوك ليرى زملاءه وهم ينهون سنة دراسية في تعليمهم الجامعي وإلخ… ولكن في النهاية وبعد مقتل جورج يستغل أدم الهاتف؛ ليكشف للعالم حقيقة أعمال مصنع الأدوية؛ كي يضع حدّا للمعاناة والتهميش. ففي ص71 ذكر نواياه لاستبدال الصور التي وصفها بأنها باهتة تناسب هامشية وجودهم.
نجحت الكاتبة بعكس الواقع الظالم الذي يعاني منه شخص طموح نشأ في أسرة فقيرة. على عكس شخصية والده الذي يمثل دور الرجل البائس الذليل والجبان، الذي رضي بحاله. تحلّى آدم بالشجاعة؛ ليكسر عجلة الفقر التي نشب بها والده بائع الذرة. تعمدت الكاتبة عدم الكشف عن هوية قاتل جريس خاطف رمزي، وإبقاء مكان أحداث الرواية غير معروفة لحد ما؛ ليتسنى للقارئ الحرية لينسب هذه الشخصيات لبيئته وواقعه.
وكتبت رفيقة عثمان:
تعتبر رواية “منارة الموت” رواية واقعيّة اجتماعيّة؛ سلّطت الكاتبة الضّوء فيها على قضيّة العنف والتّنمّر المستشري في كافّة المجتمعات؛ ولإبراز الصّراعات الطّبقيّة القائمة في المجتمع، وإبراز التّسلّح بالإصرار والإرادة، والوحدة؛ للإنتصار والتّغلّب على الظّلم والفساد الاجتماعي. أخيرًا انتصرت الكاتبة للخير أمام الشّر.
من خلال قراءة الرّواية، يفتقد القارئ لمعرفة ا(الزّمنكيّة) أي الزّمان والمكان لحدوث أحداث الرّواية؛ برأيي من الممكن أن يكون قصد الكاتبة عبيد، هو أن تشير لتعميم أحداث الرّواية على كافّة البلدان، وألّا تقتصرعلى مكان أو زمان محدّدين. ذكرت الكاتبة اسم جامعة “المستقبل” هذا الإسم لا يمكن الإستدلال بواسطته على اسم المكان؛ لأنّه يوجد جامعات كثيرة بهذا الاسم في كافّة أنحاء العالم. ذُكر اسم قرية الزّهور، وهذا الاسم لا يمكن تحديد مكانه. ذُكر اسم شركة (كاربنتر الشّهيرة بأعمال الخير) اسم أجنبي يوحي لمكان موجود في دولة غربيّة.
انتقت الكاتبة شخصيّات محدودة؛ لتحريكها وفق أحداث الرّواية، فاختارت الأسماء بعناية، معظمها أسماء أجنبيّة ذات دلالات مقصودة مثل: اسم آدم بطل الرّواية، والّذي يعاني من إعاقة بارزة في إحدى قدميه؛ اسم آدم يُطلق على الفتيان من كافّة المجتمعات المختلفة دون تمييز. امتاز هذا البطل بإنسانيّته، ومعاملته الحسنة مع المحيطين به، وظلّ هكذا حتّى بعد أن أصبح طبيبًا مرموقًا، على الرّغم من المعاناة وقسوة الحياة التي عاشها منذ طفولته، وتعامُل المحيطين معه بقسوة وتنمّر وضرب وعنف، خلال فترات حياته المختلفة.
شخصيّة (جورج) شخصيّة رئيسيّة أيضًا، لعبت دورًا إيجابيًّا، في البحث عن العدالة، واستخدام القلم كسلاح لمقاومة الفساد، والبحث عن الجناة، هذه الشّخصيّة ساندت آدم أثناء عملهما معًا في شركة (كاربنتر)؛ وتمتّعت بمواصفات مميّزة وجيّدة، على الرّغم من انتمائها لطبقة اجتماعيّة غنيّة، ومنحازة لطبقة الفقراء والمظلومين.
شخصيّة “سام” الطفل من ذوي الاحتياجات الخاصّة، يعاني من “متلازمة داون”؛ هذا الاسم أيضًا يُطلق على أسماء من مختلف الثّقافات. هنالك أسماء أعجميّة أيضا مثل: هانا – سيلينا – رايان موظّف ووجهه مشوّه – حودي والدة آدم – نوى جار آدم البرجوازي، رمزي؛ كلّها أسماء لا توحي بأنّها عربيّة، بل هي أسماء حياديّة.
تُرى هل تعمّدت الكاتبة إطلاق أسماء غربيّة في الرّواية؛ لتبرِز موضوع المساواة بين الأجناس؟
ربّما قصدت الكاتبة تصوير شخصيّات غير عربيّة؛ للتنويع العرقي، وإظهار الاهتمام في التّعدّد الثّقافي؛ نظرًا لوجود الكاتبة في بيئة تحتوي على أجناس مختلفة من البشر، ذوي ثقافات وديانات متعدّدة، فكانت لها الأثر الكبير على تبنّي هذا الفكر.
من المُلفت للانتباه، وُصفت بعض الشّخصيّات، بإعاقات مختلفة مثلًا: سمير فاقد لإحدى عينيه، وهانا تعاني من التّلعثم، وشمس فتاة صمّاء(مؤقّتًا)، وآدم يعاني من إعاقة بقدمه، ورايان وجهه الأيمن مشوّه، وسام يعاني متلازمة داون. نجحت الكاتبة بتسليط الضّوء على هذه الفئة، وبوصف الخلجات النفسيّة لكل حالة من الحالات، والتّعمّق بمشاعرهم الحقيقيّة ومعاناتهم؛ مستعينة بخلق الصّراعات المختلفة، وبالحوار الذّاتي، والسّرد المسترسل.
استعانت الكاتبة بوسائل التّواصل الاجتماعي المختلفة مثل: الفيسبوك، والواتس أب وما إلى ذلك؛ للتّواصل مع الأصدقاء والصّديقات، ومعرفة أخبارهم ومشاهدة صورهم عن بُعد، كذلك إنشاء موقع خاص بعنوان”نُصرة المظلومين”؛ للمساهمة في مساندة الفقراء والمعوزين، خاصّة بالعلاج المجّاني الذّي تبرّع به (آدم) بطل الرّواية، بعد أن أصبح طبيبا، ولم تتغيّر أطباعه، بل كان مواظبًا على مساعد الفقراء والمحتاجين.
برزت بعض الأفكار الفلسفيّة في الرّواية، أضفت الرؤية الخاصّة التي تؤمن بها الكاتبة كما ورد صفحة 208 ” إنّ السّعادة تكمن في إسعاد الآخرين”، كذلك صفحة 69 ” هذا هو حال البلاد الّتي تحكمها القوانين الصّارمة، كلّ يريد أن يتخطّى القانون، فهو يعلم أنّه لن يأخذ حقّه إلّا بالصّراع؛ أخذ حقوق النّاس أصبح شطارة، واتّباع القانون غباء، ذلك أنّ القانون لا ينطبّق على الجميع بالتّساوي”.
في نهاية الرّواية سردت الكاتبة حول وفاة شمس بإصابتها بالخطأ، بدلا من جورج المقصود بالقتل؛ حيث أطلق عليها الرّصاص من قِبل المجرمين في شركة (كاربنتر)، الّتي عملت فيها، وساهمت في كشف بعض الحقائق مع آدم وجورج؛ حول التّجارة بالأعضاء داخل الشّركة، واستخدام الأدوية الفاسدة.
آدم البطل أحبّ شمس وأحبّته؛ وأضاءت حياته من جديد، بعد فشله من حب “هانا” جارته. شمس أحيت قلبه من جديد ” تأكّدت أخيرًا أنّها الضّياء الأبدي؛ لكنّي كنت أنتظر الظّروف الّتي تضمن أن يظلّ ضياؤها متوهّجا” ص220. برأيي قتل شمس في نهاية الرّواية، له دلالة رمزيّة سلبيّة حول قتل الأمل في روح آدم، وفيه نظرة التشاؤم نحو المستقبل والانهزام، واستمراريّة الوقائع المؤلمة كالعنف والفساد وغيره. الشّمس والنّور دلالاتها الضّوء وانقشاع الظّلام.
على الرّغم من وفاة شمس، إلّا أنّ الكاتبة انتصرت للخير في نهاية الرّواية؛ بأن آدم افتتح عيادة طبيّة؛ لمعالجة المرضى المحتاجين، كذلك افتتح مكانًا لبيع الزّهور لأخته سيلينا، الّتي حقّقت حلمها الكبير؛ وعمل فيها سام الشّاب من ذوي الاحتياجات الخاصّة.
ظهر بعض التّكرار في الرّواية، مثل وصف الحياة القاسية، الّتي عاشها آدم، وتذمّر آدم من هذه الحياة، ولوم أبيه على خيبته في بداية حياته، كما ورد ص48 ” أظنّني سألومك يا والدي، لِمَ علّمتنا الأمانة صفة فاضلة لقد تغيّر الزّمن، عليك أن تكون ذئبًا حتّى لا تأكلك الذّئاب، الذّئاب تنهشك من كلّ صوب” كذلك ” الموضوع باختصار انّني حشرة حقيرة، لا تساوي شيئًا بهذا العالم، من أين آتي بقيمتي؟ لا سند ولا مال ولا وظيفة تشفع لي، لأصرخ عاليًا؟”؛ رُبّما وجدت الكاتبة عبيد بضرورة التّكرار في الرّواية؛ للإشارة المُلّحة بوصف صعوبة الحالة، فاعتبرته – الموتيف – بالرّواية!.
“منارة الموت” عنوان اختارته الكاتبة؛ نظرًا لذكر اسم المكان أي شركة (كاربنتر إخوان) الّتي تمّ فيها اختراق الممنوع، من التّجارة بالأدوية الفاسدة، والاتّجار بالأعضاء البشريّة؛ هذا المكان كان فرعًا لمافيا، وبؤرة فساد واستغلال الموظّفين الضُعفاء وذوي الاحتياجات الخاصّة؛ لتنفيذ عماليّات القتل والفساد المذكورين آنفًا.
برأيي يبدو لي بأنّ هذا العنوان ملفت للإنتباه، وموحٍ للعنف والحزن، وتفوح رائحة الموت منه؛ فهوعنوان قاسٍ على النّفس، اقترح اختيارعنوان آخر بعيدًا عن الموت والعنف.
سُرِدت هذه الرّواية بلغة بسيطة وسلسة رزينة ومحافظة، مُطعّمة بالمحسّنات البديعيّة، فهي تساهم في جذب اليافعين لقراءتها بسهولة واستمتاع.
تُعتبر هذه الرّواية ملائمةً لجيل اليافعين وما فوق؛ نظرًا للاقتداء ببطلها (آدم) الّذي ثابر وانتصر على إعاقته، بالتّعليم والوصول لدرجة عالية من العلم، والعمل في مجال الطّب؛ والتّبرّع لمساعدة الفقراء والمحتاجين، ومن ثمّ انتصار الخير على الشّر؛ والتوصّل للخليّة الإجرامِيّة ومنعها من التّفشّي في المجتمع.
من الممكن اعتبار شركة (كاربنتر)، وانعكاساتها، مجتمعًا مُصغّرًا، داخل دولة كبيرة؛ فقصدت الكاتبة التسليط على هذه الفئة من المجتمع، ومعرفة مصير الفساد الزّائل.
وقالت نزهة أبو غوش:
الشخصيّات في الرواية:
شخصيّة بطل الرّواية، آدم راوٍ بضمير الأنا، شخصيّة نامية ومتطوّرة، واعية لكلّ ما يدور حولها؛ ديناميّة متحرّكة.
آدم هو الشخصيّة الّتي أطّرت حدود الرواية وأحداثها المتسلسلة. كان واضحا للقارئ صورة آدم من الخارج، هو ذلك الفتى الأعرج قليل الحيلة، يعيش في بيئة فقيرة جدّا، لا تتوفّر له ولأسرته أقلّ الاحتياجات الأساسيّة.
لأنّه الشّخصيّة الدّاخليّة فقد استطاع الرّاوي أن يظهر لنا جوانبه الفسيولوجيّة بدقّة مفرطة: الحزن، والخوف والقهر ممّا يعانيه من سخرية المجتمع الّذي حوله، وخاصّة طلّاب المدرسة. من بداية الرّواية حتى نهايتها لم يتوقّف الرّاوي عن تعبيره عن نفسيّته المتعبة من أفراد المجتمع، وعن قلقه تجاه مستقبله المحكوم عليه بالفشل؛ لأنّه يدرك تماما خلفيّة عائلته الفقيرة ووضع والده، بائع الذرة.
من البديهيّ أن تكون تلك الشّخصيّة واضحة ومنكشفة أمام القارئ؛ لأنّ استخدام ضمير الأنا أعطتها حريّة التّعبير عن الذّات؛ بينما أغلقت أمامها الانفتاح على دواخل شخصيّات أخرى في الرّواية؛ لأنّه ليس بالراوي الّذي يعلم كلّ شيء ويتحدّث بضمير ال (هو ) الّذي بإمكانه أن يكشف أمام القارئ كلّ ما يعتمر ضمير الشخصيّة.
هناك شخصيّات لم تنكشف تماما أمام القارئ، نحو الشخصيّات الّتي حملت الإعاقات الفسيولوجيّة المختلفة، وهي من عمّال المصنع؛ وخاصّة أنّها كانت الشّخصيّات الضّحيّة. كيف اختفت؟ ماذا كانت تعرف؟ لقد حملت تلك الشخصيّات قضيّة، بيع الأدوية الفاسدة والتّجارة بالأعضاء البشريّة. لماذا لم تدافع عن تلك القضيّة الرّهيبة من الدّمار والفساد في المجتمع؟ ماذا كانت تشعر؟ ما هي طموحاتها، وأحلامها؟ ماذا كانت تخفي في داخلها؛ خاصّة وأنّ كذلك شخصيّة الأمّ والابّ ظلّت شخصيّتاتهما ثابتة وغير ديناميّة لم يتّضح ما بداخلهما تماما من توقّعات وطموح، وتدخّل في حياة أبنائهم، خاصّة آدم الّذي يعاني من إِعاقته.
من المنطق ألا تقحم الكاتبة روايتها في الأمور الفلسفيّة، أو الحكم، أو الّتي تتعلّق بالتجربة والثقافات المختلفة وغيرها؛ لأنّ الرّاوي مجرّد مراهق قليل الخبرة.
عندما استخدمت الكاتبة في نهاية فصول الرواية تقنيّة جديدة، حيث تحدّثت بعض الشّخصيّات بصيغة الأنا نحو شخصيّة جورج، وشخصيّة هانا؛ حيث كشفت تلك الشّخصيّات عن نفسها بشكل مختصر.
بالنسبة للصّراع بين الشخصيّات، كان صراعا داخليّا مدفونا بالنسبة لمعظم الشخصيّات؛ بينما عظم الصّراع وازداد حدّة في شخصيّة جورج، الّذي فقد والدته نتيجة تناولها الدّواء المغشوش؛ لذلك فقد حياته مقتولا من قبل المجرمين الفاسدين؛ من أجل إخفاء سرّهم الّذي اكتشفه.
شخصيّة الكاتبة انعكست بالإيجابية الّتي ظهرت في أحداث الرّواية: العطاء والإشفاق على المحتاجين والفقراء والإحساس بشعورهم، ومحاولة رسم البسمة على شفاههم، وخاصّة الطّفل سام صاحب متلازمة داون…الخِ.
وقالت د. روز اليوسف شعبان:
الأوتوبيا في الرواية
يدلّ عنوان رواية “ منارة الموت” على مفارقة كبيرة، فالمنارة تضيء الطريق للسفن والطائرات، فتنقذها من الغرق والسقوط، أمّا الموت فهو النهاية والسقوط.
فهل أرادت الكاتبة من خلال هذه المفارقة في العنوان أن تشير إلى ظاهرة الغش والخداع والقتل الذي يرتدي حلّة من النور والبهاء؟
تعكس الرواية حالة المجتمع الذي يعيش فيه الفقراء والبؤساء والمعاقون، ومعاناتهم الكبيرة من أجل الحصول على لقمة العيش، مقابل الأثرياء الذين لا يقنعون بثرائهم فيتحايلون على الناس بشتى الطرق من أجل زيادة ثرواتهم.
وقد مثّلت لطبقة الفقراء والبؤساء الطفل المعاق آدم الذي يعاني من قصر في إحدى ساقيه، يعيش مع والدته وأبيه وأخته في غرفة واحدة. تعمل والدته خادمة في بيت أحد الأثرياء، بينما يعمل والده بائعًا للذرة.
اضطر آدم للعمل رغم صغر سنه وإعاقته، فعمل في أحد المقاهي، وفيه تعرّف على والد الطفل سام، الذي شكا له معاناته وصعوبته في تربية سام بعد وفاة والدته خاصّةً أنّه يعاني من (متلازمة داون)، وهي متلازمة وراثية خلقية ناتجة عن خلل في الكروموسومات (جسيمات تحتوي على مادتنا الوراثية). يبدو الأطفال المصابون بمتلازمة داون متشابهون، قد يعاني المصابون بمتلازمة داون من سلسلة طويلة من الاختلالات والعيوب، بما فيها التخلف العقلي.
قرّر آدم مساعدة سام وإدخال الفرح إلى قلبه ورسم الابتسامة على وجهه. فكان يذهب إليه ويقضي معه وقتًا في اللعب والضحك حتى تعلّق سام بآدم، وكان ينتظره يوميّا بفرح. كما أنّ آدم ساعد والد سام في إيجاد إطار لابنه سام بعد أن رفضت المدارس استقباله بحجّة عدم وجود إطار مناسب له فيها.
أحبّ آدم جارته هانا، وكانا صديقين حميمين يذود عنها ويحميها من أولاد الحارة، لكنّ هانا بعد أن كبرت وتعلّمت في الجامعة تنكّرت له وتزوّجت من شاب وسيم وثريّ. كان آدم يتابع أخبارها مما يراه ويقرؤه في صفحتها في الفيس بوك، ثمّ حدث الطلاق بينهما بعد اكتشاف هانا خيانته لها، فتواصلت مع آدم من خلال الماسنجر وطلبت لقاءه وأعربت عن حبّها له، لكنّ أدم رفض العودة إليها.
عمل آدم أيضًا في أحد الفنادق فكان يحمل حقائب الزبائن ويوصلها إلى غرفهم، وهناك تعرّف على ندى التي ساعدته في ايجاد عمل في شركة الأخوين كاربنتر وهي شركة تبيع الأدوية، وتطوف سيّاراتها في القرى الفقيرة لتوزيع المؤن والمساعدات للعائلات الفقيرة.
تعرّف أدم على جورج ورمزي ورايان الذين كانوا يعملون في نفس الشركة في قسم تغليف الأدوية. يومًا بعد يوم يتضّح لآدم أن هذه الشركة كانت ترتدي قناع الإنسانية ومنارة الحياة في حين كانت في الواقع منارة للموت. فقد استغلّت هذه الشركة عمالها واستعبدتهم دون إعطائهم أدنى الحقوق وعملت في تجارة الأعضاء وبيع الأدوية الفاسدة.
وحدث ذات يوم أن سقط رمزي في الحمام فرفض المسؤولون علاجه، بل ولم يسمحوا لأصدقائه بإيصاله إلى البيت، ثم قاموا بفصل رمزي من العمل، وحين احتج رمزي وحاول التوجّه للقضاء قاموا بخطفه وإخفائه. كما قام المسؤولون في هذه الشركة بقتل رايان، الذي حاول الدخول الى الشركة ليلا لرصد الشاحنة التي كانت تأتي وتفرغ حمولتها من الأدوية الفاسدة والجثث بهدف التجارة في أعضائها. أما جورج فقد ماتت والدته بسبب دواء فاسد تناولته من هذه الشركة، وكذلك ابنة رايان التي ماتت لنفس السبب.
كان جورج صحفيًّا ثريًّا ورث ثروةً عن والده ، وقد تمّ طرده من الصحيفة لأنه كان يكتب مقالات معارضة للنظام، فعمل في شركة الأخوين كاربنتر بغية الوصول إلى أدلّة تدينهم بالفساد والتسبب في قتل المرضى، لكنّ جورج لاقى مصير صديقيه رايان ورمزي وتمّت تصفيته، وذلك بعد أن أسس مجموعة أطلق عليها” نصرة المظلومين” .كما قام جورج بتصوير الشاحنة (شاحنة الموت)، وكان فيها طفلة (ضحيّة).
كان جورج يتّصف بالرقّة والانسانيّة، فتعامل بلطف مع أدم وأقنعه بالعمل لديه في قصره، وساعده في الحصول على منحة دراسيّة، فتعلّم آدم الطب وتخرّج طبيبًا، لكنه لم يجد عملا بسبب وضعه الصحيّ، فتابع دراسته ليصبح مدرّسا في كليّة الطب، ثم تبرّع له أحد صنّاع البسمة بعيادة في مبنى صغير، استقبل فيها الفقراء الذين لا يستطيعون دفع الرسوم. كما كان يقوم بزيارات عديدة لبيوت معدمة؛ كي يصنع البسمة التي أخفاها العوز والفقر. ورغم انتقاد والده له إلا أنه كان يقول لنفسه:” كيف سيدرك والدي أن رسم البسمة على شفاه طفل لا تضاهيها كل أموال الدنيا؟” ص 224.
أما عائلة كاربنتر فقد حدث خلاف بين الأخوين تنافسا في التشهير ببعضهما، خرجت ملفات الموت، خرج العمال ضد الأخ الذي ثبتت عليه تهم الفساد وتجارة الأعضاء. تنفس العمال الصعداء، وبعد أن تمّ اعتقال المفسدين تغيّرت الإدارة ووضعت قوانين جديدة للعمل لم تأت بما يناسب مصلحة العاملين. ذهب فاسد وأتى من هو أكثر فسادا.
تنتهي الرواية بتواجد سام على تلّة جمعت ربيع الكون، كان سام يلتقط الفراشات يضحك عاليا تقول عيناه:” سترتفع راية العدل يوما فوق جثث الطغاة، فوق أنهار دماء الظلم، ستتعالى يوما ضحكة تمحي الظلام، ستخترق السماء أغنية تصدح عاليا، ستنتصر البسمة أيها الطغاة”. ص 234.
السرد في الرواية:
تركّز الرؤية السرديّة في رواية منارة الموت على صوت المتكلّم، فالراوي يقع في مركز الحدث ويقدّم ما حدث له، كما يدور الحدث حول شخصيّته، فهو الذي يرى، وهو الذي يتكلّم فيحكي عن أناه. ويتمّ التركيز على شخصيّتين تتولّيان إنجاز السرد، هما جورج وهانا ؛ معنى هذا أنّ دور كلّ منهما يأتي ليكشف عن عمق الألم ومدى الضياع.
تستخدم الكاتبة هناء السرد المباشر بلسان الراوي ولسان شخصيّات أخرى في الرواية، لتتيح الفرصة لهذه الشخصيّات رسم معالمها، من خلال عالمها الشعوريّ والمونولوج الداخليّ. ينطلق الراوي-البطل، في معظم فصول الرواية بتبئيره السرديّ إلى داخله، ويعني أنّ صورة “الأنا السارد تستأثر ، وتغدو الرواية كأنّها ضرب من السيرة الذاتيّة، إذ يصبح الراوي واحدًا من الشخصيّات. وتتشكّل هذه الرؤية السرديّة من الداخل (الرؤية مع)، وتتّضح معالم الداخل للرّاوي من خلال التبئير الداخليّ بسيطرة الأحلام. وتأتي هذه الأحلام عادةً مُمثّلةً لأهواء الراوي وطموحاته . إضافة الى الحوار الداخلي فإننا نجد في الرواية حوارا خارجيّا مباشرا ويأتي الكلام المباشر في الرواية، من خلال حوارات الشخصيّات، متنوّعًا في الوظائف وفي صياغة اللغة ومعجمها. فنجد هناك حوارات تكتسي طابعًا فكريًّا وفلسفيا كما في الأمثلة التالية :” يقول جورج لآدم:” العنف يقاوم بالعنف، والحق يؤخذ بالقوّة”. ص 226. أمّا آدم فيقول لجورج:” أنت يا جورج تعنّف من بدأ العنف.. أنا أبحث عن ضحايا العنف، وأنت تبحث عن جذور العنف، من مخطئ منا؟ حقًّا لا أدري”. ص 227. :” تقول لي يا جورج أنت تصنع البسمة يعني أن تقلع الضرس المنخور أولا وأنا أقول: حين يتعذر قلع الضرس فلتخدّر الألم بالبسمة كلانا يسير نحو النور لكن بدرب مختلف”. ص 227. .
الرموز في الرواية:
رمزيّة العنوان: يرمز عنوان الرواية المنارة والموت إلى القناع الذي يرتديه أصحاب النفوذ والثروة، فيبدون في صورة جميلة إنسانيّة معطاءة في حين يضمرون الجشع والفساد والنفاق ويتّبعون كل الوسائل من أجل الوصول إلى غاياتهم وتوسيع نفوذهم وثروتهم على حساب الطبقات العاملة المسكينة ضاربين بكل القيم الإنسانية عرض الحائط.
آدم: يمثّل آدم المواطن العاجز المعاق الذي يعاني من الفقر والحرمان، إلا أنه رغم ذلك يرفض الذلّ والانحناء لأصحاب النفوذ، كما يفعل سائر المغلوبين على أمرهم. وهو يمثّل التحدّي والصبر والانسانيّة والعطاء. وآدم هو الإنسان الطموح الذي يحلم بتحسين ظروفه المعيشيّة والحصول على شهادة جامعيّة و،العيش بكرامة والعمل من أجل إسعاد الآخرين وزرع البسمة على وجوههم. و نجاح آدم في تحقيق أحلامه رغم عجزه، إشارة من الكاتبة إلى أهميّة الكفاح والنضال بالطرق الإنسانيّة. فبالحبّ والعطاء والصبر والايمان والكرامة يمكن لكل إنسان حتّى المعاق تحقيق طموحه وأحلامه.
هانا: ترمز هانا إلى الشريحة من المجتمع التي تخدعها المظاهر البرّاقة والغنى الفاحش، فتسعى وراءه لتكتشف بعد ذلك زيفه وخداعه.
أُم آدم: ترمز أم آدم إلى المرأة المكافحة الصابرة الوفيّة لبيتها وزوجها وأولادها، تعملّ بكل إخلاص حتى لو كان عملها خدمةً في بيوت الأثرياء، فغايتها حماية أسرتها من الجوع والضياع. وهي إلى ذلك تحتمل إهانة زوجها لها من أجل الحفاظ على أسرتها.
والد آدم: يمثّل والد آدم الذي يعاني من عجز وحدبة في ظهره، إلى الشريحة المعاقة والعاجزة في المجتمع التي تنحني للأسياد وتخضع لهم وترضى بالذلّ، ولا تفكّر في تحسين ظروف حياتها وعملها أو مواجهة الفقر. فوالد آدم بقي يبيع الذرة على عربته المهترئة، يتلقّى كلّ يوم الاهانات من الأولاد وكثيرًا ما كانوا يضربونه بالحجارة على حدبته لكنّه لم يفكّر يومًا في الدفاع عن نفسه. ورغم عزوف الأولاد والناس عن شراء الذرة المشويّة منه بسبب عدم نضجها إلا أنّه لم يفكّر يومًا في تحسين جودتها وشيّها جيّدًا. بل بقي كما هو قانعًا بالقليل.
جورج: يرمز جورج إلى الطبقة المتعلّمة المثقّفة الملتزمة التي تتسم بالعطاء والإنسانيّة والتي تنتقد النظام الفاسد لكنّها تواجَه بالعنف والطرد من مكان العمل، فجورج يمثّل الثورة على النظام والفساد ومحاربته بالعنف بعد أن فشل في محاربته بالكلمة، لكنه استمرّ في المقاومة بطرق أخرى كتأسيس جمعيات من أجل نصرة المظلومين، وملاحقة الفاسدين وتصوير مشاهد من الفساد، ونشر ذلك في صفحته في الفيس بوك بعد أن خذلته المحاكم والقانون، وقد تم اغتياله من قبل أصحاب النفوذ.
إن اغتيال جورج يعني اغتيال الثورة وهذا ما لا نريده، فالثورة على الطغاة والفاسدين يجب أن تنتصر في نهاية المطاف.
شمس: ترمز شمس إلى الشريحة الضعيفة في المجتمع التي تحاول بذكائها الحصول على عمل والعيش بكرامة. فشمس نجحت في العمل في شركة كاربنتر بعد أن أحضرت شهادة مزوّرة تثبت أنّها صمّاء وخرساء، ومعروف أن هذه الشركة كانت تفضّل أن يكون عمّالها من هذه الفئة المعاقة الضعيفة التي لا يمكنها مواجهة الفساد والظلم..
عائلة كاربنتر: تمثّل هذه العائلة الأنظمة الفاسدة في العالم ومن بينها العالم العربيّ، فأصحاب الثروة والنفوذ يستغلّون الشعوب ويمتصّون دماءهم من أجل الحفاظ على نفوذهم وثرواتهم. ورغم ثورة العمّال ضد الظلم واعتقال أحد الأخوين المتهم بالفساد والتجارة في الأعضاء، وتغيير الأنظمة والقوانين، إلّا أنّ النظام بقي هو ذات النظام الفاسد. وفي ذلك إشارة ذكيّة من الكاتبة إلى فشل الثورات العربيّة بما يسمى الربيع العربي ، فقد استبدلت أنظمة الحكم بأنظمة جديدة أكثر فسادًا.
إجمال:
تطرح الكاتبة هناء عبيد في روايتها منارة الموت قضيّة الجشع والظلم والاستعباد مقابل الانسانيّة، العدل، العطاء وزرع البسمة في وجوه الآخرين. ولعلّها بذلك تتمنى أن تصل إلى المدينة الفاضلة التي حلم بها أفلاطون، والتي بموجب رؤيته الفلسفية يرى أن تحقيق المدينة الفاضلة منوط بوجود ما يشبه الإشباع والاكتفاء الذاتيّ. أي أنّ علاقة أفراده تقوم على التبادل والتكامل وإشباعهم لاحتياجات بعضهم البعض. فاحتياج كل فرد منهم للآخر هو الرابط الأمتن بينهم والضامن الأقوى لترسيخ مبدأ المساواة وعدم الاستعلاء. (من موقع لماذا الإلكترونيّ). فهل يمكن حقّا تحقيق هذا الحلم ؟ وهل يمكن لصُنّاع البسمة تحقيق العدل والمساواة وإعادة الانسانيّة المفقودة؟ وهل يمكن حقًّا القضاء على جشع الانسان وطمعه وتحقيق العدالة المنشودة؟
ومن لبنان كتب عفيف قاووق:
هناك تجاذب بين الفقر والمصائب، يتعانقان بشدّة، يشبه تجاذب الفساد والثراء الفاحش الغامض، هذه المعادلة التي توصل إليها آدم والتي رغب في تغييرها وقلبها، ليحقق معادلته الخاصة وهي أن ينعم بالثّراء النّابض بالشّعور، الثّراء المحمود الّذي ينصت إلى أنين الأشقياء بشغف، الثّراء الّذي يمسح دمعة بائس.
رواية منارة الموت للكاتبة هناء عبيد، تُمثل رحلة آدم وتصميمه على إنتشال نفسه من بؤرة الفقر والعوز، متسلحًا بالأمل والقدرة على التغيير إذا توفرت الإرادة، وأيضا يُبيّن لنا زيف الأقنعة التي تساقطت عن الوجوه وفضح ممارسات أصحابها.
تتطرق الكاتبة في روايتها منارة الموت إلى مسألة التنمر، من خلال كيفية تعامل الصّبية مع آدم الذي يعاني من إعاقة في إحدى رجليه، فكانوا يسخرون منه وينادونه بأبو رجل مسلوخة، يقول” آدم لم أسلم من أذى الصّبية، طلبوا منّي أن أركل الكرة، لم أستطع أن احتفظ بتوازني سقطت على الأرض وانغمس وجهي بالطّين”. هذا التنمر لم يكن مقتصرا على الصّبية أو الصغار بل نجده أيضا لدى الكبار الذين يرون في أنفسهم ما يميزهم عن بقيّة البشر كوالد نُوى الذي كان يأمر آدم وأمه بالجلوس على الأرض، ويقول لزوجته الأرض موقع هؤلاء، لا يجب أن يتطاولوا يومًا على أسيادهم وإلّا تمرّدوا.
تبين لنا الرواية أيضا شخصية آدم المشحونة بالتحدي والأمل ورغبته في تغيير واقعه نحو الأفضل، يخاطب نفسه قائلا: الانكسار تعافه نفسي، لن أنكسر يوما أمام أي أحد، واليوم الذي سأنتقم فيه من كلّ من مرّغ أنفي في الوحل سيأتي حتمًا، كما أنه عندما شاهد الصورة التي تجمعه بنُوى الذي يحمل الكرة وهو يحمل سلّة الغسيل، عاهد نفسه انه سيستبدل هذه الصورة يوما بأخرى يحمل فيها الكرة وسلّة فاكهة ليوزّعها على أطفال القرية المساكين.
لم يتقبل آدم ان يكون عبئًا على غيره، فيسأل نفسه” ما الّذي يجعلني أنتظر صدقة من آخرين وأنا لدّي القدرة على العمل؟ لا أحبّ صدقة أحد، ما أبشع الظّروف الّتي تجبرنا على قبول ما لا نرغب فيه”. ولأجل تحصيل رزقه عمل صبيّ قهوة وضاعف مدخوله بصناعة عقود الياسمين، ثم عمل صبي فندق، وعاود إكمال دراسته الجامعية وتخرجة من كلية الطب. كما ان إعتزازه بنفسه جعله يرفض الخضوع والطاعة العمياء، فالجميع متساوون في نظره، من هنا فهو يرفض الإنحناء لصورة الرئيس سواء رئيس البلاد أو رئيس المصنع، ويتساءل عن رئيس البلاد “من يكون هذا الرّجل؟ أهو مبعوث الله من السّماء أم مخلوقٌ من معدن ذهب”؟ ويقول حينما تنحني لشخص وأنت تعلم أنّه يأكل قوت يومك ويسرق حليب أطفالك فأنت شريكه في السرقة، فالخنوع إجرام والذّل ذنب.
قدمت الرواية آدم بشخصية المُحب والعطوف الذي يسعى جاهدا لمساعدة الآخر؛ ليستحق بجدارة لقب صانع البسمة كما سماه صديقه أبو الأحزان. حاول آدم إدخال البهجة على الطفل سام وهو من ذوي الإحتياجات الخاصة، وعمل على تأمين المساعدة والرعاية الاجتماعية له.. وفي الشأن الأسري نلحظ العلاقة الوثيقة بين آدم ووالدته جودي التي يخاطبها بالقول: “جودي يا نورًا تسرّب من بين الغيوم وأشرق دنيانا، سأعود يومًا لأجعلك سيّدة الأرض” وأيضا فهو شديد التعلق بأخته الصغيرة، وحرصه على مساعدتها وإدخال البهجة الى نفسها. إلا ان ما نقف عنده هو علاقته المضطربة مع والده خصوصا والرجل عموما، مثلايقول عن والده ” مسكين أبي، أسدٌ علينا وفأرٌ أمام الآخرين” وأيضا عندما تكلم عن جده لأمه جودي يصفه بالكسول المشبع بالنذالة؛ لأنه اختار ابنته جودي لتتحمّل المسؤوليّة قبل اشتداد عودها. ومن ناحية أخرى تبرز الرواية أمانة وأخلاق آدم التي منعته من الإحتفاظ بسوار الماس الذي وجده وأعاده لصاحبته، كما تشير إلى حسن المعاملة والتصرف مع الفتاة شمس.
ظاهرة تكاد تكون شائعة في معظم مجتمعاتنا وهي ما يسمى بالجمعيات الخيرية التي تقوم بتوزيع المساعدات المجانية على المحتاجين، ولكن المتتبع لنشاط هذه الجمعيات يكتشف انها تمارس أعمال التجارة وجني الأرباح بصورة مواربة، وهذا ما تقوم به شركة الأخوين كاربنتر من خلال شاحنة محملة بالمساعدات، يفترض أن توزّع على الفقراء مجّانًا، ولكن ما يحدث هو توزيع الجزء الأقل منها مجّانا وتحويل الباقي إلى المحال التجارية المملوكة أصلا من الشركة حيث يلاحظ وجود مثل أنواع هذه المساعدات في المحال التجارية التي تبيعها بأسعار عالية، للمواطنين. كما ان رئيس البلدية يستحوذ على قسم من هذه المساعدات؛ ليعاود توزيعها باسمه خلال فترة ترشحه للإنتخابات.
كما تشير الرواية إلى ظاهرة الفساد والمتاجرة بصحة المواطن من قبل شركة كاربنتر والتي تشكل فرعا من فروع مافيا الدواء، حيث تقوم بترويج أدوية منتهية الصلاحية وفاسدة، أودت بحياة الكثيرين ومنهم والدة جورج وابنة ريّان بعد تناولهما أدوية توزعها شركة كاربنتر، ولم يقف استهتار شركة كاربنتر عند حياة المواطنين، بل وصل إلى الاستخفاف حتى بحياة موظفيها عندما انزلقت رجل الموظف رمزي خلال تأديته عمله، ورفض مديره طلب الإسعاف ومعالجته على نفقة الشركة، بل تم الاستغناء عنه دون أية تعويضات، ولم تكتف الشركة بهذا الإجراء التعسفي بحقه، بل عمدت إلى خطفه، ولا يعلم عنه شيئًا، واختفت معه كل الأوراق والمستندات التي كان يجمعها؛ لتسليمها للمحامي لرفع قضية على المصنع. بعد أن حاول فضح ممارساتها عبر منشوراته على صفحة الفايسبوك. وكذلك فعلت الشركة مع زميليه جورج الذي كان يحارب بقلمه، وأسس مجموعة من العمال للإعتراض على ما يحدث، فكان نصيبه رصاصة أودت يحياته.وهي حال زميله ريّان أيضا، والذي إختفى بعد محاولته كشف سر الشاحنة الليلية المحملة بمواد مشبوهة.
في جانب آخر تظهر الرواية أيضا وجهة نظر هانا في تخليها عن حبها لآدم، وبحثها عن فارس أحلام يحقق لها طموحاتها فتقول:” بقي آدم صبيًا لا يغري طموح أيّة أنثى. ولم أحلم يومًا بأن أعيش كما أمّي بثيابها الممزّقة، أريد أن أمسك شعاعات الشّمس بيديّ، العتمة تقتلني والفقر يقرصني، لا أريد أن تختبىء بسمتي خلف حرمان. قسوت كثيرًا على آدم، عشت صراعا تغلّب فيه حلمي بمرافقة أمير ساندريلا على حبّي لصبّي المقهى. لا أدري إن كنت أنانيّة أم عقلانية.
كما لم تغفل الكاتبة الإشارة الى الإدمان على إستعمال وسائل التواصل الاجتماعي، التي أدخلت الفرد في عالم الجنون والسحر بجهاز يصله مع كلّ سكّان الأرض، لكنّه يعزله تمامًا ليعيش في قوقعة وأوهام هلاميّة وبشخصيّة لا تشبههُ. ناهيك عن بعض النتائج الكارثية أحيانا نتيجة هذا، فتشير الرواية إلى انّ احد تلامذة المدرسة دفع عمره لهذا الجهاز، بينما كان يمشي في طريقه كان يضع السّماعات على أذنيه فإذا بالقطار يطرحه صريعًا.
ختاما يبقى السؤال قائما كيف سنواجه؟ هل المواجهة تكون كما يقول آدم “ستكون البسمة سلاحي الوحيد حينما أنشرها على شفاه البؤساء، لتكون السّكين في خاصرة الطّغاة الذين يغتالون الحياة من الوليد في مهده، ويسرقون زجاجة الحليب من فم الرضيع، ويقتلون الحلم قبل ولادته. أم أننا ننحاز إلى وجهة نظر زميله جورج القائلة بأنّ الظّلم لا يعرف البسمة، العنف لا يقاوم بشفاه تكشف عن أسنانها ببلاهة، العنف يُقاوم بالعنف والحقّ يؤخذ بالقوّة
لا بد للقارىء من التوقف عند بعض العبارت الجميلة والمعبرة التي احتوتها الرواية ومن هذه العبارت نذكر ما يلي :
- كلّي يقين أنّ ظهرك المحدّب قد يكون ملاذا أكثر قوة منّي، حينما يُمَكِّن الحجارة الموجّهة الى وجهك بالانزلاق عنه 12
- خشيت أن يتلوَّث البلاط اللّامع من انعكاس وجهي عليه.14
- أم نوى تبدو لامعة بثوبها الزّهريّ المزيّن بالرّيش، وأمي يلتصق بثوبها ريش الدّجاج المتطاير من قفص دجاجات أمّ هانا.14
- أجد صعوبة بداية الأمر في الجلوس على الكرسيّ لتناول الطّعام، فقد تعوّدت وأسرتي الأكل على الأرض.24
- لو أستطيع ركله ( والد نُوى) بحذائي المتّسخ الّذي أراه أكثر نظافةً من وجهه القبيح25.
ومن المغرب كتب حسن المصلوحي:
يبدو أن النصوص الأدبية التي تعالج مأساة الإنسانية لن تتوقف يوما عن التناسل واحدا من ظهر آخر، مادامت هاته المأساة رفيقة الإنسان منذ الأزل، إن هاته الرواية تكشف بكل وضوح ما رمى إليه عدد من الفلاسفة والمفكرين، فهذا “بليز باسكال” ينظر للكائن البشري بعين الشفقة، فنحن وإن كنا أعظم الكائنات وأرقاها منزلة إلا أننا أكثر هاته الكائنات مدعاة للشفة، فكلنا نعيش في هاته الحياة على شكل وجع وفجيعة كما هو الشأن مع “آدم” و “أبو الأحزان” وهانا وكل الكادحين الذين يطفحون التراب غصبا وقهرا، يختصمون الجوع ولا عدالة فوق الأرض تنصف نهمهم للوجود الحر الجسور، كلهم يتلظون النار، والمصيبة أنهم جميعا يستطيعون تصور حياة خالية من الشر والغدر وتنكيل الإنسان بالإنسان، كلنا نستطيع تمثل حياة فاضلة جميلة سعيدة، يمسح فيها الخل الدمعة عن عين خله، لكننا في الآن نفسه -و هنا المفارقة- لا نستطيع منع هذا الألم وهاته المأساة من أن تقتلنا في كل يوم.
إن ما وسمت به الكاتبة شخصية “آدم” في الرواية من سمات تعبير عن النبوة الصافية من المشكاة الإلهية بطهرانيتها، آدم الأب الأكبر الذي جبل على المحبة والخير والسلام، وهو ذاته الذي غواه الشيطان فزل وزلت معه زوجه حواء، وهذا الشيطان “الفكرة” رافق آدم في رحلته القسرية نحو الأرض، فأصبحت الفكرة “الشر” مشاعا بين بني البشر، حيث النفوس المريضة التي تمرغ البراءة في الوحل وتضحك على المشهد، والشر عند كاتبتنا لا يسكن الكبار فقط بل للصغار أيضا نصيب منه، فلم نجد أبا نوى أو مدير آدم هما الشريران فقط، بل أيضا أطفال الحي الذين يتنمرون على الكبار قبل الصغار، أفليس الطفل الصغير شيطانا كبيرا؟ أليس الشر وراثة، يرثه الصغار عن الكبار؟ نعم، الصغار أيضا يمكن أن يكونوا أشرارا في بيئات تكرس العنف والاحتقار وقانون الغاب، فوجدتني في كثير من صفحات الرواية وكأنني أعيد قراءة سيرتي الذاتية “الرغيف الأسود”، هنالك في براثن النفس البشرية التي اختارت الظلمات مقاما.
توغل الرواية في رسم تفاصيل المجتمعات الكادحة وما تشهده من عوز وعجز، عجز منقوع في المهانة و الدونية، عجز أمام الرغيف وأحلام يذروها الواقع كما تذرو أوراق الأشجار رياح الخريف.
إن تنقل آدم ومشاهد الإنسانية عبر هاته التحولات بين أزقة القرية وطرقات المدينة ومحلات العمل تعبير عن التوازي الدائم بين الخير و الشر، بين الحب والكراهية، بين السلام والحرب، بين الحياة والموت، فطريق الحياة لم تكن يوما ممهدة بالياسمين، بل بعوائق الموت، فالفقراء في الرواية منذورون للموت في أي لحظة، لكن رسالة الرواية كانت نبيلة وراقية، مؤداها ألا تسمح لأي كان بأن يمتهنك حتى وإن كانت نهايتك موجهة، فما أشهى الموت إذا كان على درب الكرامة، فرأينا آدم على غير طريق والده يهتدي للكبرياء ولا يخنع في طريق المنبطحين الآكلين المهانة.
لم تنس الروائية أن تضعنا أمام إحراجات ومفارقات كثيرة صارخة في الرواية، حيث ترسم أمامنا مثلا قرية رسمتها يد كائل بمكيالين، أكواخ جائعة في الجنوب وقصور متخمة في الشمال، فيها أطفال من جوع ووجع وآخرون من لذة ومتع، فبأي روح سيواجه آدم الحياة وهو يرى صديقه في سعادة وهناء وسفر بينما هو في غم وهم وكدر؟ كيف سينظر للحياة وهو يمعن النظر في رجله المسلوخة وفي حلمه الممسوخ برجل ذهبية؟ حلم يقتات على الأوهام، وأمّ لا تجد حلا غير تصدير الأوهام لفلذة كبدها. الحلم والوهم صنوان في حياة المسحوقين، أولئك الذين خلقوا ليكونوا لعبا في يد المنعمين الذين اغتنوا من أراضيهم واقتاتوا على دنانيرهم. حتى يجد الطفل نفسه في مساءلة قاسية للقدر، يتساءل هل النحس فطرة؟ أم أنه بفعل فاعل؟ وماذا فعل القدر إزاء ذلك؟ ماذا فعل الأب والأم؟ لا شيء. لا شيء، لأنهم لا يملكون من الأمر شيئا.
وآدم في الرواية هو أيضا الدهشة، هو دهشة البراءة من وقاحة الشر، هو الإحساس بغرابة هذا العالم الذي فقد البوصلة، واغتراب الطيبين الأخيار بين القساة الأشرار، فذات البطل تستغرب ما لحق بهاته الإنسانية من شرور صنعتها بنفسها، لأنه ببساطة يريد أن يرى ذاته في العالم، فهو الطيب الموثر الغيري المحب مقابل العالم الشرير الأناني الكاره.
لقد أبدعت الروائية في جعل خلفية الرواية موسيقى مسموعة، إنها سمفونية الشيطان التي تصم الآذان، وتجعل الناس يلهثون وراء مصالح ذاتية حقيرة، مصالح تعبر عن عقم في التفكير، ذلك أن طريق الشر موصدة، فما يجعلك تسمح لنفسك بسرقة إكرامية طفل كادح سيجعل شخصا آخر يقتحم دارك و يسرق أشياءك، فحين نكون بصدد الإقدام على فعل شرير علينا أن نطرح السؤال: ماذا لو فعل جميع الناس نفس الشيء؟
إن القارئ الذي يرهف السمع للنص ليسمع أنينا تفصح به الكلمات، أنين قادم من أعماق الأرواح المعذبة المعلقة على مشانق الأسياد ولا مغيث. إنه ليسمع قهقهات الأثرياء، المنعمين الغاصبين وهم يمازحون بعضهم في مجالس الذئاب. إن هاته الرواية أصوات و نغمات و موسيقى كاملة، موسيقى بألحان مختلفة، فيها لحن الحب و السلام و فيها لحن الخيانة و الغدر، تلتقي فيها النقائض و تتصادم فيها الرغبات، رغبات في الانعتاق و رغبات في الاستعباد و الرابح واحد، إنه الشيطان. و من غيره؟
ظهر في الرواية نزوع واضح للطهرانية والملائكية التي قد يستغربها بعض القراء، ولعل هذا راجع لرغبة الكاتبة في تكريس الصورة المثلى للإنسان، أو لعل مرده قدر هائل من الملائكية يكتنف ذات الكاتبة، فظهرت ألفاظ مستوحاة من عالم الأطفال وصور مشرقة ومزهرة يستجيب لها مخيال الطفل أكثر من مخيال الراشد، وهذا حقها طبعا، فالأدب في جانب منه رسم لعالم يتمرد عن هذا الواقع ولكن شريطة ألا يكون على حساب واقعية العمل.
و من النزوع أيضا الميل البائن للمرأة على حساب الرجل، فالمرأة في الرواية مستضعفة صامدة مرابطة، والرجل باستثناء آدم تقريبا نذل جبان قاسي لا يمتلك مروءة أو شهامة، وهذا أيضا مبرر فالكاتب كيفما كان الحال ملتزم بموقف شخصي، وحين نكتب تكتبنا مواقفنا ومشاعرنا بالضروة، و لكن الواقع كالذي ساقته هناء يشي بأن الجرح واحد، إنه جرح الإنسان سواء كان رجلا أو امرأة، فكلهم في الهم سواء، تبحر بهم باخرة واحدة، اسمها الظلم. و حين يستشري الظلم تميل الأوزان و تخترق النفوس و تستشري أخلاق العبيد، تلك التي لا تهدف إلا إلى النجاة الفردية و بعدها فليكن الطوفان.
كل هذا يعود بنا أدراجنا لغلاف الرواية الذي يأخذنا نحو المحيط المترامي، نحو وقفة إنسان يرمي بيده و ناظريه إلى الأفق، إلى الآخر الموجود هناك في الضفة الأخرى، أن خذني إليك، لا أطيق العيش في هذا المنفى وحيدا، إنه تعبير عن عالم الرواية باعتبارها أنطولوجيا إنسانية شاملة، فيها المنارة المنتصبة هناك، عين الله جل في علاه، الشاهدة علينا في هذا الابحار وبين هاته الأمواج المتلاطمة، عين الحق الذي لا محيد عنه إلا من الذين ظلموا أنفسهم، عين ما يجب أن يكون الشاهد على ما هو كائن وكامن من أهوال، فهذا الانسان “الآدم” يتوق ليبلغ ذاك المراد، السعادة و الحرية، غاية تتطلب بلا شك إبحارا في وجه التيار، طيرانا في الأعالي، و لكن ماذا إذا كان ريشك كنتوفا ومجاذيفك مكسورة؟
وقالت نزهة الرملاوي:
منارة الموت، عنوان لافت رغم تناقض الكلمات، المنارة ايحاء للوصول والنجاة والرؤية الواضحة، والموت كما فهمناه هو ذلك الحق المباغت المجهول، فهل أشارت كلمة المنارة لأولئك الثكالى والمحرومين من نعيم الحياة، المضطهدين من الأسياد واصحاب المصالح وسلطت الأضواء عليهم؟
أم هي منارة المتسلطين المتجبرين بأرزاق البشر، العابثين بأحاسيسهم وخصوصياتهم؟
هل أشارت الرواية إلى المجتمع المقموع من عهد آدم عليه السلام، واختارت اسم النبيّ لبطل الرواية؛ ليذكرنا أن صفات الشرّ والقهر والاستعباد والعنف عناصر موجودة في قلوب البشر منذ نشأت الخليقة ولا زالت، مسيرة لأعمال المتسلطين، معجونة من عرق المكلومين البائسين، في المقابل هل كانت منارة الخير والمثابرة والأمل والتحدي، تسطع بأضوائها أمام المتجبرين، لتحدّ من تهميش الخيّرين ومواصلة حياتهم بكرامة، والعمل على إحياء السعادة في قلوب البشر.
آدم قصة كآلاف القصص الواقعية في المجتمعات التي تتسم بالعنصرية والطائفية، سواء كانت مجتمعات عربية او مجتمعات غربية، وقد تبين من خلال الرواية أن مكان حدوثها كان في امريكا، ذلك المجتمع الذي امتهن كرام السود بسبب لونهم، بالاضافة إلى ذكر عائلة (كابرنتر) بعض الأسماء التي أشارت لحصولها في مجتمع غربي.
عائلة (كاربنتر)، تلك العائلة التي حلم آدم بالعمل في مصنعها، وقد تحقق حلمه ذلك عن طريق ذهابه للعمل هناك بعيدا عن أسرته وأخته الصغيرة، ذلك المصنع الذي كان يمنحهم الصدقات ولكن تنحرف عن أيديهم وتختبئ في جيوب المسؤولين السارقين بالحيّ.
من الملاحظ أن شخصية البطل آدم شخصية متطورة، نامية، لم يمنعه العرج من تحقيق أحلامه، مع أنه كان يتوارى بعيدا حتى لا يراه الأولاد، ويحولون نهاره إلى جحيم بسبب تنمرهم واستهزائهم به، ومن الملاحظ أنه لم يخضع نفسه إلى جلدها، بل كان طموحا متحديا واعيا رغم الحزن المتفاقم في قلبه، شخصية البطل متحركة تعمل على تحريك الأحداث ونموها نحو الأفضل، وفق ما يتطلب الحدث، وربما كانت التساؤلات وجلد الفقر وقلة الحيلة، هي عناصر الصراع الداخلي التي أشغلت فكر المتلقي.
عمل البطل آدم على محاولة نسيان ذكرياته الطفولية، التي اتسمت بالمرارة والقسوة، والتي حملت القهر والذل نتيجة الفقر والضعف في المواجهة.. لأنها كانت سببا في تأزمه النفسي الذي رافقه حتى النهاية.
تطرقت الكاتبة إلى عدة قضايا في روايتها كقضية الأجناس العرقية في المجتمع الأميركي، المتسمة بالعنصرية تجاه المواطنين السود، ونظرات الازدراء والدّونية للآخرين، والمعاناة النفسية والجسدية التي يسببها التمييز الطبقي في المجتمع، والمتسم بالتخلف ولا يمت بصلة للحضارة أو الإنسانية، وقد تجلت هذه القضية بوصف دقيق في قصة آدم والناس من ذوي البشرة الملونة في المجتمع الأمريكي.
وتطرقت كذلك إلى قضية الاتجار بالأعضاء وفساد الأدوية المسببة للتأزم والتخبط والقتل للشخص الذي كشف حقيقة الأمر من قبل المفسدين.
إضافة إلى إثارة قضية العنف والتنمر في المدارس، تجاه الأطفال من ذوي الإعاقات الجسدية.
طغت على الرواية عدة عواطف ومشاعر مختلفة، كعاطفة الحزن والحب، ومشاعر الإحباط والقوة، والتعالي، والأمل والخوف والاكتئاب والفرح.
تميزت الرواية بصدق المشاعر في الحب الذي نشأ بين آدم وحبيبته هانا منذ الطفولة، وصدق المشاعر والأحاسيس بين أفراد العائلة واستمر حتى النهاية.
تطورت أحداث الرواية بتطور شخصية البطل، وتماهت اللغة ما بين القوة والبساطة والوصف الجميل والأسلوب السلس.
اتسم الحوار الخارجي بين الشخصيات بالسلاسة، أمّا الحوار الداخلي فاتسم بمشاعر حزن متدفقة، ترافقها ومضات أمل تلمع ما بين دفتي الرواية.
السؤال الذي يطرح نفسه: هل تأثرت الكاتبة بما شاهدته من أفلام أمريكية أو ما قرأته من روايات القت الأضواء على استعباد السود من قبل المواطنين البيض في الزمن الماضي؟ أم كتبت ما رأته بأمّ عينيها، ورأت أن تعري ذلك المجتمع الموسوم بالعنصرية، بما أنها مقيمة في بلد ادّعت الديمقراطية وألغت تجارة الرقيق وحررت العبيد؟
بمعنى آخر هل انتهت مواسم الحقد والكراهية تجاه البسطاء من قبل الأسياد؟
والسؤال الثاني: هل كان الهدف من إيقاع الرمزية على الأماكن حتى لا يتخيل المتلقي المكان بحد ذاته؟ أم حتى يلقي القارئ تفاصيل الأماكن على أماكن يعرفها؟
وقالت فاطمة كيوان:
تفتتح المؤلفة بإهداء روايتها لأرواح الأحبة الوالدين أولا، وأسرتها الكريمة عامة الأخت وابنة العم والصديقة، وأستاذها للبلاغة ومن ثم بطل روايتها وصانع الابتسامة (اّدم ) ولكل من يحمل رسالة سامية للحياة.
أمّا العنوان ( منارة الموت) فهو عنوان ضبابي مربك متناقض، يأخذنا للتفكير عن ماهية العلاقة والدلالة بين المنارة التي ترمز وتوحي بالحياة للنقيض الموت والفقدان.
محاور الرواية الرئيسية:
1- إضاءة على حياة الفقر بكل جوانبها وإشكالياتها وما تحمله من معاناة وآلام وأحزان وأوجاع للعائلة بشكل عام، وللفرد خاصة والمعاق بشكل خاص، ومحاولات لإثبات الذات وانبلاج الضوء من قلب الظلام.
2- دور الفرد في التحدي لمحاربة الفساد في الهيئات والمراكز ولدى أصحاب المناصب والشركات برصد الأفعال والأعمال وتحليلها وعدم الرضوخ والاستسلام.
3- الإيمان بالعدالة الإلهية هي من تشحذ روح الإنسان للتحدي وإظهار الحقيقة ومحاربة الفساد والقدرة على التغيير. وأن الابتسامة هي سلاح البؤساء، وهي السّكّين في خاصرة الطغاة الذين يغتالون الحياة من الوليد في مهده.
تبدأ الرواية بمشاهد تصوّر لنا حياة آدم وأسرته القابعة في الفقر والحرمان.
الأمّ: (المثقلة بالحب المملوءة بالقناعة ) كما وصفها ص79 التي تعمل خادمة في بيت أبو النوى المتعجرف، الدكتاتور المتسلط الأرستقراطي السارق للأرض والمستبيح أموال وأراضي الآخرين .
الأب: الجاهل السادي المهزوم الذي يقمع زوجته وفتاته(سيلينا )، ولا يملك قدرة الدفاع عن نفسه حتى من الأطفال. يبيع الذرة في عربته الصغيرة وينحني أمام صورة الرئيس في خنوع كلما مر أمامها. لتظهر لنا مدى المعاناه التي تحياها الأسرة اقتصاديا واجتماعيا في آن واحد، خاصة أن للعائلة ابنا مختلفا معاقا يعاني من العرج( آدم) بطل الرواية، ورحلتها منذ البداية الى النهاية.. يعنفه أصدقاؤه بشتى الوسائل، وهو يحلم أن يكون كبقية الأطفال المعافين العاديين؛ ليركل الكرة بهدوء ويلهو كبقية الرفاق. لكنه يعاني من الاضطهاد والحرمان والتنمر والاستعلاء .
آدم بكبريائه وإيمانه أبى أن يستسلم وأبى الرضوخ والانهزام رغم تعلقه بالمكان وناسه، بل عمل جاهدا لتحقيق حلمه في أن يكون كالبقية والآخرين، فهم ليسوا بأجدر منه بالحياة والتعليم والمعرفة.. فقد حلم بالتعليم وحقق الهدف ولو بعد حين، ووضع لنفسه قواعد وأهدافا حققها؛ لأنه اّمن قبل كل شي بذاته وقدرته على التأقلم والتحمل من جهة، وقدرته العلمية وذكائه الخارق، وأن لا شيء يأتي عفوا فلكي تكون .. عليك أن تجتهد.
“أن تكون مجتهدا يعني أن تكون ذا شأن، يهاب جانبك من يحتاج اجتهادك” ً56ص ثم أن تحمل أفكار يعني أن تجد من يحاربك وأن تخلق لك أعداء ، وإن كنت بلا ظهر فحتما سينتصر عليك أعداؤك”.
هذه الأفكار التي حملها آدم جعلت منه محاربا قويا وذكيا .. فالطفولة المرة التي عاشها جعلته دائم التفكير والتأمل والانشغال بالقضايا الجوهرية، قضية الإنسان وحياته وسلوكياته مع الآخرين، فاتخذ أبو الأحزان صديقا له و(سام) ذلك الفتى المختلف أخا له يشعر بفرحه ويحزن لحزنه، ّمّا صديقته (هانا) ووالدتها فكان دائم المساعدة لهما في كل الأوقات، ولم يتخلّ عنها يوما كما وعدها حتى بعدما خانته بعواطفها وتزوجت غيره.
حاول جاهدا تغيير مسرى حياته التي ألقت بظلالها وندبها جروحا في قلبه من حالة الفقر والضياع ..فحاول الهرب من هذه الندوب؛ ليبدل فيها روحه التي تأبى أن تتركه .. فرحل الى المدينة وعمل في مصنع، ومن ثمّ في شركة (كاربنتر) لصناعة وتوزيع الأدوية، الشركة الأكثر إنسانية للمساعدات الخيرية كما بدا له في البداية، ولكن الحنين لمسقط الرأس بقي يلتصق به ويشعره بالغصة ) ص 72 رغم تحقيق حلمه بالدخول للجامعة وبدء دراسة الطب، ومن ثم اقتنائه جهازا خلويا عصريا وفتح حساب فيسبوك ساعده به صديقه جورج؛ ليخفف من شعور الوحدة والملل والفراغ، وليصبح بالنسبة له ( مصنع الثرثرة). ولسرعان ما يكتشف ببراعته وفطنته وقوة ملاحظته أن هذه الشركة ما هي إلا شركة لصناعة الموت، حيث توزع الـدوية الفاسدة التي قتلت بها أمّ جورج صديقه العزيز وبالاتفاق مع خطيبته، وكذلك ابنة رايان التي أعطاها الدواء أبوها بنفسه، بعد أن أصيبت بمرض بالقلب وكان عبارة عن سم قاتل لأن فاعليته قد انتهت.
وعندما حاولا فضح الشركة كان نصيبهما الموت .. وسلبت أرواحهما قبل أن يستطيعا محاسبة المغتصب لأرواح أحبابهم.
وما أشعل جذوة الامل في نفسه هو التقاءه بـ ( شمس) التي كانت بالنسبة له” شعاع النور القادم من مسارب اليأس بهمهماتها (156). والتي ساعدته هي وجورج لفضح الشركة وكشف سر الأدوية الفاسدة بتظاهرها بالصمم والبكم، وعملها داخل القسم الخاص وتحملها المسؤولية ومقاومتها الريح هي وآدم، ومواصلة الخطى بثبات لفضح الذئاب الذين ينهبون خيرات البلاد وطبقته الفقيرة، التي تنتمي إليها هي وآدم وليحققا العدل. وينشرا النور و الشمس والضياء ويصنعوا البسمة للأجيال لقادمة تحارب بها، وتغسل بها الأدران وتضمد الجراح ..وتحارب الجهل والعنصرية
وتنشر على شفاه البؤساء والمكلومين والفقراء البسمة، ولتكون السكين في خاصرة الطغاه الذين يغتالون الوليد في مهده.
الرواية مليئة بالأفكار الفلسفية الوجودية التي تمنح القارئ فرصة التحليق معها والتفكير بعمق في هذه الحكم وقوانين الحياة، التي اختلقها البشر. والأمثلة كثيرة منها:
- قمامة المنازل أخف وطأة من قمامة الأخلاق.
- يبدو أن كل نزيه سيعيش خاسرا مدى الحياة.
- أن تحمل أحلاما في مقبرة –يعني أن تموت وانت على يد الحياة.
- حين تعجبنا الروح- نغض البصر عن نقائض مالكها.
- الفراغ والملل- مصنع الثرثرة.
- لا يقاس الوقت بطول أيامه – بل بمدى السعادة التي غلفتها .
- – صناعة البسمة تحتاج الى ثروة.
والعديد العديد من الأفكار الأخرى القوية بمعانيها.
اللغة: برايي كانت اللغة هي البطل في النص ..فهي سلسة جذابة، محببة ومفهومة للقارئ.
المكان: لم يحدد المكان والزمان في الرواية، بل كلّ أسماء المدن رمزية وبإمكان اسقاطها على المواقع والأمكنة من حوله أينما وُجد؛ لتعيد من خلاله تشكيل الزمن بكل تجلياته.
وكتب عمر كتمتو:
رواية منارة الموت هي العمل الروائي الثاني للروائية الفلسطينية هناء عبيد بعد روايتها الأولى بعنوان هناك في شيكاغو، وهذا يعني أنها تعيش مابين الشرق الأوسط وأميركا التي تعيش فيها.
عندما بدأتُ قراءة الرواية شعرت وأن الأديبة عبيد تمسك بزمام القارئ ولا تتركه الى أن يُنجزَ التعرّفً على ماترمي اليه الكاتبة، بحيثُ يصعب عليه التحرك من كرسيه؛ لتناول فنجان قهوةٍ او حتى كأس ماء. ذلك أن الحدث بحد ذاته عقدةً تحتاج لحل، فيأتيك الحل ناقصا؛ لأنهُ مرتبطٌ بالحدث الذي يليه، وهذا مايُمليهِ عادةً المسار في بناء الرواية الواقعية التي نحن بصددها في هذه المراجعة، لإلقاء الضوء على هذا النص الروائي الأدبي منارة الموت الذي حصد أرواحا بريئة، وبأسلوب تستخدمه عصابات المافيا والمال. أمّا الضحايا فهم أبناء العائلات غير القادرة على شراء وصفة الدواء، وذنبها هو فقرها وعجزها وغياب المؤسسات النقابية التي تدافع عنها. ولم يغب عن ذهن الروائية هناء عبيد أنهم حاولوا مرة واحدة الإضراب عن العمل وهبوا متضامنين بالتوقف عن العمل لمدة شهرٍ كامل، فماذا كانت النتيجة؟ كانت عدم صرف رواتبهم للشهر المذكور مع انحناءة يومية اعتادوا عليها أمام صورةٍ كبيرةٍ لمؤسس شركة كاربنتر (الخيرية)، التي ورثها ولداه من بعده.
تتناول الرواية موضوعا إنسانيا قديما وجديدا في آنٍ واحد، وهو الصراع بين الخير والشر، بين القوي والضعيف، بين طبقة رأس المال والطبقات الفقيرة العاملة، وبين المُستَغِل، والمُستَغَل، وذلك في إطار رواية زاخرة بتطور بنيان هذا العمل الأدبي، الفني الواقعي والسردي التشويقي، وبلغة سهلة رصينة جميلة.
الملفت للنظر في هذه الرواية أن معظم شخصياتها يُعتبرون أبطالا رغم تفاوت وجودهم في العمل، وكأن الكاتبة قصدت ذلك، أو أنّ هذا جاء بطريقةٍ عفوية، وبعد أن تُميتَهم قتلا تعيد لهم وجودا مؤثرا في متن الرواية، مثل رمزي وجورج ورايان، والشخصية المؤثرة جدا شمس التي أحبها آدم، وبها قتل حبه الأول لحبيبة الطفولة وجارته بالفقر هانا التي فضلت عليه عريسا مقتدرا ماديا، فلما وقع طلاق هانا من عريسها الغني، بحثت عن آدم في صفحات التواصل الإجتماعي، وعلمت أنهُ صار طبيبا محاولة العودةَ إليه، وأخبرته بأنها لازالت تحبه، إلا أن قلبه كان موطن زميلته بالعمل شمس، التي فتحت عيون كل من قُتِلوا عن حقيقة مؤسسة كاربنتر (الخيرية) والتي كانت هي الأخرى ضحية البحث عن حقيقة المؤسسة، التي تغتني من قتل المرضى، ومن كل من تسوّلُ له نفسه التعرف على أنها ليست مؤسسة خيرية للفقراء، وإنما مؤسسة قتلٍ للفقراء قادرة الوصول إلى كل من يكتشف هذه الحقيقة لأنها تملك المال.
قد يظن البعض أن شخصية الطفل سام ابن صاحب المقهى الذي عمِلَ فيه آدمُ نادلا بأن هذا الطفل المصاب بمرض عُرِفَ بإسم (داون سيدروم) يأتي مع الولادة وترجمته بالعربية هي (متلازمة داون) ويسميه البعض بالعامية مرض المنغولي، أكرر قد يظن البعض أن دور سام في الرواية هو دور هامشيّ بسيط، لكن عندما ينتهي القارئ المتمعّن بهذه الشخصية، ثم يبدأ بالسؤال عن السبب الذي أوجد هذا المرض في الطفل البريء سام، ويعود الى تفاصيل وظروف حياة قرية آدم، عندها سوف يكتشف أهمّيّة هذه الشخصية لانسجامها الكامل مع بُنيةِ الرواية، التي تَدُلُّ على ذكاء الكاتبة، وكأنها كتبت روايات كثيرة وتجربة غنية، رغم أنّ روايتها منارة القتل هي روايتها الثانية بعد روايته الأولى هناك في شيكاغو. وهذا يشمل كل شخصيات الرواية.
تأثرتُ كثيرا من وصفها لحياة أسرة آدم الفقيرة، وأذكر رواية للروائي النرويجي العالمي كنوت هامسون بعنوان ( الجوع)، وكانت أولى رواياته كتبها عندما كان الفقر ينهش به، ومن شدة التأثُّر، كنتُ أهرع الى ثلاجة البيت للتأكد بأن الله أنعم عليّ بوجبات النهار.
أبارك للأديبة هناء عبيد التي تناولت قضية من أهم القضايا الإنسانة والصراع الطبقي المجود دائما بين مستَغِلٍّ و ومستَغَل، فأجدني مضطرا للعودة الى قراءة كتاب رأس المال لكارل ماركس ولجدلية الفيلسوف الألماني هيغل.
بقي ان أقول إن الكاتبة فضّلت ألا تحدد مكان أحداث الرواية واستخدمت أسماءً يصعب تحديد الأمكنة من خلال الأسماء المذكورة، كما استخدمت اسم عملة واحدة قد تكون البلاء الذي يقف وراء الشر وهذه العملة هي الدولار، الأكثر استخداماً بالعالم، وهذا ما يؤكد مهارة وذكاء الروائية هناء عبيد بانتقاء أدواتها، ومن هنا يجد القاريء من يحُثُهُ على قراءة الرواية من جديد.
وكتبت خولة سالم:
الرواية تسرد قصة حياة بطلها آدم المتشظي على نيران الفقر، المصاب بإعاقة قصر إحدى قدميه، مما تسبب له بعقدة نقص، والتي حولها لمنحة أخرجته من جدران العزلة الى الانطلاق للحياة والاقبال عليها، تحديا لواقع التنمر والازدراء.
تتسلسل الكاتبة عبر فصول شيقة، خفيفة الظل، ينساب فيها السرد متواترا لا تكاد تقفز من زاوية إلى أخرى إلا وأخذت بفكر القاريء منشغلا بالتفاصيل اللاحقة، ممسكة بتلابيب الوجد، وكأنها تقول للقاريء، هيا خذ بيد أبطال الرواية فهم جميعا يشبهونك ويروون قصتك.
ابطال الرواية في المجمل متطورون يكبرون مع آدم ويرفدون تجربته بتجاربهم، فتتطور الحبكة إلى أن تصبح في زاوية لا تغادرها، حتى تبصر بعمق رسالة إنسانية بامتياز.
فشركة كاربينتر تكاد تكون كل شركة سمعت عنها أو عايشت فسادها يوما، تجارة أعضاء بشرية في قالب خدماتي إنساني لا تخطر على بال أحد، يشاء القدر أن يبعث بآدم ليوظف ويكشف فسادها ويفضحه، ويكون الثمن إزهاق أرواح أبطال آخرين أرادت الكاتبة لهم أن يغادروا في صناعتها للحبكة، وترك آدم حيا ربما شاهدا على منارة تشير لا إلى حياة كما اعتدنا في كل منارة في بحر متلاطم الأمواج عنوان نجاة، إنّمما منارة الرديف للحياة منارة الموت، فكيف استطعت هناء أخذنا من تلابيب أفكارنا نحو حقيقة الرحيل والفقد المتكرر دون رحمة؟ ياه كم الألم الذي سكبتيه في صفحاتها التي تجاوزت المائتين بقليل غير آبهة بنا، ربما إنسانية عظيمة سكنت جوارحك فجعلتك تتشظين بنار الفقد كما أبطال روايتك، إحساس إنساني عميق جعل الرواية منارة للوجع الإنساني، فبطل رواية “منارة الموت ” عاش ونجح وأبطالنا أمسوا شهداء يلفهم التراب، تشابهت أحداث الرواية وأحداث الواقع في روايات ربما لم تكتب بعد، ولكن هناء عبيد شاءت لبطل روايتها آدم أن يعانق الفرح، أمّا أبطال روايتنا نحن القراء فربما آثروا الرحيل مبكرا ومبكرا جدا حتى دون توثيق، فكم من الوقت تحتاجين هناء لإحيائهم من جديد؛ ليعيشوا بيننا ولو بين دفتي كتاب؟
وكتب جميل السلحوت:
تثبت الكاتبة هناء عبيد في روايتها الثّانية هذه صحّة مقولة البعض بأنّ كتابة الرّواية تبدأ بعد سنّ الأربعين، وذلك كي يتوفّر لكاتب الرّواية تجربة حياتيّة واطّلاع واسع على صنوف الأدب وفي مقدّمتها الرّواية، ومعروف أنّ كاتبتنا المهندسة التي تنحدر من قرية العيسويّة-القدس تزوّجت وتعمل وتعيش في شيكاغو منذ سنوات طويلة، وبالتّالي فقد اطّلعت على قضايا وصراعات اجتماعيّة وثقافيّة تتخطّى حدود وطنها الأمّ، ويبدو هذا واضحا من خلال عائلة “كاربينتر” التي تتاجر بالأعضاء البشريّة وبالأدوية الفاسدة، وتثري على حساب الفئات والطّبقات المسحوقة، وكذلك ورود أسماء أجنبيّة في الرّواية، فهل المنبوذون والمحرومون في الرّواية يقودنا إلى التّساؤل حول مضمون الرّواية، فهل وصفت في الرّواية بعض المهاجرين العرب إلى أمريكا، أم أنّها تهدف إلى ما هو أبعد من ذلك؟ وفي تقديري أنّ الكاتبة لو لم تعش في أمريكا لما استطاعت أن تتشعّب بأحداث الرّواية كما وصلت إلينا، وهذا يؤكّد مقولة بأنّ الكاتب ابن بيئته التي يعيش فيها.
وفي تقديري أنّ الكاتبة لم تختر اسم بطل روايتها الرّئيس “آدم ” بشكل عفويّ، فمعروف حسب الرّواية الدّينيّة أنّ آدم هو أبو البشر، وبالتّالي فإنّ آدم في الرّواية الذي ولد بإعاقة حركيّة ” حيث أنّ إحدى ساقيه أقصر من الأخرى، ليس ابن بيئة أو مجتمع واحد، بل هو نموذج لذوي الحالات الخاصّة موجود في مختلف المجتمعات والبيئات. وقد عانى من شظف العيش؛ لأنّه ولد في أسرة فقيرة ومهمّشة، وتعرّض للتّنمّر من زملائه في المدرسة، ومن البيئة المحيطة، وعمل في أعمال مختلفة مثل عمله كنادل في مقهى، وفي فندق وكبائع للزّهور، لكنّ هذا لم يمنعه من مواصلة تعليمه؛ ليدرس الطّبّ ويتخرّج كطبيب، وفي هذا درسٌ وتعليم للآخرين بأنّ ذوي الإعاقات الجسديّة قادرون على مواصة حياتهم بشكل طبيعيّ، وقادرون أن يتفوّقوا على غيرهم رغم الصّعوبات التي تواجههم.
أمّا قضيّة الفتاة التي أحبّها “آدم” وتزوّجت من غيره، فهي إشارة ذكيّة وردت في الرّواية لكثير من الفتيات اللواتي يلهثن ويجرين خلف الأثرياء، بغضّ النّظر عن الحبّ الذي يعشنه، وبغضّ النّظر إن كان الحبيب الأوّل سليما جسديّا أو من ذوي الإعاقة.
واضح في الرّواية التي يطغى عليها عنصر التّشويق، ولغتها الإنسيابيّة السّلسة أنّ الكاتبة منحازة إلى الفئات المسحوقة المهمّشة كذوي الإعاقات والفقراء والمحرومين، ولها موقف متحفّظ أو مُعادٍ للمتنفّذين والعنصريّين وأصحاب رؤوس الأموال وغيرهم من الفئات التي لا تحترم إنسانيّتها ولا إنسانيّة غيرها.
وواضح من خلال هذه الرّواية أيضا أنّ كاتبتنا تطوّر أدواتها الكتابيّة بطريقة لافتة، مع التّأكيد بأنّ بداية إصداراتها في روايتها الأولى” هناك في شيكاغو” كانت قويّة.