القدس 13-2-2025
استضافت ندوة اليوم السابع الثقافية المقدسية الأسبوعيّة الكاتبة أصيل عبد السّلام سلامة من رفح غزة هاشم لنقاش مجموعتها القصصية ” قمر 14 وقصص أخرى” التي صدرت عن مكتبة كل شيء الحيفاوية 2024.
المجموعة تقع في 103 صفحة من القطع الصغير، وتحتوي على 86 قصة قصيرة جدا، مقسّمة إلى ثلاثة أقسام.
ابتدأت مديرة الندوة ديمة جمعة السمان، قالت:
تأتي مجموعة “قمر 14” كصرخة أدبيّة نابضة بالحياة، تحكي يوميات شابّة عاشت الحرب في غزة بكلّ ما فيها من خوف، نزوح، فقدان، وذكريات ممزّقة بين الحنين والواقع القاسي.
صاحبة المجموعة هي الشّابة العشرينيّة أصيل عبد السلام سلامة من مدينة رفح، أقصى جنوب قطاع غزة.
صدرت عن مكتبة كل شيء الحيفاوية في 103 صفحات من القطع الصّغير، ضمّت بين غلافيها 86 قصة قصيرة تحمل عناوين شيّقة، رسمت خلالها الكاتبة مشاهد مكثّفة ومؤثّرة، تعكس تجربة الحرب من منظور فردي شديد الإنسانية، بعيدًا عن الخطاب السّياسي المباشر، مما يجعلها أقرب إلى شهادة حيّة تروي مأساة إنسانيّة عابرة للحدود. .
تأتي النصوص على هيئة لقطات أو ومضات سريعة، أشبه بصفحات من دفتر يوميات أو شذرات من الذاكرة، تكتبها أصيل سلامة تحت القصف، لتلتقط لحظات لا تُنسى في حياة أسرتها. هذا الأسلوب يضفي على النصوص طابعًا صادقًا، بعيدًا عن الزخرفة البلاغية أو التكلّف في السرد. فالمواقف والأحداث تُروى ببساطة مباشرة، لكنها تحمل في طيّاتها وجعًا لا يُحتمل.
تَظهر في المجموعة مفارقة مؤلمة بين الأحلام البسيطة التي كانت جزءًا من الحياة اليومية، وبين العنف الذي قلبها رأسًا على عقب.
في أحد المشاهد، تستحم الراوية قبل النزوح من المنزل، متسائلة ببراءة: “يا عالم، متى أستطيع أن أستحمّ؟”—هذه الجملة البسيطة تختزل المعاناة اليومية وتحيل القارئ إلى معنى الفقدان المستمر للحياة الطبيعية.
وفي مشهد آخر، تغلق الأسرة باب الشقة بمفتاح قبل النزوح، كي لا يسرق، على أمل العودة، لتكتشف لاحقًا عبر التلفاز أن منزلها قد تلاشى تمامًا. هذه المشاهد، رغم بساطتها، تحمل رمزيّة عميقة عن الانفصال القسري بين الإنسان وماضيه.
تبرز المجموعة أيضًا الجانب النفسي للحرب، حيث تصف أصيل مشاعرها المتضاربة: الخوف، الأمل، الحزن، والانكسار. مشهد بكائها حين تم ذكر اسمي شقيقتيها مثال على ذلك، فهي ترفض أن تبكي أمام الآخرين، لكن عدم معرفتها يمكانهماّ أفقدها السيطرة على مشاعرها، ليصبح البكاء خيانة غير مقصودة أمام قسوة الواقع.
اللغة في المجموعة تتّسم بالسلاسة والبساطة، لكنها في ذات الوقت مشحونة بالعاطفة والمعاني. فهي لا تحتاج إلى زخرفة لغوية أو استعراض بلاغي، لأن صدق المشاعر المنسكب في النصوص يجعلها مؤثرة بما يكفي. وهذا يعكس طبيعة الكتابة في ظروف الحرب، حيث تصبح الكلمات وسيلة للبقاء والتوثيق، لا مجال فيها للترف أو الاصطناع.
وأقف مليا عند النص الأخير، إذ أرى فيه بصيص أمل وسط الركام ، فقد جاء بعنوان “أمنية” ليشكّل ختامًا مختلفًا عن باقي النصوص، حيث يبتعد قليلًا عن أجواء الحرب المباشرة، لكنه يحمل في طياته رمزية عميقة تعكس توق الإنسان للحياة رغم الألم.
تقول الكاتبة: في تلك القرية بائعة ورد، زبائنها العشاق، تبيعهم الورد فتظهر ضحكة وتخفي أمنية: ( متى سأهدى وردة)؟”
هذا النص القصير، رغم بساطته، يفتح أفقًا جديدًا وسط العتمة، فهو لا يحكي عن الحرب بشكل مباشر، بل عن الحياة التي يحلم بها أولئك الذين عاشوا وسط الدمار.
بائعة الورد هنا ليست مجرد شخصية عابرة، بل رمزٌ للأمل المكبوت، للحياة التي تأجلت، وللرغبة في الحب والفرح التي قُمعت بفعل الواقع القاسي.
في سياق المجموعة التي تفيض بالوجع والفقد، يأتي هذا النص الأخير ليضيء زاوية مختلفة: الحرب لم تسلب فقط الأمان والمنازل والذكريات، بل سرقت من البشر أحلامهم الصغيرة، أبسطها أن تُهدى فتاةٌ وردةً كما يفعل الآخرون. إنها أمنية عادية في زمن عادي، لكنها تبدو مستحيلة في زمن الحرب.
هذا الختام يجعل القارئ يتأمل في فكرة أن الألم ليس فقط في الفقدان المباشر، بل في الحرمان من التفاصيل الصغيرة التي تشكّل جوهر الحياة.
في النهاية، قمر 14 ليس مجرد مجموعة قصصية عن الحرب، بل هو صرخة إنسانية تقول: “نحن هنا، نحلم رغم كل شيء.”
وقال محمود شقبر:
1
في 103 صفحات من القطع المتوسط، صدرت مجموعة “قمر 14 وقصص أخرى” للكاتبة أصيل عبد السلام سلامة، عن مكتبة كل شيء/ حيفا 2024، بإدارة أ. صالح عباسي وتصميم شربل إلياس.
في هذه المجموعة القصصية تكتب أصيل سلامة قصصها القصيرة جدًّا من وحي المعاناة، وبإحساس مرهف يتمّ من خلاله التفاعل الحي مع تفاصيل الحرب وما ينتج عنها من آثار نفسية ومادية على الناس، وخصوصًا على الأطفال والنساء.
في هذه القصص المكتوبة بجمل اسمية حينًا وبجمل فعلية حينًا آخر يتناوب ضمير المتكلم مع ضمير الغائب لتعطينا الكاتبة سردًا مشوّقًا في القصص البالغ عددها 87 قصة قصيرة جدًّا، بحيث نلمس خيطًا رقيقًا ينتظم هذه القصص، كما لو أننا نشاهد شريطًا مصورًا محبوكًا بتصميم على إيصال الفكرة إلى القراء؛ الفكرة التي ترفض الحرب وما ينتج عنها من معاناة، وتجد في النزوح من البيت جريمة تمس كرامة الناس وأمنهم، وتعدُّ من أفدح المصائر في زمن الحرب.
2
تكتب أصيل سلامة هذه القصص بلغة سلسة جميلة، وبأسلوب سردي متقشّف لا تطويل فيه ولا استطرادات، طال غالبية قصص المجموعة، وبنهايات مفاجئة صادمة لأغلب القصص على وجه التقريب، بحيث ينطبق على هذه القصص القول المأثور: خير الكلام ما قلّ ودل، وللتمثيل على ذلك نقرأ القصة القصيرة جدًّا التالية المكونة من ثماني كلمات، الموسومة ب “حيرة: “فكّ خيمته/ تنهّد/ ولم يدر أين سينزح مجددًا.”
وفي المجموعة استثمار جيد للمفارقات التي تنشأ من تقابل المعاني والحالات المتكوّنة من المحسنات البديعية للغة، ومن استخداماتها بطريقة ذكية لافتة، والأمثلة على ذلك كثيرة؛ مثلًا: “أسير وأسير وقلبي للماضي أسير”ص28، أو حين يصبح الزمن في زمن الحرب ثقيلًا قاسيًا: “كأنني غبت عنك ثلاثة قرون وليس ثلاثة أيام”ص23، أو حين يعزّ وجود الماء في زمن الحرب: “أشرب ماء باردًا وتستمر الحرب الساخنة المدمرة”ص18. أو حين يثني شخص ما على جمال الفتاة قاصدًا التقرب منها، فتجيبه على نحو مخيّب لآماله: “شكرتْه على رأيه وذهبت كي ترى حبيبها”ص69. أو حين تضعنا الكاتبة أمام مشاهد غرائبية: الرجل الوحيد الذي يحلم بأن أحدًا ما يعضّه، يستيقظ مذعورًا، ثم “لم يعد ينام لأنه رأى أثر الفكين على ساعده”ص54 ، أو حين يتمرد بطل القصة على كاتب القصة المأزوم، يهرب من قبضته وينام على سريره من دون هموم. ص75. أو حين تريد الكاتبة أن تظهر مقدار الجهد الذي يبذله المحب لكي يستحضر صورة حبيبته، فتحشد من أجل ذلك ثماني جمل مبدوءة بالفعل الماضي أمام جملة واحدة مبدوءة بالفعل المضارع: “كوى… ارتدى…صنعَ…جهَّزَ…قطفَ…وضعَ…اتكأَ…أغلقَ…كي تستحضرها ذاكرته..”ص49.
3
وبالتقشف اللغوي ذاته ومن دون استطرادات تطلعنا الكاتبة على ويلات الحرب ضد المدنيين من الأطفال والنساء، وعلى جرائمها المفجعة التي ترسخ في الذاكرة ولا يمكن نسيانها: “وجد رجال الإنقاذ تحت الأنقاض امرأة وطفلًا (…) تألموا أكثر حين وجدوا على مسافة قريبة من الطفل حمامة بيضاء”ص45.
مثل آخر على فظائع الحرب: “في آخر الطريق بيت مهدوم، عثر بين ركامه على جثتين لرجل وامرأة، في يمينيهما خاتمان مكتوب في أولهما: على العهد، وفي ثانيهما: حتى الموت”ص38.
مثل ثالث عن العروس التي كانت “ترطب قدميها كي تغري فارسها بنعومة مثيرة، ولم تكن تعلم أن ساقها ستكون أول فرائس الحرب المشؤومة”ص33 .
4
وبرغم ضراوة الحرب واستهدافها البشر والحجر والشجر، فإن التوق إلى أيام طبيعية هادئة لم يغادر الناس الصامدين في وطنهم في قطاع غزة من شماله إلى جنوبه، ثمة قصص في المجموعة تتشهى أيام الهدوء وتستذكرها بلهفة وحب، تستذكر التفاصيل الصغيرة الحميمة التي عزّ وجودها في زمن الحرب، وحين يتحقق بعضها تكون له وقع المفاجأة.
ثمة في الوقت ذاته إصرار على الصمود ورفض العدوان، وثمة إصرار على تجدّد الحياة: “ألقيت القنابل على البلدة المنكوبة/ فقتل الأطفال/ ثم جادها الغيث/ فنبتَ في أرضها الأطفال.”ص47
تحية للكاتبة أصيل عبد السلام سلامة، ابنة رفح النازحة في خانيونس وفي مواصي خانيونس، العائدة بعد الهدنة الأخيرة إلى رفح، بعد العيش في خيمة لا تقي من البرد والمطر لأشهر طويلة.
وقال د. عمر صبري كتمتو:
تقع المجموعة بين دفتي مائة وست صفحات، دون تقديم، لكن بإهداء خاص ومؤثر : الى والديِّ الكاتبة جاء فيه : إلى والديَّ . إلى الواقع الذي بخُلَ بتجسيد معاني ، الطفولة ، السلام ، الحبُ والأمان .
اول ما جذب انتباهي بعد أن قرأت هذا الإهداء ، سألتُ نفسي : ماذا تبقى لها في ولطفولتها بغياب ذاك الثالوث كي يعيش الطفل طفولته ؟ أيُّ قَدرٍ هذا الذي يرافق الفلسطيني من لحظة ميلاده داخل فلسطين أو في المنفى منذ مذابح البدايات داخل وطنه و في الشتات، وكيف يمكنه أن يستعيد طفولته التي يبدأ البحث عنها، من لحظة ولادته، وحتى نهاية شيخوخته، وكأنه يلهث لُهاثه الأخير ، بينما يعيش على أرضٍ لم يعِش عليها ولم يفتح رئتيه في يومِ من الأيام كي يأخذ من رائحة ذلك التراب شُحنةَ حبٍّ أو سلامٍ أو أمان ؟ فقد وضعت الكاتبة كلَّ من يبدأ قراءة هذه القصص أمام واقعٍ يعيشه مثلما عاشته هي سواء كان في المنفى أم في الوطن.
في كل قصة تأخذ الكاتبة القارئ الى عالم تتشابك فيه المشاعر ، بين الفرح ، والألم، كما نرى في قصة حياة ، حين تنتقل الكاتبة بقفزةٍ واحدة من داخل السجن إلي ماخلف السور، فتنقل لنا ماهو خلف سور السجن، صورة حياة الطفولة الجميلة، وتحدثنا عن افراح الطفولة حيث تمرح فيها سنابل الحقول ، وضحكات الصغار التي تعزف معزوفة السلام، والأمهات اللواتي يركضن الى اولادهنَّ لقطف قبلة الصباح من خدودهم قبل الصعود الى الحافلة وهي تأخذهم الى المدرسة، وينتظرون عودة الاطفال الى البيوت بسلام، وهم يسمعون خرخشة الأكياس التي يحملها الأب عند عودته لحضن اسرته ، وتنتظره أيادٍ صغيرة في سلامٍ واطمئنانُ يتبدَّدُ فجأةً بعد فرار هذا المشهد الخيالي من مخيِّلة الطفل الذي يستفيق فجأةً من حلمهِ على ضربات مطرقة يحملها طفلٌ آخر داخل السور يدقُّ وتداً في الأرض لتثبيت خيمةٍ تقيم الأسرة فيها.
هكذا وبأسلوبٍ شيِّقٍ ، ولغةٍ جميلة تنقلنا الكاتبة من الخيال الذي تتمناه الطفولة الى الواقع الذي حرمت منه. وهكذا يستمر السرد بلغةٍ جميلة بسيطةٍ، تنقلها مشاعر انسانية، وأسلوبٍٍ منطقي، يحثُّ القارئ على التفكير بعمقٍ وتحليل. فقد تمسكت الكاتبة المتمكِّنة من معرفتها بما هو
خلف السور، بذكاءٍ وإيمان كونها لازالت ثابتة على ارض الوطن، حيث تستطيع أن تتنقل فيه بطريقتها، فتخرج من داخل السور ثم تعود الى داخله ، ناقلةً صورة هذه المأساة من خلال الكتابة الأدبية، عُدَّتُها القلم والورقة، في مواجهة الظلم والقتل والكراهية.
اجد نفسي متفاتجئاً بهذا المستوى الراقي من العمل الأدبي الأول للكاتبة الفلسطينية الشابة والمناضلة، نعم متفاجئاً لهذه القدر الرائعة في باكورة كتابتها والتي تبشر بأسلوبٍ فيه تجديد لأدب المقاومة، وأبارك لها هذا الابداع وهذه الافكار في تناولها الصراع بين الظلم والعدالة، فضلا عن قدرتها المتميزة في تشويق القارئ بغض النظر عن اختلاف القراء واختلاف لغاتهم، ولهذا أرى أن هذه القصص القصيرة جداً هي إنسانية التعبير، فلسطينية المنشأ، ليس كأسلوب، لكن كهوية.
إن قصص قمر 14 القصيرة جدا عملٌ أدبيٌّ تحتاجه مكتباتنا الأدبية، ويسعدني أن أبارك للكاتبة أصيل عبد السلام سلامة صدور باكورة لعملها الأدبي، وبانتظار اعمالٍ قادمة.
وقالت د. روز اليوسف شعبان:
تأخذنا الكاتبة في هذه المجموعة القصصيّة التي تتكوّن من قصص قصيرة وأخرى قصيرة جدّا، في سرديّة جلّها ألم، فقدان، جوع، تهجير، لجوء، ضياع، ونزوح في غزّة المنكوبة.
القصّة القصيرة جدًا هي نوع أدبي يتميّز بإيجاز شديد، لا يتجاوز النص بضعة أسطر، وأحيانًا قد يكون في سطر واحد فقط. يهدف هذا النوع إلى تقديم حدث أو موقف مكثّف يثير الدهشة أو التأمّل لدى القارئ. غالبًا ما تحتوي على عنصر مفاجئ أو نهاية غير متوقعة تثير دهشة القارئ، كما تتميّز بالرمزيّة، والتكثيف والوحدة الموضوعية. (مجلّة أوراق ثقافيّة، نيسان 2020، موقع موضوع، منصّة لبيب).
في العديد من قصص هذه المجموعة، يتراءى طيف جدّ أصيل خلف الكلمات، هذا الجدّ الذي تشتاق له فتعبّر عن شوقها ورغبتها في اللقاء به:” أريد أن يأتي النت واراسلك يا جدّي”(ص 20). :”حزينة لأنني أفتقد جدّي”(ص 19). :” أنا بخير يا جدّي وكلّي أمل أن يعود الاتّصال بالنت كي تصلك رسائلي”(ص 17).
:” أعانك الله يا جدي على قراءة رسائلي حين تصلك، أنا أكتب لك عن كلّ شيء كأنّني غبت عنك ثلاثة قرون وليس ثلاثة أيّام”(ص 25).
يمثّل الجدّ بالنسبة لأصيل، الجذور، الوطن، التاريخ، الحبّ والأمان، لكنّها في ظلّ الحرب تفتقده وتتوق لرؤيته، تفتقد الشعور بالأمان والحبّ. فهل سيعود الجد وتلتقي الكاتبة به ويعود الشعور بالأمان إلى قلبها؟
تتطرّق أصيل في العديد من قصصها إلى قصصها الشخصيّة العائليّة، فهي الساردة بضمير المتكلّم، تسترجع في سردها ذكرياتها الجميلة في بيتها، نزوحها من البيت بحزن وألم، العيش في خيام النازحين، بكلّ فيها من ألم، خوف، رعب، جوع، حسرة وحرمان. في قصّة البيت (ص 89) تذكر الساردة النزوح الأوّل لوالديها بعد النكبة عام (1948) من الرملة إلى رفح، وها هو النزوح الثاني الذي يجعل الأسرة تحزم أمتعتها بعد أن تلقّت إنذارا بإخلاء البيت، فتستحمّ أصيل قبل المغادرة، وتطلب من والدتها أن تقصّ لها شعرها الجميل الذي أحبّته جدتها، تقول أصيل:” ثمّ سرحت وأنا أتأمّل أشجار الحديقة وحيطان البيت الذي سنغادره مضطرين، مثلما غادر أبي وأمّي بيتهما قبل سنوات”. (ص 89). وهكذا تبدأ أصيل وعائلتها في مسيرة شاقّة من النزوح والحزن والألم. وتتوالى الصور والمشاهد المؤلمة من داخل غزّة، فتسترجعها الكاتبة بكثير من الحسرة والتأثّر. فها هو العيد يطلّ عليهم، حزينا صامتا بعد أن كان يملأ البيوت والساحات فرحا وبهجة، وتلك طفلة نازحة تفرح بالماء الذي وصل بعد انقطاع (قصة الماء ص 31)، وعروس تفقد ساقها من القصف (ص 33)، أسير يخرج من السجن الانفراديّ بعد ثلاثين عاما جثّة هامدة (قصّة أسير ص 31). وفي قصّة لون الجوع (ص 70)، تصوّر الكاتبة حالة الجوع التي تعتري الأطفال، فيرسم الطفل رغيف الخبز ويلوّنه بلون الجوع. في قصّة حيرة (ص 71) تصوّر شخصا يفكّ خيمته لا يعرف أين سينزح مجدّدا، وفي قصّة أسئلة (ص 87) تتساءل الساردة أين ستقيم هي وأهلها؟ هل سيجدون خيمة تؤويهم؟ هل ما أخذوه من فراش وملابس وأغطية تكفيهم؟ ماذا سيحدث للبيت الجميل بعد نزوحهم؟ كلّ هذه الأسئلة تدور في خلد الساردة ومثلها في نفوس جميع النازحين، هذه البيوت التي شَقَوْا في بنائها، وعاشوا فيها سنين عمرهم مع أولادهم وأحبابهم، بكل ما فيها من ذكريات وفرح وشقاء وكفاح من أجل لقمة العيش، كلّ ذلك هُدم كأنّ شيئا لم يكن، حتى بعد إعلان الهدنة تم قصف البيوت وقتل الناس، ففي قصّة تهنئة (ص 60) تصوّر الكاتبة قصف أحد البيوت ومقتل صاحب البيت بعد أن تلقّى مكالمة لتهنئته ببشرى الهدنة.
لم تغفل الكاتبة ذكر معاناة البيت الذي أنسنته وجعلته يحزن على نزوح ساكنيه، تقول في قصّتها من يوميّات بيتنا (ص 97):" الياسمين في حديقتي ينتظرهم، نبتة العطرة تحتفظ برحيقها لهم، مدخل البيت ينتحب لعدم مرورهم فوقه، باب الشقّة وباب المنزل ما زالا مغلقيْن بالمفتاح، لن يفتحهما أحد غريب سأدافع بكلّ ما أوتيت من وفاء...".
وفي غمرة هذه القصص المؤثّرة تأتينا الكاتبة بقصص أخرى تصوّر واقع الحياة. ففي قصّة لقاء (ص 40) تتطرّق الكاتبة إلى علاقات الحبّ التي تكون من طرف واحد، وما تتركه من ألم على الحبيبة المغدورة، وفي قصّة غرور تذكر غرور الإنسان بنفسه، وغيرها من القصص الاجتماعيّة.
فهل يمكن اعتبار هذه القصص قصصا قصيرة جدّا؟
في معظم قصص المجموعة وجدت أنّها تخلو من عنصريّ المفارقة والدهشة، وإنّما هي استرجاع لأحداث عاشتها الكاتبة خلال فترة الحرب، وقد تكون خواطرَ أو مذكّرات، أو تصويرا لمشاهدَ لا تروق للكاتبة فتنتقدها، مثل قصّة استثمار (ص 48) لتي تنتقد فيها ظاهرة التسوّل:” قرب القلعة تجلس متسولة وتقول:” شيء لله”. أعطاها أحد المارّة شاقلا فقالت له غاضبة:” هذا قليل”، ثمّ تنحنحت لتقول” أقصد أبهذا ستلقى الله؟ شيء لله”.
كذلك قصّة فستان (ص 49)، وقصّة حبّ (ص 51)، وقصّة عقد (ص53)، وملاحقة (ص 63)، وغيرها الكثير..
وهناك بعض القصص التي خلت من الدهشة والمفارقة لكننا نجد فيها رمزية وتكثيفا في المعنى مثل قصّة وطن:” رأى فيها وطنه فأحبّها، تعلّق بها، أدمنها بجنون، ثمّ تزوّجت من غيره. يا للمسكين! نسي أنّ الوطن يغزوه محتلّون”. كذلك نجد عنصري التكثيف والرمزية في قصّة مثال (ص 56):” قال الأستاذ:” السلسلة الغذائيّة تكون باعتماد طرف على الآخر”. من يعطيني مثالا: الطالب النجيب قال: عصفور، أفعى. وطالب من آخر الصّف أجاب بغصّة: وطن، قائد، ظهرت الرمزيّة أيضا في قصّة معلمتي(ص59).
هناك العديد من القصص التي وجدت فيها عنصريّ المفارقة والدهشة منها: قصّة حريق (ص 67)، قصّة قمر 14 التي تحمل هذه المجموعة اسمها:” الشاب ينتظر الفتاة التي أحبّها بفارغ الصبر، بعد أن أعطته موعدا كي تراه. سألته عن طلّتها فقال: قمر 14. شكرته على رأيه وذهبت كي ترى حبيبها”.
وفي قصّة خروج (ص 84) نجد المفارقة والدهشة أيضا:” رفع بيده ستار الخيمة وخرج. لسعه الهواء، هرب إلى ذراعيّ أمّه، فوجدهما أكثر برودة، وثمّة أصوات عويل حولها وبكاء”.
وفي قصّة حرص (ص 73)، نجد المفارقة والدهشة حين اكتشفنا أن الأم أيضا وقعت في شباك الشباب: أمسكت يد ابنتها بخوف وحرص شديدين؛ لتحذّرها من الشباب، فكم أوقعوا البنات في شباكهم، وأضمرت في نفسها:” حتّى أنا”.
إجمال:
كتبت هذه المجموعة بلغة سلسة جميلة وبأسلوب رمزيّ اعتمدت فيه الكاتبة على تقنيّة الاسترجاع، والراوي بضمير المتكلّم. ومن وجهة نظري يمكن اعتبار هذه المجموعة القصصيّة “قمر 14″، مجموعة من المذكّرات، واليوميّات التي عاشتها الكاتبة في ظلّ الحرب على غزّة بعد السابع من أكتوبر 2023، والتي من خلالها تصوّر في معظمها، حالات النزوح، ترك البيوت بكل ما فيها من ذكريات، العيش في مخيّمات النازحين، الموت، الجوع، العطش، الخوف، البكاء، الحسرة، الوحدة وغيرها. في حين حوت بعض القصص انتقادا لحالات اجتماعيّة لا تروق للكاتبة فتنتقدها بأسلوب لا يخلو من الرمزيّة والتكثيف في المعنى.
ورغم ما تحمل هذه المجموعة المؤثّرة جدّا من مشاعر الألم والفقدان، إلّا أن الأمل يلقي بظلاله عليها فتعبّر عنه في قصّتها بلدة (ص 47):” ألقيت القنابلُ على البلدة المنكوبة، فقتل الأطفال، ثمّ جاءها الغيث، فنبت في أرضها الأطفال”.
مبارك للكاتبة أصيل هذا الإصدار المؤثّر وإلى مزيد…
وقال المحامي حسن عبادي:
يعتبر عنوان الكتاب عتبة نصيّة هامة؛ وه نحن أما عنوان مميّز؛ فالقمر في اليوم الرابع عشر من كلّ شهر يكون بدراً كاملاً بطلّة جميلة ونور ساطع ووصفه يعبّر عن جمال الأشياء، وكتبت في القصّة التي تحمل المجموعة عنوانها: “رشّ المزيد من العطر، فالجميلة أخيراً أعطته موعداً كي تراه، وحينما حضرت سألته عن طلّتها؟ فقال: “قمر 14”. أخذني العنوان لفيلم ضوء القمر (MOONLIGHT TRAILER) للمخرج باري جينكينز حيث ينعكس الضوء من على سطح القمر لينير الليالي.
وتهدي الكتاب “إلى الواقع الذي بخل بتجسيد معاني الطفولة، السلام، الحب والأمان”.
وسمت الكاتبة و/ أو الناشر الكتاب “قصص قصيرة جداً”؛ تتألف القصة القصيرة جداً من عدد محدود من الكلمات، مكثفة، فيها نوع من الإدهاش، تشبه الكاريكاتير، تحتوي على السخرية والمفارقة. ابتدأها الروائي إرنست همنجواي بقصّة من ست كلمات فقط: “For sale: baby shoes, never worn.” ، “للبيع: حذاء طفل، لَمْ يُلْبَسْ قَطّ.” ، ست كلمات جديرة بالتأمل والتفكير، غزيرة المعنى.
طوّرها الكاتب أوغستو مونتيروسو في ومضته -الديناصور: “When he woke up, the dinosaur was still there.” “حين استيقظ، كان الديناصور ما يزال هناك”. نجد فيها التكثيف، المفارقة، إيحاء ونهاية مباغتة، وتجانس وترابط بين العنوان وشطري النص، وكذلك بين شطري النص ذاتهما.
حين قرأت الكتاب قراءة ثانية متأنيّة تساءلت؛ هل هي يوميات و/أو خواطر و/أو ومضات و/أو قصص قصيرة جداً ووجدت الإجابة عبر الحروف والصفحات.
جاء الكتاب في ثلاثة فصول؛ ابتدأت الفصل الأوّل: “في الصباح، كانت الحافلة تأخذني من بيتي في الجنوب إلى الجامعة في الشمال”. أمّا الفصل الثاني فابتدأ: “في المساء كانت الحافلة تعيدني من باب الجامعة في الشمال إلى بيتي في الجنوب”. والفصل الثالث: “لم تعد هناك حافلة ولا جامعة ولا رفيقات دراسة. أنا الآن في خيمة من خيام النازحين”.
وجدت العناوين سيمفونيّة جاذبة وأخذتني إلى سيمفونية ضوء القمر (Moonlight Sonata ، واسمها الأصلي بالألمانية Mondschein سوناتا بيانو رقم 14 لبيتهوفن)؛ حياة، أحلام، انتظار، خوف، رسالة، صوت، ماء، تلفاز، افتقاد، أزهار الليمون، قطف، رسائل، ليل، ليلة العيد، صباح العيد، طفل، ورد يا حلوة، مفاجأة، ماء، ضياع، عروس، مدينة، مسدس، عهد، سارق، لقاء، سحاب، زنزانة، أسير، استغفار، حمامة، جدران، بلدة، استثمار، الغائب الحاضر، فستان، حب، وطن، عقد، عضّة، جوع، مثال، خوف، نسيان، معلّمتي، تهنئة، وحدة، ملاحقة، غرور، شهرة نصف كم، رغبة، حريق، فراق، قمر 14، لون الجوع، حيرة، صراع، حرص، ضوء القمر، تمرّد، قدر، هراء، اختفاء، وردة، حتى هو، احتماء، أرق، التهام، خروج، بيت، نزوح، أسئلة، أرواحهم، البيت، حلم، حفلة، أول أيام النزوح، استحمام، دموع، إناء الألمنيوم، مراحل، من يوميات بيتنا، بستان، الجدّة، مرآة، اعتراف…وأمنية!
أخذتني الكاتبة إلى أجواء المقتلة التي تحدث في غزة وخباياها؛ لنتذوّق معها لون الجوع، وطعام التكيّة، نتحسّس الوتد والخيمة وألم النزوح، نصغي سوياً لصوت الطائرات والزنانّة ونصبح خبراء بطائرات الاستطلاع، ودوي سيارات الإطفاء، والحيرة الغزاويّة (فكّ خيمته، تنهد، ولم يدرِ أين سينزح مجدداً ص. 71)، ونذوق طعم الأرق ومرارته (نامت بعد ساعات من الأرق، نامت نوماً متقطعاً بسبب القصف وصوت الطائرة الزنانة. رأت في المنام صواريخ متساقطة وبيوتاً مهدمة وأسرى وشهداء. ثم رأت نفسها وهي تسكن في العراء. ص. 82)، ونعيّد معها، فليلة العيد “لا شيء سوى الصواريخ والطائرات وعشرات آلاف خيام النازحين والنازحات” (ص. 25)، ونفرح سويّة فرحة بريئة “فرحتها كانت بريئة مفاجأة تلك الطفلة النازحة حين وصلنا ماء البلدية بعد انقطاع” (ص. 31)، ونشعر بالوحدة مع أم الشهيد “الكل يهتف منتشياً بانتهاء الحرب، الكل يكبّر، المقاومون يُزَفّون، الأخبار تهنئ الشعب… وأم الشهيد وحدها تبكي وحدتها بالحزن على ابنها” (ص. 62)، واحتمينا احتماء غزيّ (أثناء تشييع جنازة أبيه الشهيد، علا صوت القصف، فاحتمى بأبيه للمرة الأخيرة. ص. 81) واحتفلنا معاً حفلة غزاويّة بامتياز “تسمع الطفلة صوت الانفجارات فتصرخ وتمعن في البكاء، تهدئها أمها وتقول لها:
حفلة يا ماما، حفلة
صوت طبول ورقص وغناء” (ص. 91)
عايشنا عبر الشاشات ما يحدث في غزة؛ لكن الكاتبة أعادتني إلى رواية “سينما غزة” للكاتب محمود عمر، تأخذ بيدنا بجولة من نوع آخر، تمسك بيدنا لنتحسّر معها “لكن هذا كله لن يحدث في بلد لا نجد فيها رأس بصلٍ حتى!” (ص. 13)، ونشرب كوب ماء “اليوم هو أول يوم أشرب فيه كوب ماء بارد منذ حوالي 7 شهور” (ص. 18)، ونفرح بالكهرباء “كانت فرحتنا عارمة حينما أنرنا مصابيح البيت التي أكلها الغبار، بسبب عدم إنارتها لانقطاع التيار الكهربائي منذ 7 شهور” (ص. 19)،
كتبت أصيل سلامة بلغة سهلة انسيابيّة، تلقائية وعفويّة بريئة، لا تخلو من السخرية السوداوية القاتلة؛ بلغت ذروتها في قصّة “جوع”: حضر الصحفي المتكرّش إلى طابور من الأطفال المشردين يحملون علباً بلاستيكية لتعبئتها بما تيسّر من طعام التكية، أخذ يصوّر الخيام والحياة البائسة، ثم أوقف أحد الأطفال وقد أهلكه الانتظار. سأله: أنت من خان يونس أم غزة؟ فقال له: أطعمني أولاً وبعد ذلك أجيبك” (ص. 55). وقصّة “معلّمتي”: “معلّمتي التي كانت تكتب دوماً في خانة حكمة اليوم: بلادي وإن جارت عليّ عزيزة… قرأتُ اليوم اسمها في أولى صفحات سجلّ المهاجرين!” (ص. 59). وقصّة “تهنئة”: “في آخر ساعات الحرب استقبل مكالمةً لتهنئته ببشرى الهدنة. التمع نورٌ حادٌّ في السماء، سمع الناس صوت صاروخ. بعد دقائق وجدوا بيته مدمراً وفريق الإنقاذ ينتشل جثّته متفحّمة”. (ص. 60)
وأخيراً؛ أبكتني أصيل حين قرأت قصّة “أسير”:
“الأسير رقم 203 قضى كل حياته متمنياً الخروج، حالماً بأول عناق بعد طول غياب متخيلاً صوت ضحكات الفرح والاحتفاء البهيج به. ناضل كثيراً في السجن وأضرب لشهور عن الطعام كي ينال حريّته. وفي اليوم الموعود صباحاً جاءه نذير يبلغه أنه قد فقد آخر فرد كان ينتظره-أمّه -” (ص. 43)، موقف عايشته في الفترة الأخيرة مع أصدقائي الأسرى حسام زهدي شاهين، عنان الشلبي، سامر متعب، وآخرهم رائد السعدي الذي توفيّ والده هذا الأسبوع، وغيرهم كُثر.
وقالت وجدان شتيوي:
قصص قصيرة جدًّا بمغزى كبير، وكأنّها استقطعت من زمن ما بين سكون قصف والخوف من مباغتة آخر. وأنا أقرأ تراءت لي الكاتبة كمن أراد أن يستغلّ ما لديه من وقت يقاس بدقّات الفزع ليصوّر أكبر قدر من مشاهد حيّة نضجت على موقد القلق والترقّب.
استخدمت الكاتبة لغة سلسة انسيابيّة، ونهايات مفاجئة تبعث على الدّهشة لتعبّرعن معاناة النّاس اليوميّة في الحرب، وما يكابدونه في رحلة النّزوح القاسية وتطرّقت لأدقّ التّفاصيل من صعوبة الحصول على المياه والاستحمام والاتّصال، ومرارة الجوع الذي قد يؤدي بالبعض للسّرقة وغير ذلك.
وأشارت في قصّة “زنزانة” صفحة 42 التي جاء فيها: ” ….جثّة هامدة بملابس ملوّنة، أو كفن ملوّن، هكذا صار بعد أن خرج من زنزانة الحبس الانفراديّ بعد ثلاثين عامًا.” لمعاناة الأسرى، وألحقتها بقصّة تؤكّد أنّ معاناتهم لا تنتهي بعد تحرّرهم من غياهب الظّلم والظّلام، إذ يُصفع الكثير منهم فور خروجهم بفقدان من كانوا بانتظارهم من الأحبّة.
من القصص التي تلامس القلب جدًّا قصّة عهد.. صفحة 38: “في آخر الطّريق بيت مهدوم، عثر بين ركامه على جثّتين لرجل وامرأة، في يمينيهما خاتمان مكتوب في أوّلهما: على العهد، وفي ثانيهما حتّى الموت”.
وقصّة خوف صفحة 57: ” ممتلئ بالشّقاء، ينتبذ الوهن، كلّما رآه أحد اغتاظ من رؤيته وحيدًا مذعورًا على تلك الأريكة القديمة، أمّا هو فيستغرب كيف لا يرون الخوف الذي بجرمه الثّقيل يزاحمه على الأريكة! “.
وقصّة التهام صفحة 83: “بحث عن جسده في الفراش،…سمع قهقهة أفكاره، ورأى الدم على أنيابها، فقد التهمته بكلّ إصرار.”
ورغم كلّ السّواد والألم إلّا أن بصيص الأمل كان حاضرًا كما في قصّة بلدة صفحة 47: “ألقيت القنابل على البلدة المنكوبة فقتل الأطفال ثمّ جادها الغيث فنبت في أرضها الأطفال”، كما كان جليًّا في الطّفل الذي يبيع الورد، وبشراء الفتاة وردة منه وإهدائها لسيّدة مسّنة, وفي استخدام مصطلح قمر 14 في العنوان إشارة للجمال والتّفاؤل.
لسان حال الكاتبة يقول: ونحن نحبّ الحياة ما استطعنا إليها سبيلا.
وقالت فاطمة كيوان:
ليس غريبًا أن يكون إهداء الكاتبه إصدارها الأول لابيها ، وربّما كان ذلك من أفضل ما يمكن فعله فالاب هو مصدر الامن والأمان وهو من باستطاعته بناء الحاضر والمستقبل لعائلته وفي ظل العدوان يصبح العجز والانكسار سمة من سمات الابوة التي تعاني من العيش في هذا الواقع المر الذي يحرمهم من معاني الحياة والحب والأمان .
في هذه المجموعه القصصية القصيرة جدا تكشف لنا الكاتبه جانب من جوانب حياتها اليوميه بكل ما فيها من تفاصيل والمرتبطه ارتباط وثيق بالمكان لكل محطات الطفوله والشباب البريئه المغتصبه تصورها لنا الكاتبه بنصوص حافله بالصور الرقيقه وقوة اللغه وجمال المفردات وعفويتها فتسكبها عذبه سهله ممتعه مبكيه في ان واحد للقارئ .
كيف لا و الأماكن هي عبق الذاكرة الّتي تطوف بها أرواحنا باشتياق وحنين، وتبقى حاضرة في وجدان أبناء الأرض الّذين ترتبط أرواحهم بها لتصنع منهم شخوصا اخرين .
هذه اليوميات ترسم لنا تفاصيل حياة الفلسطينيّين النازحين عن ارضهم وبلدانهم وبيوتهم بما فيها من عذاب وقهر وظلم في ظل الحرب وهذا النظام المحتل الغاشم الذي يحاول محو الذاكره الفلسطينية وسرقة الحياه والأرض وإعادة تشكيل جديدة لمعالم المكان والزمان وتغييب الماضي والجذور .
العتبة الأولى للنصوص تبدا بالحديث عن رحلاتها اليوميه من الجنوب منذ صعودها الحافلة للوصول للشمال للجامعه .
وأول بداية كانت لرصد يومياتها العائلية هي وكثير من اترابها فصورت الأمهات وهن يتراكضن حول ابنائهن ويتحلقن حول الحافله بلهفه وهي تحملهم في رحلة من الجنوب للشمال وضحكاتهم التي توارت خلف الجدار بعدما نزحوا ليبنوا لهم خيمة تؤويهم ويدفنوا معها تلك الضحكات والبسمات والأمان العائلي. في نص (( حياه ص 13).
ثم تتوالى الصور لترصد لنا الحياه والمعاناة اليومية التي يعيشها النازح مثل الانقطاع عن رؤية الاحبه ومراسلتهم مثل الجد وغيره وانقطاع النت لايام وايام وانقطاع المياه والطعام اهم مقومات الحياه الامر الذي يشعرك بالحزن الشديد على ما الت اليه الأحوال .فقد لكل ما هو أساس ( البيت ) الاهل ، الأصدقاء وحتى اللباس والطعام والشراب .
ففي قطعة ((ماء)) … تروي لنا
“الان الساعة السابعة بعد اإلفطار،
اليوم هو أول يوم أشرب فيه كوب ماء بارد منذ
حوالي 7 شهور ، شعرت أن الماء يسلم على كل خلية
في جسدي.
أشرب ماء باردا وتستمر الحرب الساخنة المدمرة”
وتستمرالكاتبه في عرض الصور اليوميه كحديثها عن حديقة البيت وعلاقتها بشجرة الليمون وجدها ومن ثم أيضا التلفاز الذي بات بالنسبة لهم مصدر كشف للمعلومات والاخبار وعادت له هيبته
ثم تصور لنا تفاصيل حياتها ليلا حيث لا نوم فالخوف والرعب عند سماع ازيز الطائرات يزأر يحرمهم لذة الغفوة والنوم . كل هذه التفاصيل تأبى ذاكرة الكاتبه نسيانها بل تحتفظ بكل لتبقى عالقه حاضرة في قلبها وقلوب القراء في كل زمان ومكان .
وقالت هدى عثمان:
مجموعة نصوص قصيرة جدّا،أحيانا تكون على شكل قصة قصيرة جدا ،وتارة كنص قصير،هذه المجموعة عميقة في مضمونها رغم بساطة اللغة،في تلك النصوص نفتح حقائب الوجع الذي يتمدد في غزّة،ونقرأ ملامح الحرب من خلال ابنة غزّة، الكاتبة الشابة قمر التي تعكس من خلال يومياتها المقتضبة تحت سقف الحرب المشاعر الحزينة ومفردات الحرب مثل الصواريخ،النزوح،الخيمة ،الهجرة،الجوع،الألم والفقد وغيرها.
في هذه النصوص الواقعية التي تحمل إحدى نصوصها، تتجلى مشاعر الكاتبة أصيل سلامة الدافئة وحنينها إلى جدّها،والجدير بالذكر، أنّ الرسائل عبر الهاتف ،كانت حلقة الوصل بينهما،وأحيانا تنقطع بسبب النت،فهي تصور حالة تفكك النسيج الاجتماعي في حضن الحرب.
أهمية الرّسائل تكمن في تفريغ الحالة النفسية السيئة التي تنتاب الكاتبة بسبب الحرب والنزوح؛فالرّسائل هي رسائل أشواق ومشاعر الخوف والفقد تحت الحرب في ظلّ انقطاع النت.وتظهر في نصوصها مثل: “العطش”و،”نص ماء”.
في هذه النصوص، رغم أنها تأتي وتنتهي بسرعة البرق،إلا أنها تمسك بخيالنا و تجعلنا نتأمل ونقول: ما أبشع الفقد.فقد البيت، المكان،والأهل.ما أصعب النزوح ويا لعنة الحرب!
هناك تفاوت بين النصوص من ناحية قوّة المفارقة والدهشة،وجمال النص،أعجبني على سبيل المثال لا الحصر النص”جوع”حين سُئل الطفل بماذا يلوّن الشطيرة؟أجاب بلون الجوع!
هذا النص ونصوص أخرى تشير إلى أننا أمام كاتبة سيكون غدها مشرق في عالم الكتابة بشكل جميل إن شاءالله.
بعض النصوص حملت النقد اللاذع والسّخرية من سلوكيات اجتماعية.
مثل نص “ضوء القمر”الذي يعبّر عن مدى غرور بعض النساء لدرجة ادّعاء المرأة أن الشيب في شعرها ما هو إلاّ ضوء القمر.
الزمان ظاهر في النصوص”النهار يحرق كل طاقتها”،”الساعة السّابعة صباحا”،السّابع من إبريل”،الثانية ظهرا”.
وقال بسام داوود:
الحرب تفسد كل شيء ,تسبب المعاناة في كل مجالات الحياة فتسبب القتل والجرح والاعاقات والتشريد ونقص في الغذاء والادوية والعلاج وانتشار الامراض وتدمير المساكن والمنشات والاصعب من كل ما ذكر عندما يجبرك عدوك على ترك بيتك او ما تبقى منه للنزوح الى المجهول .
مواقف مؤثرة من مجموعة قصص قمر 14 :
-القذائف في كل مكان هدمت الجدار وفي لحظة لا جدران ولا من عند الجدارن .
-النزوح ما هو الا طلوع الروح .
-الام تتلمس الحيطان وفي عيونها الدموع .الاب يدعو ابنائه لتحضير حقائب النزوح وفي صوته غصة .البنت تبكي .الاولاد ينشغلوا بلملمة الحقائب وترتيبها بالسيارة .خرجوا من البيت دون ما توديع ,الياسمين في الحديقة ينتظرهم ,رائحة العطر تنتظرهم ,مدخل البيت ينحب لعدم مرورهم فوقه , باب المنزل والشقة ما زالا مغلقين بالمفتاح لن يفتحمها احد غريب .
-تحتار هي واهلها ماذا سينقلون من بيتهم وهم على وشك النزوح يتمنون لو بمقدورهم حمل البيت على اكتافهم لانقاذه من البقاء وحيدا فالوحدة مؤلمة حتى للبيوت .
-جاء التحذير على شكل مهاتفة لئيمة معكم 15 دقيقة لاخلاء البيت شعرت بالم في معدتها وفي كل جسمها فالبيت ليس مجرد جدارن انه لهفة …..ذكريات ….ضحكات …دفء …احزان ….مواساة …انه الحياة .
-تغوص في خيالها المقهور عدة اسئلة اين ستقيم هي واهلها ؟ هل سيجدون خيمة تؤيهم ؟هل ما اخذوه من ملابس وفراش ستكفيهم ؟ماذا سيحدث للبيت الجميل بعد نزوحهم ؟ تتمنى لو تبقى في البيت فهو روح الروح .
-وضعوا اغراضهم وملابسهم في كراتين المساعدات الغذائية وحملوا كل ما استطاعوا حمله اما ارواحهم فانها لم تغادر البيت بقيت تؤنسه وتواسيه .
-ابي يسوق السيارة بعصبية نبكي على اطلال ما تبقى من ذكريات كنت اجلس على المقعد الخلفي اتكىء على جرة غاز احمل جهاز الضغط لابي وطقم اطباق خاص بامي ابكي واتفادى النظر لاي احد من افراد اسرتي ,ابكي وانظر الى ابي وفي عينيه صراع مميت بين البكاء والثبات .
-في اليوم الثاني لنزوحنا جلست مع عدد من السيدات النازحات بادرن بالسؤال عن اخواتي المشردات في اي مكان يتواجدن ؟
-من مفاجآت الحرب نلتقي باشخاص كنا قد فقدنا الامل بلقياهم , التقت بصديقتها شريكة الذكريات الحلوة في الجامعة لم ترها منذ 5 اكتوبر تعانقتا بقوة واهدتها وشاح ليبقى ذكرى لهذا اللقاء .
-عروس تزف في هذه الظروف بثوب منتوشة خيوطه وتكتحل بقلم كحل مكسور لم تكن تعلم انها ستكون اولى فرائس الحرب المشؤومة .
-القيت القنابل على البلدة المنكوبة فقتل الاطفال ثم جاءها الغيث فنبتت في ارضها الاطفال .
-يغيب عن بيته فترة طويلة تصله اخبار غامضة بان البيت قد سرق يقول العفش لا يهم المهم ان يبقى البيت سالما يرى من الاعلام ان بيته محروقا المهم ان يبقى البناء سليما يعلم ان الجدران قد تهدمت يقول المهم ان تبقى الاعمدة ينسحب جنود الاحتلال من المنطقة يذهب ليطمئن قلبه ….هنا تتعطل كل المواساة حينما يرى البيت قد اصبح جثة هامدة .
-الصحفى المتكرش يرى اطفالا يحملون علبا للحصول على بعض الطعام سأل طفلا انت من خانيونس ام من غزة ؟ قال له :اطعمني اولا ثم اجيبك .
-طفل الجوع يرسم شطيرة تتصاعد منها ادخنة متعرجة تبدو لذيذة سيلونها بلون الجوع .
-كانت معلمتي تكتب بلادي وان جارت على عزيزة قرأت اسمها في اول صفحات المهاجرين .
-لا يدرى اين سينزح مجددا بعد ان فك خيمته .
-عند اجتياح رفع اصدقائي حرضوني على النزوح جلست في حديقة البيت اغلي القهوة تحت الاشجار اتنسم عطرها على غير العادة رأيتها كما لم ارها من قبل تذكرت ابي وامي عندما غادرا قريتهما القريبة من الرملة سنة 1948 ,كم هي قاسية مغادرة البيت . سرحت وانا اتأمل البيت الوفي مثلما غادرا ابي وامي بيتهما قبل سنين .بكيت على ما فات وعلى ما نحن فيه وعلى ما هو آت .
-اثناء تشييع جنازة ابيه الشهيد اشتد القصف فاحتمى بابيه للمرة الاخيرة .
-الكل يهتف منتشيا بانتهاء الحرب الكل يكبر المقاومون يزفون لاخبار تهنئة للشعب وام الشهيد وحدها تبكي وحدتها بالحزن على ابنها .
- في نهاية الحرب استقبل مكالمة لتهنئته بالسلامة ثم سقط صاروخ فوق بيته لينهدم البيت ويعلوه الركام ليصبح جثة هامدة .
-تسمع الطفلة صوت الانفجارات وتصرخ تهدئها الام وتقول :حفلة حفلة يا ماما صوت طبول ورقص وغناء .
-لم تعد هناك حافلة ولا جامعة ولا رفيقات دراسة انا الان في خيمة من خيام النازحيين .
الف مبارك مرة اخرى للكاتبة اصيل سلامة على امل لقاء معها في انجازات اخرى .
وقالت نزهة أبو غوش:
يحمل كتاب “قمر 14” تجربة أدبية خاصة في مجال القصة القصيرة جدًا، حيث تسلط الكاتبة الضوء على الواقع الحياتي في غزة أثناء الحرب، متناولةً قضايا الخوف، الفقدان، النزوح، الدمار، المشاعر الإنسانية، وذكريات الطفولة.
الكتاب يحتوي على 103 قصة قصيرة جدًا، ورغم أن غالبية القصص تحمل ترابطًا موضوعيًا واضحًا، إلا أن هناك بعض النصوص التي لم تكن متسقة مع الموضوع العام، مما يثير تساؤلات نقدية حول بنيته..
معظم القصص تصوّر الدمار، القلق، الفقدان، والتشريد، وتعكس الاضطراب النفسي الذي يعيشه الأفراد في ظل الحروب.
هناك تركيز على الأطفال وذكريات الطفولة، وهو ما يبرز الحنين إلى عالم بريء مفقود.
تناولت الكاتبة الحب، الفرح، الحزن، الأمل والخوف، لكنها قدمت ذلك في سياق الحرب، مما جعل المشاعر تبدو متناقضة بين الحنين للأمان والواقع القاس..
بعض القصص تميزت بقدرتها على نقل المشاعر بصدق وقوة، بينما بعضها الآخر افتقد للعمق العاطفي.
استخدام القمر في عنوان الكتاب وفي بعض القصص يعكس رمزية للأمل والنور في الظلام، مما يضيف بُعدًا فلسفيًا وجماليًا للنصوص. الأشجار والماء والطبيعة ظهرت في بعض القصص كعناصر
رمزية للصمود.
رغم أن غالبية القصص كانت تعكس واقع الحرب، إلا أن بعض النصوص بدت منفصلة عن السياق العام.
هذا الأمر قد يُفسر إما
برغبة الكاتبة في التنويع أو بعدم وجود رؤية سردية محكمة تربط جميع القصص ضمن إطار واضح..
نجحت الكاتبة في استخدام اللغة المختصرة للتعبير عن المشاعر والأحداث، وهو أمر ضروري في القصة القصيرة جدًا..
اعتمدت الكاتبة على تتابع الأفعال بسرعة كبيرة، مما جعل النصوص تنقل حالة القلق والتوتر بشكل جيد..
المفارقة والدهشة في
النهايات
وعنصر المفاجأة كان واضحًا في كثير من القصص، وهو ميزة في القصة القصيرة جدًا..
بعض القصص قدمت نهايات صادمة أو غير متوقعة، مما أضاف بُعدًا جماليًا وتأمليًا، في حين أن بعض النهايات بدت سطحية أو غير مكتملة.
اللغة واضحة وسهلة، لكنها تميل أحيانًا إلى المباشرة:
استخدمت الكاتبة لغة بسيطة لكنها معبرة،
مما يجعل النصوص متاحة لفئة واسعة من القراء..
في بعض القصص، كانت اللغة مباشرة بشكل زائد، مما أفقدها الجانب الأدبي العميق
. أسلوب القصة القصيرة جدًا مناسب للتعبير عن التوتر النفسي الذي تفرضه الحرب.
. استخدام المفارقة والدهشة في العديد من القصص منحها قوة سردية
الرمزية في بعض القصص أضافت عمقًا فلسفيًا وتأمليًا..
كتاب “قمر 14” يقدم شهادة أدبية صادقة عن معاناة غزة في الحرب، ويعكس قدرة الكاتبة أصيل سلامة على التكثيف والتعبير عن المشاعر القوية في مساحة سردية قصيرة جدًا. ورغم وجود لحظات إبداعية مميزة في العديد من القصص، إلا أن هناك بعض القصص غير المنسجمة مع السياق العام، مع ذلك، يبقى الكتاب مهمًا كعمل يعبر عن تجربة ذاتية وإنسانية قاسية بأسلوب بسيط لكنه مؤثر.
لقد ذكرت الكاتبة في قصصها الجد بشكل متكرر. فالجد في الأدب غالبًا ما يرمز إلى الحكمة، الأمان، والتاريخ العائلي. من خلال الحديث عنه وكأنها تحادثه في الحلم، يبدو أن الكاتبة ترى فيه ارتباطًا عميقًا بالماضي والأصالة والقيم العائلية التي تشعر بأنها ضاعت بسبب الحرب.
فهو ليس مجرد شخص مفقود، بل رمز للحب، الحكمة، والاستقرار الذي تحاول الكاتبة التمسك به وسط عالم مليء بالفوضى. رؤيته في الأحلام قد تعكس حاجتها النفسية العميقة للشعور بالأمان والتوجيه في أوقات الأزمات.
وقالت د. رفيقة عثمان أبو غوش:
من قراءتي للمجموعة القصصيّة، وجدت بأنّها تحتوي على قصص قصيرة عديدة معظمها حيّة؛ لواقع الحرب على غزّة، منذ الخامس من أكتوبر كما ورد صفحة 30؛ وما بعده، ابتداءًا من السابع من أكنوبر 2024.
بدت هذه القصص مثيرة ومؤلمة جدّا، ونجحت الكاتبة أصيل، في وصف الحياة الاجتماعيّة المأساويّة؛ الّتي يحياها المواطنون في غزّة، أثناء النّزوح ما قبله، وما بعده؛ نظرًا لكون الكاتبة من مواطني غزّة.
استخدمت الكاتبة أصيل، ضمير الأنا في معظم القصص، واستعمال أسمها الحقيقي “أصيل” في بعض القصص؛ وبنفس الوقت استخدمت ضمير الغائب. إنّ الرّواية بضمير الأنا، أضاف مصداقيّة للأحداث؛ لأنّها صدرت من فم الرّاوية (الكاتبة أصيل).
استلهمت الكابتة عنوان المجموعة القصصيّة، باختيارها لإحدى القصص بعنوان: “قمر 14″؛ صفحة 69، والّتي مضمونها حول فتاة جميلة، تواعدت مع شاب؛ وعندما سألته عن طلّتها “كيف ترى طلّتي؟” أجابها: “قمر 14” شكرته على رأيه وذهبت كي ترى حبيبها. برأيي الشّخصي هذاالاختيار لهذه القصّة، ربّما تكون القصّة رمزيّة؛ أي قمر 14 تعتبر غزّة الجميلة، وتتحلّى بمواصفات الفتاة اليافعة. لا شكّ بأنّ العنوان جذّاب جدّا، يحتوي على فضول لمعرفة المضمون.
حبّذا لو اختارت الكاتبة قصّة ثانية، للعنوان بحيث تصف حالة الحرب على غزّة مثل قصّة جدران، أو من يوميّات بيتنا، أو أوّل أيّام النّزوح.
ظهرت بعض الموتيفات في القصص القصيرة، بتكرار بعض الكلمات أو المصطلحات مثل: كلمة البيت والّتي برزت في معظم القصص، كما يبدو نظرًا لأهميّتها في نفس الكاتبة؛ حيث عبّرت عن فقدان البيت كما ورد في قصّة جدران “تستوقفها عناقات الجدران، وفي لحظة حارقة، لا يوجد جدران ولا هي ولا هو في المكان” صفحة 46. “التمع نور حارق في السّماء، سمع لصوت صاروخ بعد دقائق، وجدوا بيته مدمّرًا، وفريق الإنقاذ ينتشل جثّته متفحّمة” قصّة تهنئة صفحة 60 . وصفت الكاتبة فقدان البيت ” فالبيت هو روح الرّوح”. قصّة أسئلة صفحة 87 ” وقالت: ” هذا البيت ليس مجرّد حيطان، إنّه لهفة وذكريات وضحك ودفء وأحزان ومواساة، إنّه حياة”. قصّة بيت صفحة 70. “أمّا ارواحهم فإنّها لم تغادرالبيت، بقيت هناك تؤنسه وتواسيه” صفحة 78.
من الموتيفات أيضًا كلمة الفقدان، حيث تكرّرت مرارًا وتكرارًا؛ حيث فقدان العائلة، الأم، والأب، والبيت، والجد، والفرح، والحياة، والمأوى، الأصدقاء والأحباب، فقدان الطّعام والجوع، والماء، والتّلفاز، والنت؛ “حزينة في الوقت ذاته؛ لأنّني أفتقد جدّي” مذكّرات أثناء الحرب. “اليوم الأوّل هو أوّل يوم أشرب فيه كوب ماء بارد منذ حوالي سبعة أشهر”. الأسير”بعد خروجه من السّجن، فقد آخر فرد كان ينتظره – أمّه”.
موتيف آخر هو كلمة اللّيل، وسيميائيّته تبدو كرمز يعبّر عن العاطفة الحزينة الّتي تحلّى بها المواطنون أثناء الحرب، وتعرّضهم للمخاطر والنّزوح؛ قصّة اللّيل صفحة 24 عبّرت بشكل واضح عن المعاناة أثناء اللّيل؛ حيث وصفت الكاتبة “صعوبة النّوم، وأصوات الشّخير، وبكاء الأطفال، وأصوات الطّائرات الزّنّانة، والصّواريخ الّتي تغتصب هدوء اللّيل، وفأر شاركهم جميعًا جريمة إبقائها ساهرة متأزّمة”. برأيي الشّخصي تعتبر هذه القصّة من أكثر القصص تعبيرًا عن الذّات والمعاناة اليوميّة خلال الحرب.
توصف لغة الكاتبة بلغة واضحة وسهلة، تتماشى مع وصف الأحداث؛ تفتقر للمصطلحات البلاغيّة، لكن الأحداث المؤلمة فرضت نفسها على اختيار اللّغة القريبة على اللّغة التّقريريّة.
خلاصة القول: المجموعة القصصيّة هذه، تعتبر مذكّرات فتاة اثناء الحرب على غزّة، فهي تعبّر عن مشاعر صادقة، وحزينة تعكس آلام شعب كامل.
برأيي الشّخصي، انّ الكاتبة تجنّبت في الغوص بتفاصيل لأحداث أكثر إيلامًا خلال الحب، والّتي شاهدناها عبر الشّاشات الفضائيّة والإلكترونيّة؛ ربّما بسبب طباعة المجموعة القصصيّة خارج غزّة، وتحسّبًا لمضايقات سياسيّة من أطراف عدائيّة.
اقترح على الكاتبة أصيل، بأن تفصل القصص المتعلّقة بالحرب على غزّة، عن القصص الاجتماعيّة الاخرى الموجودة ضمن الكتاب؛ وربّما إذا فكّرت بكتابة جزء ثانٍ عن الحرب على غزّة، وما بعد توقّف الحرب والعودة.
وقالت ميرا إياد جبارين:
رواية “قمر ١٤ ” ليست مجرد كلمات، بل هي دموع مسكوبة على ورق. أنا، كفتاة في الثالثة عشرة، قرأتها وشعرت كأن قلبي يُكسر مع كل سطر. كأنني عشت حرب السنه والنصف سنه من جديد ولكن في نصف ساعة .
كل خاطرة في الرواية جرح جديد. الكاتبة لم تكتب قصة، بل رسمت مشاعر. لكنني شعرت بالضياع أحياناً، كأنني أتجول في ظلام بلا نور.
الأطفال: براءة تُسرق**:
الأطفال في الرواية هم الأكثر إيلاماً. براءتهم تتحول إلى دموع. الكاتبة جعلتهم يسألون: “لماذا؟” ولم تجب. هذا السؤال بقي في قلبي . لماذا ؟؟؟! ………
والنساء هن العرائس اللائي تحولن إلى أشباح. يحملن أطفالهن ويسيرن في شوارع مهدمة. الكاتبة جعلتني أشعر بثقل أحزانهن، وكأنهن يحملن العالم على أكتافهن.
والرجال يتوارون خلف أقنعة البأس والصبر ولكنهم يصرخون ويبكون بلا صوت ولا دموع ……
الخلاصة:
رواية “أصيل” جعلتني أعيش الألم كما عشته وقت الحرب . الكاتبة نجحت في نقل المعاناة، لكنها تركتني في ظلام. أتمنى لو كانت هناك كلمة أمل، حتى لو صغيرة، لأمسك بها.
في النهاية أحب أن أبارك لك يا أصيل غزة على هذا العمل المميز المحفوف بآلام شعبنا .
وقالت نزهة الرملاوي:
على نهج الكاتب القدير محمود شقير واحترافه في كتابة القصص القصيرة جدا، تمضي الكاتبة أصيل سلامة، وتبدأ مشوارها الأدبي وباكورة أعمالها بكتابة هذه المجموعة. عنونت الكاتبة مجموعتها ب ( قمر 14) ماذا يعني قمر 14 للكاتبة؟ تشير بعض النظريات ان لاكتمال القمر تأثير على حالات الانسان المزاجية والهرمونية، فربما ينتج تأثير حاد على شخصيته، ويثير المشاكل حوله ويفقد صوابه ويتحلل من اتزانه، وربما تتفتح عند البعض مسامات التأمل وقريحة الكتابة، فيسقطون في بحر العشق والكلمات. ترى هل تأثرت الكاتبة بحالة القمر وهو بدر مكتمل؟ أم كان للتسمية وجهة نظر ثانية لديها؟ يتبين أن الكاتبة في قصتها قمر 14 الواردة في الصفحة 69 أن التسمية جاءت متأثرة بالمفهوم الشعبي لحسن وجمال القمر حينما يكتمل ويصبح بدرا، وربطه بحسن المرأة وجمالها، ويبدو ذلك بعد انتظار طويل لحبيبته، التي أتت بناء على موعد سابق، وحينما أتت، سألته عن طلتها، فقال: قمر 14 شكرته على رأيه وذهبت كي ترى حبيبها! تلك من سمات القصص القصيرة أو الومضات تثير في القارئ الدهشة حين تقف عند نهايات متقلبة غير متوقعة. اهدت الكاتبة قصصها لواقع بخيل لم يحقق لها حلما واحدا من أحلامها في السلام والعدل. فالحروب المتتالية على غزة، تحول دون تحقيقها وبالرغم من ذلك نجد في أهلها صمود إلى حدّ الدهشة والانبهار. وبما أن الكاتب ابن بيئته، رسول الكلمة ونبيّ الأحداث والأزمنة، يشاهد ويتأثر نفسيا وفكريا بما يحدث حوله، وها هي ابنة غزة التي تعيش تحت سطوة الحرب ومرارتها، تعتبر في مجموعتها عن ذلك الألم، تقاوم بالكلمة، وتعزز من خلاله الأدب الملتزم، ومن خلال تأملها لحياة وطن محاصر تعيش فيه، وتدون ما يخطر ببالها، وما تراه وتتأثر به نتيجة ما تعانيه مع غيرها من ألم النزوح المتكرر، والعيش في خيام بالية لا تمنع صقيع الشتاء ولا لهيب الصيف، وفقدهم لكلّ مقومات الحياة الكريمة من بيوت قائمة أو أمنة وتعليم وماء وكهرباء وطعام وشراب. دوّنت الكاتبة يوميات عاشتها ما بين نيران القصف وطرق نزوح طويلة مليئة بالصبر والتحدي والألم. من هنا نجد أنّ للحرب الجهنمية على غزة تأثيرات نفسية واجتماعية واقتصادية كبيرة على من يرزحون تحت وطأتها، لذا نجد تأثيرها واضحا في أقصوصات الكاتبة، التي تنامى لديها شعور الفقد والغربة لعدم اكتمال حلمها وتحقيق أمانيها كغيرها من أهل غزة القاطنين تحت لهيب الحرب وويلاتها. في قصتها حياة ص12 تصوّر الكاتبة حياة النعيم والاستقرار التي يعيشها الناس والأطفال في المدن خارج غزة، وتبين حال المحاصرين داخل غزة المحاصرة، وتصور للقارئ حياة أطفال غزة الذين يدقّون مسامير طفولتهم كأوتاد في خيام نزوحهم. وتشكل قسوة الحرب عثرة أمام لحظات الحلم بين محبّين لم بجدا رأس بصل، يكملان به مغامرة الطبخ معا.ص13 وتبيّن أن انقطاع النت في الحرب، كان عائقا قويا أمام تواصل الناس مع العالم الخارجي وعدم تواصل الكاتبة مع جدها الذي فقدته، وبالرغم من بعده عنها إلا أنها تجد في رسائله المكتوبة وحنان صوته وحروفه التي سكّنت توترها، محفزا لها على الصمود وعدم الخوف من الطائرات المحلّقة في سماء غزة. ص 15 وصوّرت للقارئ أنها تعيش في عالم رمادي ص 16، ذلك لون الركام والخراب الذي يغطي وجه غزة، وهو الأشد حضورا وبؤسا فيها. بالإضافة إلى ذلك أشارت إلى حالة القلق والحيرة التي تلاحق الغزيين إثر القصف الذي يلاحقهم، يقفون بقلق، يتنهدون ولا يدرون أين يأخذهم النزوح، وأشارت إلى ذلك قائلة: ( فكّ خيمته، تنهد، ولم يدرِ أين سينزح مجدداً) ص71 تشير الكاتبة بأصابع الاتهام والنقمة لهذه الحرب لما خلقته من دمار جسدي ونفسي بدا واضحا في تغيّر ملامحها حين قالت وقد التهمها الشقاء في قصتها مرآة (هذه الحرب كلّ يوم فيها بسنة. تنظر إلى وجهها في المرآة بفزع وذهول. آه كم كبرت! هذا غير معقول. ثم كسرت المرآة) ص 101 استخدمت الكاتبة الكثير من عبارات التشبيه والاستعارات، والتقطت من الذاكرة صورا عزيزة للمنزل والحديقة والشارع والمدرسة والطعام والجلسات الهادئة لترسم للقارئ حياة طبيعة بصورة أدبية واقعية، معجونة من حياة دافئة برفقة الأهل والأحبة، وحياة قاسية تمثلت بخطوات النازحين المتعبة، ودماء الشهداء وثبات الأسرى وأمل المعذبين على هذه الارض. استخدمت القاصة عبارات الحرب المتداولة منذ عام ونيّف، كالطائرات، الصواريخ، الخيام، النازحين، الماء، المطر، التكية، الزنانة، الجوع وغيرها. ربطت الكاتبة بعض قصصها بجدها الذي فقدته وطال غيابه عنها بشكل أو بآخر. هنا أثير السؤال من جديد، هل استطعنا ككتاب أن ننتج نصوصا بحجم المأساة والقتل والدّمار الذي لحق بغزة وأهلها، سواء كتبنا من قلب المكان، أم من خارجه؟ فنحن لا نكتب لنؤيد فكرة فصيل، نحن نروي بأمانة عن أحداث تكتبنا وتأمرنا أن نتناولها بسبب دمويتها الغير عادية، تشقّ فينا جرحا بالغا لا يندمل. كاتبتنا الصغيرة دوّنت يوميات عاشتها وكتبت أقصوصات وخواطر تحت نيران القصف وقسوة الحرب، أخذها النزوح إلى المنافي والخيام، ولا زالت تعيش هناك، تتجرّع قسوة الحرب ومرارتها. إذن سنبقى على قيد المحاولة، حاولنا ولا زلنا نحاول، لعلّ الحروف تُجدي وفي زمن الصّمت تُقاتل. أوجعتني الحرب يا أصيل، نزحت معكم، أخذني النزوح من الشمال الى الجنوب، وصفت المشاهد بمصداقية وبلا خيال، لملمتني صور جرحاكم وابتسامات شهدائكم، بعثرتني القاذفات، تاهت بنا طرقات النزوح ثانية. في طريق نزوحكم الطويل، أبكتني أجسادا مبتورة، وجثثا منهوشة، انبتت في قلبي جبالا من الأحزان، عشت معكم مشاهد الحرب ليل نهار، حملت حزنا بحجم الدمار والفقد الذي لحق بكم، لم تغب روحي وأحاسيسي ودموعي عنكم، وان غاب جسدي عن بيوتكم المهدمة وخيامكم المتطايرة، وفراشكم الذي التحفت أمطار السماء، ولحقت برياحها العاتية، أوجعتني أجساد رازحة تحت برد قارص وجنون الشتاء، وحرّ الصيف وحشراته الغريبة وبعوض امتص دماءهم. شهور طويلة وأنا أدون أحداث حرب مجنونة شنت عليكم، رصدت ذلك الجوع الوحش الذي نهش بطونكم، أشعلت من قهري نارا تحت قدوركم الفارغة، وقفت معكم في طابور انتظار طويل أمام التكية، رأيت القذائف تسقط، تطيّر أجساد الصغار، وتكوّم أشلاءهم في الصّحون الفارغة، ذاب قلبي في قدور صبركم وعزكم وثباتكم، وطلعت مع شمس انتصاركم وكلّي أمل وحياة.