من يتابع طبيعة الصّراع في الشّرق الأوسط، سيجد أنّه كلما اقترب الفلسطينيّون مترا من السّلام ابتعدت عنه اسرائيل مئة ميل، وكلما ازدادت اسرائيل تعنتا وصلافة، ازداد العربان ركوعا أمامها، وقدّموا لها تنازلات دون مقابل، وقادة اسرائيل الذين ينفّذون مشروعهم الاستيطانيّ التّوسّعيّ، والذي يتخطّى حدود فلسطين التّاريخيّة، ويتعدّى مرتفعات الجولان السّوريّة المحتلّة، يجيدون فنّ إدارة الصّراع، ويكسبون الرّأي العامّ العالميّ من خلال التّضليل الإعلامي، أو من خلال الضّغوطات الأمريكيّة، فاسرائيل الرّسميّة وقبل استسلام النّظام الرّسميّ العربيّ في غالبيّته أمامها كانت تطرح مبادلة حقوق اللاجئين الفلسطينيّين، بما سمّته بحقوق اليهود الذين كانوا يعيشون في دول عربيّة مثل العراق، المغرب، اليمن، مصر، تونس، وغيرها.
وبعد أن أعلنها الرّئيس الأمريكيّ ترامب على رؤوس الأشهاد انحياز إدارته التّام واللامحدود لاسرائيل، بل أنّ إدارة ترامب متصهينة أكثر من أحزاب اليمين الصّهيوني التي يقودها رئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتنياهو، وترامب الذي يواصل حلب بقرة البترول في الخليج الذي كان عربيّا، وتدفع له أنظمة الخليج ما يطلبه من المليارات دون نقاش، مقابل حمايته للأنظمة الحاكمة، وتموّل قواعده العسكريّة التي تحرس المصالح الأمريكيّة على أراضيها، لم يحفظ ماء الوجه لأيّ من وكلائه العرب، فقدّم القدس والجولان ووكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين وغيرها على طبق من ذهب لإسرائيل، وأطلق يدها في استيطان الأراضي العربيّة المحتلة. وبعد تطبيع غالبيّة الدّول العربيّة علاقاتها مع اسرائيل، بل وصل التّطبيع إلى درجة التنسيق الأمني والعسكري، لم تجد اسرائيل ما تخشاه أمامها؛ فطوّرت مطالبها بعد تدميرها لأيّ امكانيّة لحلول سلميّة في المستقبل القريب، وشرعت بقصقصة أجنحة السّلطة الفلسطينيّة من خلال احتجاز أموال المقاصّة الفلسطينيّة تحت ذرائع مدروسة بعناية، وبدعم أمريكيّ لامحدود، فبدأت من مارس الماضي بخصم مبلغ يساوي قيمة ما تدفعه السّلطة الفلسطينيّة كمخصّصات شهريّة لأسر الشّهداء والجرحى والأسرى، وهو حوالي اثني عشر مليون دولار شهريّا، وهي بهذا تريد أن تقنع العالم أنّ المقاومة الفلسطينيّة هي مجرّد عصابات اجراميّة تخريبيّة، وليست حركة تحرّر! وتبعتها في حزيران الماضي، بخصم مئات ملايين الشّواقل كتعويضات لجواسيس اسرائيل الذين تعرّضوا للأذى والاضطهاد في الأراضي الفلسطينيّة، وهي بهذا تؤكّد نظرتها للشّعب الفلسطينيّ بأنّ أبناءه مجرّد حطابين وسقائين لليهود الذين هم شعب الله المختار، وعليه أن يدفع أجرة من يتجسّسون عليه لصالح اسرائيل. وتطوّرت المطالب الإسرائيليّة بقرار قضائيّ يسمح بخصم مئات ملايين الشّواقل لتعويض اليهود الذين تضرّروا من المقاومة الفلسطينيّة، وهذا يعني أنّ اسرائيل ليست محتلّة بل محرّرة “لأرض اسرائيل” التي كان العرب يحتلّونها، وبالتّالي فإنّ من يقاومها أو يطالب بانسحابها منها هو مخرّب ومجرم. وليس بعيدا ذلك اليوم الذي ستطالب اسرائيل الدّول التي تسمّي نفسها عربيّة بدفع تعويضات لإسرائيل عن خسائرها ليس من تاريخ قيامها كدولة في منتصف مايو 1948 فقط، بل بالخسائر التي لحقت باليهود زمن الانتداب البريطاني، وبتعويضات يهود الدّول العربيّة الذين هجّرتهم الحركة الصهيونيّة بالتّعاون مع كنوزها الاستراتيجيّة إلى فلسطين؛ ليكونوا جنودا في دولتهم “اسرائيل”. وبعد هذا كلّه أو خلاله، ستعمل اسرائيل على اجهاض السّلطة الفلسطينيّة، ويمكن استبدالها بعملاء اسرائيل، لتكون إدارة مدنيّة على من يتبقى من الشّعب الفلسطيني في دياره، بعد عملية طرد جماعي”ترانسفير” كبيرة. ولن يكون دافعو المليارات لأمريكا ثمنا لحماية عروشهم في منأى عن الأطماع الإسرائيليّة والأمريكيّة، لأنّهم عندها سيكونون قد استنفذوا دورهم المرسوم لهم، وسيتمّ استبدالهم بغيرهم.
فهل يتنادى طرفا الانقسام الفلسطينيّ لانهاء الانقسام، والانسحاب رسميّا من اتّفاقات أوسلو التي لم تجلب للشّعب الفلسطيني إلا الويلات، أم أنّنا سنبقى ندور في نفس الحلقة المفرغة؟
10-7-2019