منذ انهيار الاتحاد السوفييتي ومجموعة الدّول الاشتركية مع بداية تسعينات القرن العشرين، بحثت قوى الطغيان العالميّة عن عدوّ تعلق خطاياها على مشجبه، وتحقّق مصالحها من خلال شيطنته، فوجدت ضالّتها في الاسلام والمسلمين، بعد أن كانت زمن الحرب الباردة بين القطبين “الاشتراكيّة والرّأسماليّة” تعتبر الاسلام الجدار الواقي من خطر الشّيوعيّة.
وما يهمّنا هنا هو كيف استجابت غالبيّة الأنظمة العربيّة، وأحزاب الاسلام السّياسي لذلك، وكيف جرى تضليل بعض الرّعاع ليكونوا وقودا لهذا الصّراع الذي يستهدف العرب وووطنهم قبل غيرهم، لتبقى ساحتهم تحت مظلّة الدّول الامبرياليّة وفي مقدّمتها أمريكا، حماية للمصالح الغربيّة وللمشروع الصهيوني الذي تتعدّى أطماعه حدود فلسطين التّاريخيّة.
وبما أنّ الامبرياليّة العالميّة لا تتعلّم من أخطائها، تماما مثلما هي غالبيّة الأنظمة العربيّة الموالية لأمريكا لا تتعلم هي الأخرى من أخطائها وتجاربها السّابقة، فهي مستسلمة للدّور المنوط بها لحماية مصالح أسيادها، كي تبقيها في سدّة الحكم، ودون أن تدرك أنّه سيأتي يوم تستنفذ فيه مهمّتها وسيجري استبدالها بسهولة، ودون أن تفكّر أيضا بالحكمة القائلة” اخدم شعبك يحميك”.
بين الارهاب والمقاومة:
لم يشهد التّاريخ أنّ الدّول الغربيّة وعلى رأسها أمريكا أن دعمت شعبا يسعى إلى التّحرّر، بل العكس هو الصّحيح، فبريطانيا وفرنسا وإلى حدّ ما ايطاليا والبرتغال، قبل ظهور أمريكا كقوّة عالميّة في أعقاب الحرب العالميّة الثّانية، استعمرت دول العالم الثّالث في آسيا، افريقيا وأمريكا اللاتينية، وقتلت الملايين في هذه الدّول، ونهبت خيراتها، وقسّمتها إلى دويلات، ففرنسا قتلت أكثر من مليون جزائري على سبيل المثال، وبريطانيا عملت على اقامة دولة اسرائيل وتشريد الشّعب الفلسطيني، ولاحقا قتلت أمريكا ملايين الفيتناميّين، وقامت أمريكا ودول أوروبيّة أخرى بمحاربة واسقاط أنظمة وطنيّة خدمت شعوبها، وتغض النّظر عن الجرائم التي ترتكب بحق بعض المستضعفين في الأرض، مثل قتل المسلمين في بورما وغير ذلك، كما أنّها تبرّر الارهاب الدّولي في بعض المناطق مثل الاستيطان الصهيوني في الأراضي الفلسطينيّة، وتوفّر الحماية لاسرائيل في تخطّيها للقانون الدّولي، وقتلها للشّعب الفلسطيني، وهي تعتبر المقاومة الفلسطينيّة ارهابا، كما أنّها تبرّر لنفسها القيام بارهاب الدّولة والتّدخل في شؤون الدّول الأخرى، كاحتلال العراق عام 2003 وتدميره وهدم دولته وقتل شعبه، ووضعه في دائرة صراع طائفي تدميري متواصل، وكذلك الحال في ليبيا والصّومال وغيرها، وتقسيم السّودان، والعمل على تقسيم غيره أيضا.
إعادة تقسيم المنطقة:
طرحت أمريكا عام 2006 ما يسمى “مشروع الشّرق الأوسط الجديد، والذي يسعى إلى إعادة تقسيم المنطقة العربيّة إلى دويلات طائفيّة متناحرة، وهذا المشروع يستهدف المنطقة برمّتها، وسيشمل دولا أنظمتها حليفة لأمريكا، ويتمّ ذلك –مع الأسف- بأيد ومال ودماء عربيّة، وتحت راية “الاسلام”!
سوريّا البداية وليست النهاية:
بعض المتأسلمين الجدد، أخرجوا النّصوص الدّينيّة عن مساقها التّاريخيّ الصّحيح، وانجرّوا إلى الحرب القذرة الدّائرة في سوريّا منذ آذار 2011، ظنّا من رعاعهم وليس من قادتهم، أنّهم يخوضون حربا تحرّرية، – وهذا ليس دفاعا عن النّظام السّوريّ- لكنّهم لم يكلّفوا أنفسهم عناء السّؤال عمّن يسلح ويدرّب ويموّل ويقاتل في هذه الحرب؟ فهناك مقاتلون على الأرض السّوريّة من أكثر من تسعين دولة، ومنهم من جاؤوا من أمريكا ومن دول أوروبيّة، ومنهم من جاؤوا من دول وشعوب تعاني الويلات، كبعض الفلسطينيّين من الأراضي الفلسطينيّة المحتلة، فماذا يريد هؤلاء من سوريّا وشعبها؟ وبعض التّنظيمات التي تقاتل في سوريا لها تحالفات مع اسرائيل.
داعش وأخواتها:
من أين جاءت داعش؟ ومن موّلها وسلّحها ودرّب مقاتليها ولا يزال؟ وماذا تريد داعش؟ وهل حلف الأطلسي بقيادة أمريكا عاجز عن القضاء عليها؟ وكيف استولت داعش على ثلث العراق في ليلة واحدة؟ ومن أين لداعش هذه الأسلحة؟
من تابع ويتابع أعمال داعش سيرى أنّها وجدت لتحارب الاسلام والمسلمين وتشيطنهم أمام العالم أجمع، وليس لاقامة دولة اسلاميّة، وخير مثال على ذلك موقفهم في المناطق التي سيطروا عليها من المسيحيين العرب، والأزيديّين، والمسلمين الذين يخالفونهم الرّأي، وإعادتهم لسياسة الرّق واستعباد النّاس واستباحة أعراضهم وأموالهم، وهدمهم لحضارة الشّعوب من آثار تاريخيّة ومقامات دينيّة، وقتلهم للأسرى، وتفنّنهم في عمليات القتل الوحشيّة.
لكنّ الدّور الأهمّ لداعش أنّها تقيم “دولتها” على أراض في سوريّا وتمتدّ إلى العراق، وهذا يعني أنّ العراق وسوريا لن تعودا إلى سابق عهدهما، وهذا سيتبعه إقامة دويلات طائفية على السّاحل السّوري وبعض أجزاء لبنان، وجنوب العراق وشماله ووسطه وغير ذلك في دول أخرى سينتقل الصّراع إليها.
ومن حقّ المرء أن يتساءل: هل دول البترول العربي التي تموّل الارهاب في سوريا، العراق، ليبيا، اليمن، مصر، لبنان وغيرها أكثر ديموقراطية من النّظام السّوري؟
الاسلام السّياسي والارهاب:
في الأيّام القليلة الماضية نشرت وسائل الاعلام تصريحات للشّيخ القرضاوي يبيح فيها العمليات الانتحاريّة والتفجيريّة إذا كانت صادرة بأوامر من الجماعة، وليس بشكل فرديّ، والمقصود بهذه العمليات هي التي حصلت في أواخر شهر رمضان في مدينة جدّة السّعوديّة ومحيط المسجد النّبويّ في المدينة المنوّرة، وضحاياها عرب سعوديّون مسلمون، ولم يصدر نفي من جماعة الاخوان المسلمين لتصريحات القرضاوي، والقرضاوي وعلماء “الفتاوي” الجدد هم من أفتوا بتدمير سوريا والعراق وليبيا ولبنان وقتل وتشريد شعوبها.
و”الدّعاة المأجرون” الذين يفتون بالقتل والتّدمير، اعتمدوا على فتاوي تكفيريّة سابقة، كفتاوي ابن تيميّة وغيره. والغريب أنّهم يزعمون أنّهم يملكون مفاتيح الجنّة والنّار، والأكثر غرابة أنّهم يجدون من يسمعهم ويطيعهم دون تفكير.
حاضنة الارهاب:
ومن يدرس تاريخ الارهاب الحديث، سيجد أنّ الأمّة العربيّة ضحيّة لقوى الاستكبار العالميّة، لكنّها مع ذلك حاضنة للارهاب بناء على توجيهات “السّادة” في الدّول الغربيّة، واذا ما عدنا قليلا إلى الوراء، فإن ظاهرة تنظيم “القاعدة” أوجدتها أمريكا لمحاربة السوفييت أثناء احتلالهم لأفغانستان في سبعينات القرن الماضي، وجرى تسليح وتدريب وتمويل القاعدة بمال البترول العربي وبسخاء، وبعد انسحاب السوفييت من أفغانستان، عاد “المتطوّعون” العرب للقيام بتفجيراتهم في دولهم التي موّلتهم، وفي الدّول التي أوجدتهم، وما تفجير برجي نيويورك في سبتمبر 2001 إلا شاهد على ذلك.
والتّاريخ يعيد نفسه، فمن يفجرّون في باريس وبروكسل والمدينة المنوّرة وجدّة واستانبول، هم من يفجّرون ويقتلون في سوريّا.
العرب هم المستهدفون
يخطئ من يعتقد أنّ الصّراع الدّائر في المنطقة صراع دينيّ، وما يجري هو استغلال لعواطف النّاس الدّينية، فالمستهدف هم العرب ووطنهم الكبير، وما يحويه من خيرات وفي مقدّمتها البترول، ولموقعه الاستراتيجي وسط الكرة الأرضية، وليس الاسلام كدين، ولو كان الاسلام هو المستهدف، فلماذا لا يستهدفون المسلمين في أندونيسيا وغيرها على سبيل المثال، لكنّ الخطر الحقيقيّ على الاسلام هو من أتباعه الذين يشوّهونه كداعش وأخواتها.
الحصاد الحرام
واستمرارا في الكارثة الموجودة، ولتغذية الطّائفيّة ليستمر القتل والتدمير حتى يتحقّق تقسيم دول المنطقة إلى دويلات، تجري تحالفات وتنسيق أمني وعسكري بين بعض الدول العربيّة واسرائيل، لمحاربة “المدّ الشّيعي والخطر الايراني” المزعوم! وكأن الاحتلال الاسرائيلي للأراضي العربيّة ليس خطرا على المنطقة والسّلم العالمي، وكأّنّ اسرائيل أيضا تدافع عن “الاسلام السّنّي” في الوقت الذي تستبيح فيه حرمات المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشّريفين.
8-7-2016