لا أعلم مرتكزات بعض المتزمّتين دينيّا من أبناء جلدتنا وديننا الحنيف، التي ينطلقون منها في تحريم تهنئة أبناء جلدتنا وشركائنا في السّرّاء والضّراء، من أتباع الدّيانة المسيحيّة من أبناء شعبنا وأمّتنا في عيد الميلاد المجيد ورأس السّنة الميلاديّة غير فتاوي ابن تيميّة، ومن اتّبعوه خصوصا أصحاب الفكر الوهّابيّ مثل ابن باز وغيره. فهل هؤلاء يفقهون الدّين الحنيف أكثر من شيخ الأزهر الذي تناقلت وسائل الإعلام تهنئته لبابا الفاتيكان وبابا الكنيسة القبطية؟ ” يهنّئ فضيلة الإمام الأكبر أ.د/ أحمد الطيب، شيخ_الأزهر الشريف، البابا فرنسيس، بابا الفاتيكان، وجموع المسيحيين حول العالم، بمناسبة احتفالات أعياد الميلاد المجيدة، متمنّيا أن تعاد هذه المناسبة على العالم أجمع بالأمن والأمان، داعيا المولى -عز وجل- أن يخلص الإنسانية من وباء الكورونا وأن ينعم على الجميع بالصّحّة والسّلامة والاستقرار.” وهل يفقهون الدّين أكثر من المفكر الإسلاميّ الدّكتور خضر محجز، الذي كتب يوم 19 ديسمبر الحالي على صفحته في “الفيسبوك ردّا على تشنّجات المتزمّتين”:”أنا الشّيخ خضر في كلّ عام أذهب إلى أهلي المسيحيين في الكنيسة لأبارك لنا بعيد ميلاد السّيّد المسيح.”
وهنا يجدر الإنتباه لكلمة”لنا”، وما تحويه من فكر مستنير، فهو يعتبر عيد الميلاد عيدا للشّعب الفلسطيني بمسلميه ومسيحيّية، وأنّ المسيحيّين الفلسطينيّين”أهلي” جزء لا يتجزّأ من شعبنا.
التّراث الدّينيّ
وكلمة الدّكتور محجز تعيدنا إلى التّراث الدّينيّ، وكي لا يغضب المتزمّتون المنغلقون فكريّا من هذا مصطلح “التّراث الدّينيّ” لا بدّ لنا من التّأكيد أنّنا ورثنا الدّيانات السّماويّة وراثة، فمثلا: نزل الوحي على خاتم النّبيّين عليه الصّلاة والسّلام، وجاءنا بالدّين الإسلاميّ، فنحن ورثناه عن الآباء والأجداد، وهكذا. والدّيانة المسيحيّة هبطت في فلسطين، قبل الإسلام الذي اعترف بها وبالدّيانة اليهوديّة، واعترف بنبوّة موسى وعيسى عليهما السّلام، والمسلم الذي ينكر ذلك يعتبر كافرا.
ودور العبادة لهاتين الدّيانتين الموجودة في فلسطين مثلا هي دور عبادة بناها آباؤنا وأجدادنا الفلسطينيون العرب، تماما مثلما بنوا دور العبادة الإسلاميّة كالمسجد الأقصى وغيره. وإذا كان شعبنا في غالبيّته مسلما، فهذا لا ينفي أنّ دور العبادة إرث حضاريّ لشعبنا وأمّتنا، وعلينا الحفاظ عليها بغضّ النّظر عن معتقداتنا الدّينيّة. وعلينا احترام حرّيّة العبادة لغير المسلمين، تماما مثلما احترمها سلفنا الصّالح، ولنتذكّر “العهدة العمريّة ” التي وقّعها الخليفة الثّاني مع صفرونيوس بطريرك القدس. فهل يوجد بيننا من يفقه في الدّين أكثر من فقهاء دولة الخلافة الإسلاميّة؟ وللمتزمّتين المنغلقين فكريّا نذكّرهم بأنّنا كعرب وكمسلمين نفاخر بحفاظنا على حرّيّة العبادة لغير المسلمين، وبأنّنا المؤهّلون للحفاظ على الأماكن المقدّسة لغير المسلمين، لأنّ الإسلام يعترف بالدّيانتين السّماويّتين السّابقتين له، على عكس اليهوديّة التي لا تعترف بالإسلام والمسيحيّة اللتين نزلتا بعدها! وأنّ صراعنا في فلسطين ليس مع اليهوديّة كديانة، وإنّما مع الحركة الصّهيونيّة كونها حركة استعماريّة استيطانيّة تستهدفنا وطنا وشعبا.
ولتذكير المتزمّتين المنغلقين نذكّرهم بمسلمين آخرين أكثر تديّنا ووعيا منّا، فمثلا مسلمو ماليزيا، وهم قدوة في النّهوض العلمي والإقتصاديّ بفضل مهاتير محمّد، فإنّ من يزور بلدهم خصوصا في العاصمة كولالمبور، ويريد الإطّلاع على تراثهم وحضارتهم، فإنّهم يأخذونه لزيارة معبد بوذيّ قديم، مفاخرين بهم كواحد من تراث شعبهم الحضاريّ. ونذكّرهم بالفتوحات الإسلاميّة وكيف حافظ المسلمون الفاتحون على تراث شعوب البلدان المفتوحة كدور العبادة، وغيرها مثل الآثار الفرعونيّة وتدمر وبابل وتماثيل بوذا في جنوب شرق آسيا وغيرها.
ثقافة التّكفير
وبما أنّ الإسلام يعترف بالدّيانتين السّماويّتين السّابقتين له، فأين وكيف يكفر المسلم الذي يستذكر ميلاد السّيّد المسيح، أو يهنّئ المسيحيّين الذين يحتفلون بهذه المناسبة؟
ولِمَ يستنكر البعض صلواتهم؟ أفليس من حقّهم أن يعبدوا الله حسب معتقداتهم مثلما نعبد نحن المسلمين الله حسب معتقداتنا أيضا؟ ولمصلحة من نشر وتسويق ثقافة التّكفير؟ وأيّ الجماعات الدّينيّة تروّج ثقافة التّكفير؟ وهل فكّروا بنتائجها؟
في الأسابيع القليلة الماضية وردتني رسالة من أحد تلاميذي يلومني فيها لأنّني كتبت عن كتابي المفكّر الإسلاميّ عثمان صالحيّة الذي يبلغ من العمر حوالي تسعين عاما أفناها ناشطا في حزب التّحرير الإسلاميّ، وأشدت بالفكر المستنير لهذا المفكّر في كتابيه”الدّراية-الفريضة المصيريّة الغائبة في التّراث”و”السّلفيّة في ميزان الدّراية”، وتلميذي الذي لم ينه الثّانويّة العامّة يتّهم صاحب الكتابين بالرّدة والكفر وتشويه الإسلام!
وسياسة التّكفير هذه هي التي أنجبت لنا جماعات القاعدة وداعش وجبهة النّصرة وغيرها، والتي أوجدتها أمريكا واسرائيل وحلف النّاتو، ودمّرت سوريا والعراق وليبيا وغيرها متلفّعة بعباءة الدّين والدّين منها براء، وقتلت وشرّدت الملايين من المسلمين وغيرهم، وهدمت ونهبت تراث أمّة دون أن يرفّ لقادتها جفن. حتّى أنّها أعادتنا إلى عصور الرّقيق عند استعبادها للأزيديين وغيرهم واستباحت أعراضهم! فعلى أيّ معتقدات دينيّة يرتكز هؤلاء التّكفيريّون.
وعودة إلى المفكّر خضر محجز” “:”أنا الشّيخ خضر في كلّ عام أذهب إلى أهلي المسيحيين في الكنيسة لأبارك لنا بعيد ميلاد السّيّد المسيح.”
فهو يعتبر الاحتفال بعيد ميلاد السّيّد المسيح للمسلمين وللمسيحيّين”، وهذا هو الفكر المستنير الواعي الذي يقتدى به.
من هنا فإنّني أهنّئ المسيحيّين والمسلمين بعيد الميلاد المجيد وكلّ عام وأنتم بخير.
25-12-2020