“ثقافة” الكذب هي هروب من مواجهة الحقيقة، “فالحقيقة مُرَّة” كما يقول المثل، مع أنّ النّجاح حقيقة معاكسة…لكن لا أحد يصفه بالحلو مثلا. والكذب ليس حكرا على الأفراد، بل يتعدّى ذلك إلى الجماعات والأحزاب والتنظيمات والحكومات، فالكلّ يكذب على الكلّ، وعواقب ذلك وخيمة، لكنّ أحدا لم يحاول الاعتبار منها، فمثلا في موروثنا الدّيني هناك من كذبوا على الرّسول – صلّى الله عليه وسلّم- ونسبوا إليه أحاديث لم تثبت صحّتها، ظنّا منهم أنّهم ينصرون الدّين، وكأنّ القرآن الكريم والسّنّة النبويّة الشّريفة الصّحيحة لا تفي بالمطلوب! وهناك جماعات دينيّة كذّبت هي الأخرى في محاولة منها لتسويق أفكارها. ونتاج أكاذيبها كان ولا يزال وسيبقى وبالا على الأمّة، ظنّا من اللاحقين أنّ هذا هو الدّين الصّحيح.
وفي تاريخنا المعاصر تكذب الحكومات والسّياسيّون والأحزاب والتنظيمات على الشّعوب في محاولة منها لتبرير إخفاقاتها وهزائمها، وتقلب الهزائم إلى انتصارات، ولو وقفوا على أسباب الاخفاقات والهزائم وعملوا على اصلاح الأوضاع لنجحوا وانتصروا، ففي هزيمة حرب حزيران 1967 اعتبرت الأحزاب العربيّة”الطّلائعية والثّوريّة” كما تصف نفسها أنّ العرب انتصروا في تلك الحرب! مع أنّ ما تبقى من فلسطين”الضّفة الغربيّة بجوهرتها القدس وقطاع غزة، والجولان السوريّة وسيناء المصريّة وقعت تحت الاحتلال الاسرائيلي، ودلائل النّصر أنّ اسرائيل لم تستطع اسقاط النّظامين التّقدّميّين في مصر وسوريا! وانتهى النّظامان التقدّميّان في مصر بوفاة الزعيم جمال عبد النّاصر وبالانقلاب العسكريّ على الرئيس السّوري نور الدّين الأتاسي، وبقيت الأراضي العربيّة ولا تزال تحت الاحتلال، وسقط مئات آلاف الضّحايا ولا يزالون يسقطون جراء تلك الهزيمة.
أمّا الأحزاب والتّنظيمات “الطلائعيّة والثّوريّة” فإنّها تعتبر نفسها المالك الوحيد للحقيقة، تماما مثلما هي أحزاب وتنظيمات الاسلام السّياسيّ التي تزاود هي الأخرى بأنّها تنهج النّهج الرّبّانيّ والنّبويّ! ولم تراجع أيّا من هذه الأحزاب والتّنظيمات تاريخها، ولم تستفد من تجاربها ولا من تجارب غيرها، ولم تنتبه إلى حالة التّرهلّ التي وصلتها…ولم تعمل على نقد الذّات ومحاولة النّهوض والتّجديد، فضلّت وأضلّت وتواصل طريق الضّلال، وهذه خصوصيّة يعربيّة خاصّة بامتياز، تحكمها وتسيّرها عقلية “العشيرة السّياسيّة والدّينيّة” والتي أنجبت لنا ثقافة “التّكفير والتّخوين” ولو اعتمدت الصّدق في التّعامل مع جماهيرها وشعوبها لاختلفت الأمور كليّا…لكن الأمنيات شيء والواقع شيء آخر.
وسياسة الكذب المتواصلة وعدم النّهوض العلمي والجهل قادت إلى فتح المجال أمام القوى الطّامعة في المنطقة، لتحقيق أهدافها ومصالحها من خلال الاقتتال الدّاخلي وذبح الشّعوب وتدمير الأوطان والعمل على تقسيمها، فهناك أنظمة تعتبر نفسها ملهمة تكذب على شعوبها وتموّل وتدرّب وتسلّح جماعات ارهابيّة وترسلها لقتال إخوة الدّم والدّين في دول مجاورة، لتحقيق أجندات أجنبية، ولا تدرك أنّ ذلك سيرتد عليها وعلى شعوبها في مرحلة لاحقة، وما يجري في بعض البلدان العربيّة في هذه المرحلة من قتل وتدمير وتخريب ببعيد عن ذلك.
والكذب في مختلف الاتجاهات والمستويات، ما كان ليستمرّ لولا الجهل السّائد، وعدم مواكبة التّطوّر الانساني، وهذا يقود أيضا إلى ثقافة الجهل الّتي تسود هي الأخرى، فعلى سبيل المثال لا الحصر نشاهد الجماهير العربيّة تشيّع شهداءها وهي تهتف:” بالرّوح بالدّم نفديك يا شهيد” دون أن تعي ما تهتف به! فكيف سنفدي شهيدا بالدّم والرّوح؟ وهل اذا انتحرنا ومتنا سنعيده حيّا؟ وعندما ننعاه في الصحف” بفخر واعتزاز” هل ندرك أنّ في ذلك تبرئة للقاتل المجرم من دم الضّحيّة؟ وهل سنشكره لأنّه جعلنا نفتخر ونعتزّ؟ والأدهى من ذلك ثقافة تقبّل التّهاني بسقوط الضّحايا! فهل من يتقبّلون التّهاني يملكون مفاتيح الجنّة والشّفاعة؟ وهل ندرك أنّنا نسلب والدي الشّهيد الثّاكلين إنسانيّتهم عندما نطالبهم بالفرح على فقدان ابنهم بدل البكاء؟ وهل يعلمون أنّ الرّسول الكريم بكى عمّه حمزة سيّد الشهداء، وبكى ابنه ابراهيم” وإنّا لموتك يا ابراهيم لمحزونون”؟ والحديث يطول. فتفكّروا وفكّروا.
14-4-2015