مقتل جورج فلويد الأمريكي الأسود خنقا تحت ركبة شرطيّ أبيض، وما أعقب ذلك من أعمال احتجاج في مختلف الولايات المتّحدة الأمريكيّة، ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، فرغم أنّ القانون الأمريكي يعتبر الأمريكيّين بغضّ النّظر عن الجنس أو اللون أو الدّين سواسية أمام القانون، إلا أنّ ثقافة الجنس الأبيض في أمريكا ثقافة استعلائيّة في نظرتها للأعراق الأخرى، وهذا ليس أمرا جديدا، فالجنس الآري هم من غزوا العالم واستعمروا الشّعوب والأعراق الأخرى، ونهبوا ثرواتهم تحت شعار نشر الحضارة والتّعليم والرّقيّ! وهنا يجدر التّنويه أنّ المهاجرين الأوروبّيّين إلى أمريكا بشمالها وجنوبها، قد شنّوا حرب إبادة على مواطني تلك البلاد الأصليّين”الهنود الحمر”، وهم من غزوا الغرب الإفريقي واقتادوا تحت قوّة السّلاح ملايين السّود ليكونوا رقيق أرض للعمل لصالح السّيّد الأبيض.
فهل تخلّى البيض عن عنصريّتهم تجاه السّود والملوّنين؟ وهل مقتل جورج فلويد أمر عارض وعفويّ، أم هو ثقافة سائدة؟
من يزور أمريكا سيشاهد بعينيه أنّ الغالبيّة العظمى من السّود يسكنون حارات الفقر في المدن والبلدات الأمريكيّة، وتنتشر المخدّرات والجريمة بينهم بشكل واسع، وهم يعيشون على هامش الحياة الأمريكيّة. ويتعرّضون للتّفتيش والإهانة والتّضييق إذا ما دخلوا حارات البيض. ذات يوم كنت وأخي نتجوّل في مركز مدينة شيكاغو، وعلى شاطئ بحيرة متشيغان كان هناك مسبحان، واحد للبيض وواحد للسّود، دون الإعلان عن ذلك رسميّا، وفي حديقة “الثّقافة” وهي حديقة واسعة وجميلة، كان عرض غنائيّ مجّانيّ، يرتاده عشرات الألوف، والشّرطة توقف السّود والملوّنين رغم قلّة عددهم، وتسألهم عن سبب وجودهم في المكان وتفتّشهم وتتحقّق من هويّاتهم.
ولن يحتاج الزّائر إلى كثير من الجهد كي يرى بيتا محروقا في شارع ما، وإذا ما سأل عن أسباب الحريق، فإنّ الجواب بأنّ هذا الشّارع يسكنه البيض، وقد اشترى البيت المحروق شخص أسود اللون، وإذا لم يُحرق البيت فإنّ ساكني ذلك الشّارع يسارعون إلى بيع بيوتهم بسعر أقلّ من قيمته للسّود ويرحلون من الشّارع. وإذا ما أرادت الجهات المسؤولة طرد السّود من حارة معيّنة، فإنّها تفرض ضرائب باهظة تفوق قدرات ساكني الحيّ السّود الإقتصاديّة ممّا يجبرهم على الرّحيل.
ذات يوم التقيت محاميا أبيض البشرة فتحدّث عن السّود قائلا: السّود يشبهون حشرة البقّ، فإذا علقت هذه الحشرة بجسدك، لا تقتلها كي لا تتّسخ بدمها، بل ادفعها بطرف إصبعك إلى الأرض ودس عليها بحذائك.
في العام 1990 اشترى أحد إخوتي بيتا في إحدى حارات البيض، وفي اليوم التّالي للسّكن في البيت استيقظنا لنجد على جدران البيت كتابة بالدّهان الأسود
” Camel jaki”. أيّ خيّال الجمل.
ويأتي مقتل جورج فلويد هذه المرّة في عهد الرّئيس ترامب، الذي يتعامل مع العالم جميعه كصفقة تجاريّة، وبشكل فوقيّ عنصريّ يفتقر إلى الكياسة واللغة الدّبلوماسيّة، فرض عقوبات حتّى على دول عظمى مثل روسيا والصّين، وحاصر دولا مثل إيران وفنزويلا بعد أن ألغى الإتفاق النّوويّ مع إيران، ونهب أموال وثروات دول ومنها دول عربيّة، وأشعل حروبا بالوكالة، وبكلّ صفاقة شطب فلسطين وشعبها من الوجود بما سمّاه “صفقة القرن”، وانسحب من منظّمات دوليّة كمنظّمة حقوق الإنسان ومنظّمة الصّحّة العالميّة وغيرها.
وإمعانا منه في عنصريّته وفوقيّته فقد امتدّ به الغرور لمعاداة شعبه، ورغم انشغاله بحملة الدّعاية للإنتخابات الرّئاسيّة التي ستجري في نوفمبر القادم، إلا أنّه لم يتورّع بتهديد شعبه الذي هو بحاجة لكلّ صوت فيه في الأنتخابات القادمة، فأمر بإدخال الجيش لقمع المظاهرات السّلميّة الإحتجاجيّة على مقتل جورج فلويد. وهدّد بقمع المتظاهرين بالرّصاص، كما هدّد باعتبار بعض المنظّمات المعارضة بأنّها منظّمات إرهابية كي يقمعها بالقوّة، فهو لا يؤمن إلا بحلّ القوّة “وما لا يمكن حلّه بالقوّة يمكن حلّه بقوّة أكبر”، وهذا ما تعلّمه من تابعه نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيليّة، ويجدر التّذكير بأنّ ترامب بدأ عنصريّته منذ اليوم الأوّل لدخوله إلى البيت الأبيض، ففي حفل تنصيبه استثنى وجود رجل دين مسلم كما جرت العادة بوجود رجل دين من الدّيانات السّماويّة الثلاثة في حفل تنصيب الرّئيس.
فهل جاء مقتل جورج فلويد ليكشف ترامب والمحافظين الجدد على حقيقتهم، ليطيح به شعبه في الإنتخابات القادمة، خصوصا وأنّ غالبيّة ناخبيه الذين أوصلوه إلى الرّئاسة كانوا من الفقراء السّود والملوّنين، أم أنّه سيستبق ذلك بشنّ حروب خارجيّة ستهدّد السّلم العالميّ؛ ليفوز في الإنتخابات؟
3 حزيران 2020