تشهد الساحات والميادين في بعض الأقطار العربيّة انتفاضات شعبيّة واسعة كما يحصل الآن في لبنان والعراق، والجزائر ومسيرات العودة التي تجري في قطاع غزّة منذ أكثر من تسعة أشهر، فهل هذه الانتفاضات امتداد لما جرى في تونس ومصر وليبيا منذ العام 2010 وأدّت إلى تغيير أنظمة الحكم في هذه البلدان، أو كما جرى في السّودان هذا العام 2019 وأدّى إلى تغيير نظام البشير! أو كما جرى في سوريّا من حرب أهليّة في سوريا منذ العام 2012 والتي أدّت إلى تدخلات أجنبيّة لتدمير سوريا وقتل وتشريد شعبها؟ وهل الحرب الظالمة على المستضعفين في اليمن تعكس طموحات الشّعب اليمني أم هي حرب بالوكالة لخدمة أعداء الأمّة؟ وهل نحن في ربيع عربيّ كما يحلو للبعض تسميتها؟ وهل كل ما يجري في المنطقة من صراعات بعيد عن التّدخلات الأمريكيّة والإسرائيليّة؟ فهذه الأسئلة وغيرها كثير تحتاج إلى دراسات معمّقة للوقوف على أسبابها وما يمكن أن تتمخّض عنه.
وبشكل سريع علينا الاعتراف قبل كلّ شيء بأنّ الشّعوب العربيّة متقدّمة في طموحاتها على حكّامها وعلى طلائعها السّياسيّة من تنظيمات وأحزاب قوميّة ووطنيّة وإسلاميّة، ومع ذلك يجب أن لا يغيبنّ عن عقل أحد أنّ الجماهير الغاضبة في غالبيّتها قد جرى استغلالها مرّتين، واحدة من قبل أنظمة الاستبداد الحاكمة، ومرّة من القوى والتّنظيمات التي تخدم قياداتها أجندات لدول معادية، والتي استطاعت أن تجرّ الآلاف للمشاركة في تدمير بلدانهم وقتل وتشريد شعوبهم، كما جرى ويجري بشكل وآخر في سوريّا والعراق وليبيا، حيث استغلت بعض قوى الإسلام السّياسي العاطفة الدّينيّة لعامة النّاس، وجنّدتهم ليكونوا وقودا لحروب داميّة لقيت الدّعم بأشكاله كافّة من قوى امبرياليّة ومن خلال وكلائها الحاكمين في بعض الأقطار العربيّة، بعد أن نشرت ثقافة الطّائفيّة البغيضة التي شوّهت الإسلام والمسلمين أمام العلم جميعه، وخير دليل على ذلك نشوء تنظيمات إرهابيّة مثل القادة وداعش وجبهة النّصرة وغيرها. ولا يمكن التّغاضي بشكل وآخر عن دور الأنظمة المستبدّة التي نهبت خيرات شعوبها، وارتضت أن تكون خادمة للدّول الامبرياليّة التي توفّر لها الحماية.
وهنا لا بدّ من التّوقّف عند ترهّل القوى والتنظيمات والأحزاب القوميّة والوطنيّة، وكيف تراجعت إلى الخلف خصوصا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ومجموعة الدّول الاشتراكيّة في بداية تسعينات القرن العشرين، وليس خافيا على أحد أنّ غالبيّة إن لم نقل جميع هذه القوى قد تحوّلت بشكل وآخر إلى منظّمات غير حكوميّة، تلقى التّمويل غير البريء من جهات أوروبيّة وأمريكيّة.
ولنأخذ انتفاضة الشّعب اللبناني كنموذج، فقد انتفض هذا الشّعب على قوى الفساد التي نهبت وسرقت ثروات البلد، ودمّرته اقتصاديا وإداريّا، وتحظى بتغطية طائفيّة، هذه الطائفيّة التي تتقاسم نظام الحكم، وكل طائفة تسعى لتجيير الدّولة لصالحها، والضّحيّة الأولى لهذه الطّائفيّة هو لبنان الوطن والشّعب، وهذه الطّائفيّة هي المسؤولة والحاضنة لأحزاب طائفيّة جرى من خلالها تضليل العامّة من أبناء وأتباع الطّوائف. ومن المحزن أنّ تنجرّ هذه الأحزاب إلى الولاء لجهات أجنبيّة لا مصلحة للبنان وشعبه بها، وما تحالف القوّات اللبنانيّة وحزب الكتائب والوطنيّين الأحرار وحرّاس الأرز وغيرها مع أسرائيل وغيرها من القوى الإمبرياليّة بخاف على أحد، وكذلك موالاة تيّار المستقبل والحزب الاشتراكي التّقدّمي لدول الخليج، وموالاة حزب الله وتيّار المردة وتيار الموحّدين لإيران، وبغضّ النّظر عن الأحزاب والتّيارات السّياسيّة وموالتها لجهات غير لبنانيّة، ومدى خدمة ذلك للبنان الوطن والشّعب، إلا أنّ الشّعب اللبناني أثبت مجدّدا أنّه متقدّم على أحزابه وقواه السّياسيّة، فخرج بعشرات الآلاف بتظاهرات سلميّة رافعا العلم اللبنانيّ وداعيا لمحاربة الفساد والطائفيّة واسترداد أموال الشّعب المنهوبة، ويسجّل هنا لصالح قوى الأمن والجيش اللبناني أنّها وفّرت الحماية للمتظاهرين ولم تقم بقتلهم وقمعهم دفاعا عن النّظام اللبناني. وهذا ليس غريبا على لبنان الذي
يعيش حياة ديموقراطيّة يحفظ فيها الدّستور حقّ التّظاهر وحرّيّة الرّأي، مع التّحفّظ على الدّور السّلبيّ للمحاصصة الطّائفيّة.
ويلاحظ في الانتفاضة اللبنانيّة ضعف التّيارات اليساريّة وعدم قدرتها على قيادة الحراك الشّعبيّ، وهذا يفتح الباب واسعا أمام قوى اليمين لاستغلال الوضع وتجييره لصالحها، مع التّأكيد على أولويّات الإصلاح الاقتصادي وحقّ الشّعب اللبناني في حياة كريمة، بعيدا عن الفقر الذي يعمّ البلد المنهوبة خيراته، وأيّ تنظير للعمل الثّوريّ والمقاوم لن يحظى بدعم شعبيّ ما لم تتوفّر سبل الحياة الكريمة للشّعب.
15-11-2019