يعرف العالم جميعه أنّ الولايات المتّحدة الأمريكيّة هي الدّولة الأغنى والأقوى في العالم، علما أنّ القارّة الأمريكيّة تعتبر “العالم الجديد” حيث اكتشفها عام 1492 الاسباني كريستوفر كولمبوس، واعتقد في حينه أنّه وصل “جزر الهند الغربيّة”.
وتوالت هجرات الأوروبّيّين إلى العالم الجديد، وخاضوا حروبا ضدّ سكّان البلاد الأصليّين المعروفون “بالهنود الحمر”، وقضوا على عشرات الملايين منهم.
وفي 4 تموز 1776 أعلن استقلال الولايات المتّحدة الأمريكيّة عن بريطانيا…وتوالت الهجرات إلى هذا البلد من مختلف دول العالم.
ونحن نسوق هذه العجالة للفت الانتباه بأنّ هذه الامبراطوريّة التي تتحكّم بالعالم حديثة العهد، وأنّ شعبها خليط من أجناس بشريّة متعدّدة المنابت والألوان والمعتقدات، ومع ذلك استطاعوا التآلف ليبنوا البلد الأغنى والأقوى في العالم.
صحيح أنّ الولايات المتّحدة بلاد شاسعة وغنيّة تبلغ مساحتها 9629091 كم مربع، وهي أراض خصبة كانت تطغى عليها الغابات. لكنّ الذي بناها هو الانسان الذي طوّر الزّراعة، واستغل الثّروات الطّبيعيّة، وقام بتصنيع البلاد، وبحث عن أسواق جديدة.
فكيف استطاعت هذه الأجناس البشريّة المتعدّدة الأصول والمشارب بناء هذه الامبراطوريّة؟
فلا يكاد يوجد جنس بشريّ إلا ومنه من هاجروا إلى هذا البلد، واستقرّوا فيه وأصبحوا من رعاياه، وفيه مختلف الدّيانات السّماويّة والوضعيّة والوثنيّة، وفيه الملاحدة الذين لا يؤمنون بأيّة آلهة، وفيه كلّ لغات الأرض.
والواقع أنّ الدّستور الأمريكي ضمن الحرّيّات الشّخصيّة والدّينيّة، وما يندرج تحتها من مسمّيات، وفصل السّلطات الثّلاث”التشريعيّة، التّنفيذيّة والقضائية” وبنى الدّولة المدنيّة التي يسودها القانون، ويتساوى أمامه جميع المواطنين، فاللغة الانجليزيّة هي اللغة الرّسميّة، لكن من حقّ أيّ مواطن أن يتكلّم اللغة التي يريد، سواء كانت لغته الأمّ أو لغة تعلّمها، بل هناك في المؤسّسات الاقتصاديّة علاوة لمن يجيد لغات أخرى، وضمن حرّيّة المعتقد لكلّ أتباع الدّيانات أن يبنوا دور عبادتهم، وأن يؤدّوا شعائرهم الدّينيّة كيفما يشاؤون، وأن يفتحوا المدارس الخاصّة بهم، ومنها مدارس دينيّة، وجاءت هذه التّعدّدية العرقيّة والدّينيّة والعقائديّة واللغويّة لتشكل فسيفساء شعب يحترم بعضه بعضا، ويعرف كيف يبني دولة عظمى ويحافظ عليها.
فاستغلّوا الأراضي الزّراعيّة بشكل جيّد، وطوّروا التّعليم في مختلف مراحله، وصنّعوا البلاد، لأنّهم عرفوا جيّدا كيف يبنون الانسان.
وهذا مع الأسف ما لا يعرفه من يزعمون أنّهم ورثة أمجاد يتغنّون بها، ومنها نحن العربان، فلم نعرف ولا نزال لا نعرف كحكومات وكشعوب كيف نحترم ونعترف ونقرّ بحقوق الأقلّيّات الدّينيّة والعرقيّة في بلداننا، ولم نرسّخ حتّى أيّامنا هذه مفهوم” الدّين لله والوطن للجميع” لذلك فإنّنا نعيش اقتتالا طائفيّا وعرقيّا نقتل فيه بعضنا بعضا، وندمّر أوطاننا وخيراتنا، وأضعنا أوطانا وأصبحنا اضحوكة بين الأمم دون أن ننتبه إلى ما نحن فيه. فهل كنّا سنصل إلى هذا الدّمار وهذا الخراب لو كانت عندنا دول أو دولة مدنيّة يسود فيها القانون وتحفظ حقوق مواطنيها؟ ولماذا لا نتّحد ونحن نتغنّى بالوطن الواحد، والدّين الواحد، والعرق الواحد، والتّاريخ المشترك؟ وهل استطعنا عبر هذا التّاريخ بناء دولة حقيقيّة، أم أنّنا بنينا تحالفات عشائريّة تتربّص ببعضها؟
8 تمّوز 2015