ضمن سلسلة “أغصان الزّيتون” في مكتبة كل شيء في حيفا، صدرت رواية البلاد العجيبة الموجّهة لليافعين للأديب المقدسيّ جميل السلحوت، وتقع الرّواية التي صمّم غلافها ومنتجها شربل الياس في 64 صفحة..
الرّواية ممتعة .. مشوّقة .. هادفة .. جاءت بلغة سهلة بليغة … تحوي مفردات وعبارات جميلة .. طغى عليها طابع الخيال العلميّ الواسع الذي يحمل في أفقه رسائل متعدّدة: تربويّة، علميّة، تعليميّة، اقتصاديّة، سياسيّة، تاريخيّة، فنّيّة، بيئيّة، أخلاقيّة، معرفيّة … مرّت جميعها بسلاسة من خلال أسلوب السّرد الانسيابيّ والحوار .
في بداية الرّواية في الصّفحات 5،6 أعطى الكاتب وصفا جميلا مشوّقا للقدس القديمة ممثّلة بمساجدها، كنائسها، أسوارها، أسواقها، زخرفتها… و ذلك من خلال تجوال(محمود وصديقه طارق ) بين زقاقها، وحواريها .
تركّز الخيال في الرّواية على المقارنة غير المباشرة بين الحياة الواقعيّة البائسة لسكّان كوكب الأرض، والحياة المثاليّة لسكّان كوكب البلاد العجيبة .. حيث في الأولى ساد طابع البؤس والشّقاء، الكراهية والكذب، الجهل و التّهميش خصوصا للنّساء والأطفال، الطّغيان والظّلم، الحروب، سلب الحقوق … الخ . وكلّها أسباب لا تزال تؤدّي إلى الصّراعات والحروب المدمّرة الدّائمة … وذلك على عكس الكوكب الآخر”البلاد العجيبة” المثاليّ حيث تسوده المحبّة والقيم من أخلاق وصدق وانتماء وغيرها .. واهتمامات علميّة، ثقافيّة، ودراسات وأبحاث .. كلّها تؤدّي إلى التّغيير والتّطور الذي يقود الفرد والشّعب إلى الارتقاء بالمستوى الفكريّ العقلانيّ. وهذا الكوكب كما جاء في الرّواية تحكمه النّساء، وأعتقد هنا أنّ الكاتب أراد أن يظهر قوّة وكفاءة النّساء وقدرتهنّ التي لا يستهان بها على القيادة وادارة شؤون البلاد بعقول متفتّحة وذكء، ومحبّة وعدل وتضحية في سبيل اسعاد الآخرين، على عكس التّربيّة الذّكوريّة السّائدة بين سكّان الأرض، والتي تميّز بين الرّجل والمرأة في التّربية والحقوق والمعاملة..الخ. و خصوصا في دول العالم الثّالث .. والتّاريخ غنيّ بالأمثلة التي تبيّن قدرة المرأة على القيادة على سبيل المثال في بلادنا العربيّة…زنّوبيا ملكة تدمر، بلقيس ملكة اليمن، ملكات الفراعنة كليوبترا وغيرها .
في صفحة 9 ركّز الرّواية على مقدّساتنا الدّينيّة والتّاريخيّة في القدس من خلال ذلك الشّيخ الطّيّب ذي الثّياب البيضاء، الذي جاء محمود وطار به في مركبة زجاجيّة من ساحة المسجد الأقصى بين قبّة الصّخرة والكأس إلى البلاد العجيبة .. حيث قال الشّيخ لمحمود: ” هنا منبع الخيرات يا ولدي، فهذه بداية الدّنيا وأقرب بقاع الأرض إلى السّماء، فمن سيطر عليها فاز فوزا عظيما، لأنّها مباركة .
جاء في الرّواية وصف جميل للحياة العصريّة في كوكب البلاد العجيبة حيث الأبنية الأنيقة، الأطفال من كلا الجنسين يلعبون، يمرحون، ويرتدون ملابس نظيفة جمية وأنيقة .. نساء جميلات، حدائق غنّاء، شوارع عريضة نظيفة، خير، سعادة، سلام، محبّة ورخاء .. وتظهر هنا معالم الحضارة جرّاء التّقدّم العلميّ… حيث بدت الفوارق بين الجهل، الفقر والتّخلف على الكرة الأرضيّة، وبين التفوّق العلميّ الذي هو سبب الخيرات من جهة أخرى في البلاد العجيبة، وجاء في الرّواية وصف جميل لبعض المشاهد في البلاد العجيبة، مثل وصف الحمّام العصريّ الذي يخرج منه حوض الأستحمام والمغسلة بكبسة زرّ كهربائيّة .. والذي شاهده عبد المعطي صفحة 44 و كذلك ابنته زينب صفحة 96 ، حيث تذكّرت استحمامها في “لجن” من الحديد الصّدىء الذي يصدر صريرا مزعجا ……. الخ.
وممّا يلفت الانتباه في الرّواية هو عدم تقبّل عبد المعطي للتّغيير من خلال التّطوّر الذي رآه في البلاد العجيبة، ورغبته في الرجوع إلى بساطة العيش ببيته الفقير في الكرة الأرضيّة، وذلك كما جاء في الرّواية من خلال قصيدة ميسون بنت بحدل:
لبيت تخفق الأرياح فيه *** أحبّ إليّ من قصر منيف … الخ .
وجاء غي الرّواية صورة نموذجيّة مشرقة للمساواة والتّعاون والمحبّة واظهار دور العاطفة بين الأزواج في صفحة 82 .
سلّط الكاتب الضّوء على ضرورة الاهتمام بالبيئة والمحافظة عليها من التلوّث في صفحة 85 .
ويظهر في الرّواية الاهتمام الكبير بالجانب الثقافيّ العلميّ والتّاريخي من خلال زيارة محمود وشقيقته زينب ووالدهم بمرافقة زوجته سعاد الثّانية للعديد من الأماكن العلميّة والثّقافيّة والعمرانيّة مثل: المكتبات، المتاحف، المحميّات الطّبيعيّة في صفحة 96 و 97، وقصر الثقافة وما يحويه من مسارح وقاعات للمحاضرات، والموسيقى والعزف والرّقص صفحة 88.
الرّواية غنيّة بالمعارف العلميّة والثّقافيّة مثل: الحديث عن حضارات بلاد العرب القديمة، كحضارة الفراعنة، وحضارة ما بين النهرين، تاريخ القدس …في صفحة 97 و 98 .
في صفحة 74 ورد من خلال الحوار حديث عن حقوق المرأة، حرّيّة الرأي، حرّيّة العبادة، واحترام حرّيّة المعتقد للآخر، وعن التّعدّديّة في الأديان، العرق، اللون، و تقبّل الآخر، وبالتّالي ضرورة التمسّك بالوحدة رغم الاختلاف، لما لذلك من انعكاسات ايجابيّة تعود بالنّفع على الجميع، وتحقّق الرّخاء والسّعادة والسّلام.
اظهار روح الانتماء وضرورة التمسّك بالأرض التّاريخيّة المقدّسة، وذلك من خلال اصرار عبد المعطي بعد حصوله على كنوز ثمينة من البلاد العجيبة على شراء أرض مطّلة على القدس القديمة، وتفكير أخيه عثمان بافتتاح شركة عقارات لشراء أراضي في القدس، ومحيطها للبناء عليه لتعزيز الوجود العربيّ في العاصمة الفلسطينيّة “فمن يعيش بالقدس القديمة أو يطلّ عليها سيعيش في سعادة غامرة دائمة، فالمدينة مهدّدة بناسها، مقدساتها وتاريخها وثقافتها وطابعها العمرانيّ” كما جاء في صفحة 109 .
في نهاية الرّواية عاد التّركيز مرّة أخرى على ضرورة الاهتمام والتّمسك بالعلم الذي هو الحلّ الأمثل للعديد من المشاكل على جميع الأصعدة السياسيّة، الأقصاديّة، الأجتماعيّة … وغيرها، حيث بالعلم يتمكّن المرء من تحقيق كلّ ما يصبو إليه من طموحات وأهداف منشودة تعود عليه وعلى المجتمعات بالخير والرّخاء والمحبّة والسّلام وهكذا تتطوّر الشّعوب والدّول.
18-11-2015