عن مكتبة كل شيء في حيفا صدر كتاب:” رسائل- من القدس وإليها” وهي رسائل أدبيّة اجتماعيّة ثقافيّة، تبادلها الأديب المقدسيّ جميل السلحوت مع الكاتبة صباح بشير.
ويقع الكتاب الذي يحمل غلافه الأوّل لوحة للفنّان التّشكيليّ الكبير محمد نصر الله في 182 صفحة من الحجم الكبير، وصمّمّ وأخرج ومنتج الكتاب الأستاذ شربل الياس.
ضمّ الكتاب أربعين رسالة تبادلها الكاتب والكاتبة في مدة زمنية طالت العشر سنوات، تخللتها فترات انقطاع بلغة أدبية مشوّقة تكاد تخلو من التكلّف.
ولأن الكاتبين من القدس فقد جاء العنوان دالّا على مكان إقامتهما، فالقدس هي المدينة التي ولدا ونشآ فيها، وهي في نظرهما أجمل المدائن وأقدسها.
تناولت الرسائل فيما بينهما بداية الحديث في الأدب وندوة اليوم السابع، وما ترتئيه من أهداف كنشر الثقافة والوعي، وقد أخبرها السلحوت بأنه المؤسس لهذه الندوة، التي تضم ولا زالت عددا كبيرا من الكتاب والأدباء، ثمّ تناولا فيما بعد مجموعة من الهموم الشخصية والقضايا الإجتماعية والوطنية والسياسية والتربوية، بأسلوب مشوّق ولغة أدبية رفيعة.
وفي رسالته الأولى للكاتبة صباح بشير عرّفنا الكاتب بأن الصدفة هي التي قادته للتعرف إليها من خلال ندوة اليوم السابع، التي تأسست في الفاتح من شهر آذار عام 1991، حين جاءت الكاتبة لحضور الندوة، يومها عرفت عن نفسها باقتضاب، ممّا أثارت من في الندوة، كونها المرة الأولى التي تشارك فيها ..ويخبرها فيها عن كيفية حصوله على بريدها الإلكتروني إن ما تساءلت (فقد أخذته من مجلة المنارة التي تعملين بها) .
ولأنه رأى فيها مشروع كاتبة فقد شجعها على كتابة الرواية، خاصة وأنّ مقالاتها التي اطلع عليها في المجلة تحمل نفسا روائيا.
في ردها الأوّل عرّفت صباح بشير على نفسها بأنّها مقدسيّة الجذور، وتعمل مديرة تنفيذيّة لمؤسسة المنارة التي تسلط الضوء إعلاميا على قضايا المرأة الفلسطينية، وقد مثلت الكاتبة هذه المؤسسة محليا ودوليا، وتنشط في الدفاع عن حقوق المرأة الإنسانية والاجتماعية.
وكان لوالدها ولمكتبته المتنوعة- والتي تضمنت الكتب الثقافية والأدبية والفلسفية وغيرها- عظيم الأثر في بناء شخصيّتها، وتعميق ثقافتها، ممّا جعل معلمتها تصفها ( بالطفلة المثقفة) وتصف الكاتبة إحساسها حينذاك (فأطير عاليا بأجنحة من فرحٍ وحبور) ص20.
وتُرجع الكاتبة الفضل لما هي عليه اليوم لوالدها بأسلوبه المتميّز في التربية، ولمطالعاتها التي أسهمت في بناء شخصيّتها، ولسفرها وعراكها مع الحياة وصولا إلى أهدافها.
لقد عشق كلاهما المطالعة منذ الصغر، وكانت هي القاسم المشترك بينهما في بداية الصداقة، أخبرها في إحدى رسائله التي سرد فيها جزءا من سيرته الذاتيّة، بأنّه على العكس منها لم يحظَ بمكتبة في بيته، ولم يلقَ اهتماما من ذويه أو مَنْ يشاركه اهتمامه.
وفي معرض حديثهما عن المطالعة والفوائد التي يجنيها القاريء من المطالعة، تطرّق الكاتب ثانية لندوة اليوم السابع وأهدافها ..كما ذكّرها بأنّ القدس اختيرت كعاصمة للثقافة العربية، كما اختيرت من قبل وزراء الثّقافة في الدول الإسلاميّة عاصمة دائمة للثّقافة الإسلامية، وانتقد الدّول العربيّة التي لم تقدّم أيّ دعم لصمودها.
وفي ردُ السلحوت على كتابها الذي تتطلّع فيه لحديثه عن رحلته إلى أمريكا كتب لها (أمريكا إمبراطوريّة خرافيّة بكلّ المقاييس، وقد استفادت كثيرا من فسيفساء الثّقافات المتعدّدة التي يتكون منها شعبها) ص38.
ساقنا الكاتب إلى حيث سافر، وأطلع الكاتبة على مشاهداته هناك، وعلى جانب من تلك الثّقافة السائدة فيها. وما ذكره الكاتب عن الطلاب العرب الذين يتقنون اللغة في وقت قصير، ويتخرّجون بتفوّق مشرّف..
كما قارن بين المغتربين العرب ممّن قادهم طموحهم للدّراسة في أمريكا وقسّمهم إلى ثلاثة أقسام: فمنهم من وُفّق في دراسته وعاد لخدمة بلاده، ومنهم من وفّق أيضا وحصل على الجنسيّة الأمريكية واستقر هناك، وأمّا القسم الثالث فقد جرفته الملذّات والمخدّرات فضاع وأضاع معه طموحه وأحلامه.
وقد لمستُ جانبا من أدب الرّحلات في حديثه، إذ وصف الطبيعة الجغرافيّة والمناخيّة والعادات والتقاليد والأنماط السلوكية والاجتماعيّة المختلفة باختلاف ساكنيها، وكذلك الحدائق والمتاحف التي زارها، والكثير ممّا شاهده، وذكر لها السلحوت في حديثه بأن السّاسة والسّياسة التي تنتهجها أمريكا تختلف كليا عن الشّعب الأمريكي، فهو شعب يثق بحكومته وبقراراتها لأنّها منتخبة..ولا يتدخّل في السّياسة.
وقد أخبرها بأنه أصدر كتابين في أدب الرحلات، هما “كنت هناك”عن رحلاته لعدد من الدول العربية والاتحاد السوفييتي وأمريكا، والآخر “في بلاد العم سام” عن زياراته المتكررة لأمريكا.
ومن القضايا التي نوقشت في رسائلهما قضيّة الجهل التي اعتبرها السلحوت أحد أسباب الهزيمة، وما تُعانيه الأمة من التخلّف ينعكس المجتمعات وعلى المرأة خاصة، فالثقافة الذكورية السائدة في مجتمعاتنا العربيّة منحازة لممارسة سلطة الذكر على الأنثى، وما ينتج عنها من سلوكيات ظالمة وغير عادلة، إضافة لتلك النظرة الدّونية من قبل المجتمع لجنس الأنثى، بعيدا عن الدين، وتماشيا مع الموروث الثقافي من عادات وتقاليد بالية عملت على تحجيم دور المرأة في المجتمع، وتقييد حرّيتها في إثبات ذاتها، ويرى كلاهما بأنّ المرأة تسهم في تعزيز هذه الثقافة من خلال دورها في تربية أبنائها وما تُنشئهم عليه، ويتطلعان للتغيير. والكاتب هنا كما في رواياته يحارب الجهل والظّلم، ويعمل جاهدا من خلال شخوصه وما يطرحه من قضايا على تغيير الواقع لصالح المرأة.
وتؤكد صباح بشير في رسالتها (بسبب تلك الثقاقة الذكوريّة البالية تتأخّر المرأة وتُمنع من تسجيل تفوّقها على لوحة الإنجاز) ص21.
“إنّ تَخَلُّصَنا من الفكر الذكوري، يرتقي بنا ويجعلنا نعيش في مجتمع يُراعي الاختلاف، يقدّم لنا مساحة أكبر من الحرّية والمساواة، ويراعي حقوق المرأة، يحترمها ويصونها.) ص 22.
وكان للكاتبة رأي في اللهجة المحكية العاميّة التي استخدمها الكاتب في روايته “ظلام النهار” التي وإن وثّقت جانبا من تلك اللهجة الدارجة، إلا أنّها كما قالت “انت تعلم بأنّ اللهجة العاميّة تختلف من منطقة لأخرى في بلادنا، لذا فاستعمال اللهجة المحكيّة لمنطقة ما قد يُعيق الفهم لقاريء آخر يعيش في منطقة لا تتحدث ذات اللهجة، ليتك لجأت إلى اللغة الثالثة لتصبح القراءة مفهومة للقراء كافة والتي هي بين العربية الفصحى واللهجات المحكية، ولا حرج في ذلك…”ص31.
ولأنّ العنوان بوّابة النّص فقد تساءلت عن التّضاد في عنوان روايته “ظلام النهار”، وما تلاها من روايات ك”جنة الجحيم” و”هوان النعيم” فأجابها بأنها جاءت رديفا لواقعه المتناقض “إن الاحتلال الغاشم وما سبقه من جهل وفقر قد فرض علينا واقعا متناقضا لا يعيشه شعب آخر، فحقوقنا في وطننا واضحة وضوح النهار، لكن الرأي العام العالمي لا يرى هذا الضّوء السّاطع، فقوى الطغيان تقلب الحقائق وتفرض العتمة والظلام، من هنا جاء عنوان رواية “ظلام النّهار” ص45.
رغم ارتحالها وتنقّلها من دولة لأخرى والمعاناة التي عاشتها ظلّ الوطن حاضرا في وجدان الكاتبة بشير فكتبت :(أحبّ وطني والعيش فيه، لكنّنا لسنا أشجارا، وركود الماء يُفسده، وفي وطني الجريح نلاحق الأيّام، نطارد الدّقائق والسّاعات لكسب لقمة العيش، وفي نهاية المطاف نتساءل، كيف مرّ الوقت دون القبض عليه والاستمتاع به؟) ص47.
بتلك الكلمات المحملة بالأسى عبّرت الكاتبة عن حنينها للوطن، وما دعاها للاغتراب، فحين يُظلم الإنسان ويحارب في لقمة عيشه فوق ما يوقعه الاحتلال من ظلم وجور، فإنّ المرء يبحث عن ملجأ أو طوق نجاة يتعلق به كي يُهيّء لنفسه فرصا أفضل وحياة كريمة.
بعد سفرها وخوضها تلك التجربة والاغتراب وما عانته كتبت صباح، بأنّ تجربة السفر تصنع الإنسان، وتمنحه فرصة لاكتشاف ذاته ومدى قدرته على التّحمّل والصّبر في الأزمات وعند المِحن، ليَخرج في النّهاية منتصرا على الصّعاب، ومروّضا شراستها؛ ليستقرّ حاله وتطمئنّ نفسه.. وقد أكسبت تلك التجربة ذاكرتها مخزونا لا ينضب من ثقافة غنيّة بتنوّع روافدها، وفكر منفتح ورؤىً غير منحازة، فأصبحت أكثر تقبّلا للاختلاف واحتراما للآخر.
كان الوطن حاضرا في معظم الرسائل بجماله وقدسيته، وقد أسهب السلحوت في الحديث عن القدس ومكانتها، وما تعانيه من تهويد ومصادرة الأراضي لدواع أمنيةّ ولصالح توسيع المستوطنات عليها، كما كان الهمّ الإجتماعيّ حاضرا فأسهب في نقد ما يعتري المجتمع العربي من جريمة وسلوكيّات خطيرة، وهي أبعد ما تكون عن أخلاقيّات ديننا السّمح في المعاملات والتّسامح ونبذ العنف والتطرف.
وفي الحديث عن التطرّف الديني والتّعصّب الفكري تطرقت الكاتبة إلى “وجوب التعددية الفكرية واحترام الآخر وقناعاته، وأن لا يُعوّل على الدّين وحده كاعتقاد إنسانيّ؛ ليكون المُنقذ الوحيد دون مسيرة جادّة من العلم والعمل والبحث والاجتهاد والتطوير)58.
منوهة أن لا تُفهم خطأ فهي المؤمنة والموحّدة.
وقالت “أنّ ما يجري من انقسام بغيض سيُحمّلنا الويلات لسنوات وسنوات. ص59.
وكانت رسائل السلحوت متنفّسا للكاتبة ولما يعتريها من حنين، فهي كما قالت (تعبق برائحة الوطن وتفيض بمحبته) و (تبعث فيّ الهمّة وتستنهضني للكتابة مجدّدا، إذ لا بدّ للإنسان من تجديد ذاته ونشاطه وعلاقاته الثقافية بمن حوله، من هنا أحببت هذا التواصل بيننا، فهو يبعث فيّ أحاسيس وعواطف أخوية صادقه ص51.
وكما السلحوت في رسائله نرى ملمحا من أدب الرحلات فيما نقلت صباح بشير من مشاهداتها وانطباعاتها عن المدن والدول والدويلات التي سافرت إليها واستقرت فيها. وما خلّفت في نفسها من أثر لا يزول.
في رسائلهما تحدث الكاتبان عن الثقافة ودور المثقف في بلادنا العربية، وما أحدثته مواقع التواصل الاجتماعي غير المسؤولة في هذا المجال من تدنٍّ في مستوى الثقافة وما يُنشر فيها، فعزف القرّاء عن قراءة ما يعكّر ذائقتهم الأدبية.
وأشارت صباح إلى ذلك “ذائقة القرّاء النّابهين تعرف الغثّ من السمين” ص169.
كما تطرّقا لموضوع المسابقات والجوائز والشهادات ونيل الألقاب، مما جعل الكتاب يتهافتون عليها، ويستعجلون الكتابة لِلَّحاق بموعد المسابقة المقرّر، ممّا يُنتج أدبا أقل جودة وديمومة… كما أنّ مواقع التواصل الاجتماعي قد أخرجت كمّا هائلا من الكتاب والشعراء خاصة.. الذين لا يرتقون لذلك المُسمّى.
وفي رسائلهما التى تزامنت وجائحة كورونا تحدثا عن المؤسسة التعليمية وما يصدر عنها من قوانين… كما تحدثا عن التّعليم الإلكتروني… وما ألقى من ظلال على التعلم والتعليم والطلبة والمدرسين، فجميعهم غير مؤهّلين لخوض هذه التجربة، لأنّ النظام التعليمي في بلادنا نظام تقليدي.. قائم على التلقين.
وقد ذكر كلّ منهما السّلبيات – التي رافقت هذه العمليّة التعليميّة- وأثرها على الطلبة والأهل والمعلّمين والمنظومة التعليميّة، فجميعها غير مهيّأة لذلك.
ص 151.
ولحلّ هذه المشاكل وتفادي حدوثها مستقبلا ترى صباح أنّ “على الجهاز التربوي تفعيل وتوفير وسائل التدريب غير التقليديّة لهذا النّوع من التّدريس للمعلّمين، تدريبهم وتقديم أفضل الطرق لهم للتعامل مع هذا الوضع الطارئ، مع البرامج الخاصة التي تقوّي خبرة المعلّم وتعزّز مكانته.”
وهذا كلّه يحتاج الى تطوير ودورات مسبقه يُهيّأ فيها المدرّس لأداء واجبه في كلّ الظروف.
ختاما أبارك لهما هذا الاصدار الذي حوى الكثير ممّا لامس الوجدان وأيقظ الفكر وألهب الشعور.
16-7-2022