قرار محكمة الجنايات الدولية بإصدار مذكرة اعتقال للرئيس السوداني عمر البشير لم يفاجىء أحداً من المتابعين للسياسة الغربية في الشرق الأوسط ، فالدول العربية التي رفضت أي حلّ عربي لدخول القوات العراقية للكويت في آب 1990 ، وما تبعها من مشاركة في حرب التحالف الثلاثيني على العراق في كانون ثاني 1991 ، وما تبعهما من حرب تدميرية احتلالية للعراق في آذار 2003 ، وسكوت الأنظمة العربية على اعتقال الرئيس العراقي صدام حسين واعدامه لاحقاً هو وبعض قادة نظامه ، والسكوت على قتل أكثر من مليون عراقي من قبل المحتلين الأمريكيين .
والسكوت أيضاً على حصار الرئيس الفلسطيني الرمز ياسر عرفات حتى قتله مسموماً جعل الكثير يتساءلون في حينه عن الزعيم العربي الذي سيكون الدور عليه اذا ما خرج عن بيت الطاعة الانجلو أمريكي، وها هو الدور يأتي على الرئيس السوداني عمر البشير والله أعلم على من سيكون الدور القادم .
ونحن هنا لا ندافع عن الرئيس البشير ، ولا عن أي زعيم كائن من يكون اذا ارتكب جرائم قتل بحق شعبه ، فلا تعني الزعامة بأي شكل من الأشكال استباحة دماء الشعب ، لكننا نتساءل عن الجرائم التي يرتكبها دعاة ” حقوق الانسان ” ولا أحد يطالب بمحاكمتهم لا محلياً ولا دولياً .
فالرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش ، وتابعه رئيس وزراء بريطانيا السابق توني بلير وحلفاؤهما مسؤولون عن احتلال وتدمير العراق وقتل أكثر من مليون مدني عراقي ، ومسؤولون عن احتلال وتدمير أفغانستان وقتل مئات آلاف المدنيين الأفغان .
والقادة الاسرائيليون مسؤولون عن استمرا الاحتلال الاسرائيلي للأراضي العربية المحتلة منذ اثنين وأربعين عاماً، وما صاحب ذلك من قتل وتدمير واستهداف البشر والشجر والحجر ، والحرب الاسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة ، كانت حرباً تدميرية هائلة استهدفت المدنيين وممتلكاتهم والمساجد والمؤسسات الصحية والدولية ، واستعملت فيها الأسلحة المحرمة دولياً والمصنوعة في أوروبا وأمريكا . وبقي الجناة أحراراً طلقاء مع أن بعضهم مسؤول عن تزويد المتمردين السودانيين في دارفور وجنوب السودان بالأسلحة لقتل بعضهم البعض .
ويأتي قرار محكمة الجنايات الدولية ليس من باب الدفاع عن مواطني دارفور ، ولا حقناً لدمائهم بمقدار ما هو خطوة عملية لسلخ هذا الاقليم عن وطنه الأمّ ، تماماً مثلما هو التخطيط على قدم وساق لسلخ الجنوب السوداني عن وطنه الأمّ أيضاً ، تنفيذاً للأطماع الاستعمارية التي تحلم بإعادة تقسيم منطقة الشرق الأوسط أو ما يسمونه مشروع الشرق الأوسط الجديد ، ولو أن الرئيس السوداني عمر البشير نفذ المطلوب منه أمريكياً لدافعوا عنه واعتبروه من ” أبطال الدفاع عن حقوق الانسان ، وترسيخ الديمقراطية في بلاده ” .
وبما أن السودان يعتبر واحداً من ثلاث دول تحتوي الاحتياطي الهائل لسلة الغذاء العالمية بالشراكة مع كندا واستراليا ، يُضاف الى ذلك اكتشاف واستخراج البترول من اقليم دارفور فقد أصبح هدفاً للأطماع الاستعمارية ، فحلم السيطرة على منابع البترول في العالم لا يزال يرواد المستعمرون الجدد ، ومن المضحك أن تعتبر الادارة الأمريكية أن الرئيس البشير ” هارب من وجه العدالة ” في حين يبقى المجرمون المسؤولون عن قتل الملايين أحراراً وفي مأمن من ” العدالة المحلية والدولية ” وهذا يدعو الى التساؤل عن مدى استمرار سياسة الكيل بمكياليين في مختلف مجالات الحياة في السياسات الدولية ، ومن المثير للسخرية طرح قضية طرد منظمات الاغاثة الدولية المتعاونة مع محكمة الجنايات الدولية في السودان على مجلس الأمن على اعتبار أن ذلك يمثل جريمة حرب ، في حين يستمر حصار قطاع غزة وتجويع حوالي مليون ونصف مليون فلسطيني فيه منذ ما يقارب العامين ، وحتى أن أساطيل دول عظمى تشارك في هذا الحصار .
وهذا لا بدّ من التأكيد على أن الحكومة السودانية مطالبة بتوفير الحياة الكريمة لمواطنيها وخصوصاً في دارفور ، وعليها حمايتهم من الاقتتال الداخلي ، ونشر الأمن في هذا الاقليم الذي يعاني اضطرابات واقتتال داخلي، منذ عدة سنوات تماماً مثلما عليها أن تدافع عن وحدة أراضيها، كما عليها أن تحافظ على حقوق الأقليات القومية والدينية من أبناء شعبها .وعلى الدول العربية والاسلامية أن ترفع صوتها عاليا ،وأن تقول كفى استهتار بمصير ومقدرات شعوبها من قبل حكومات العالم الغربي.