هناك حقيقة علينا الاعتراف بها وهي: أنّنا نستطيع تشخيص المشاكل التي نعاني منها، لكننا لا نستطيع وضع الحلول لها، وان استطعنا ذلك فإننا لا ننفذ، والسبب هو الاتكالية التي نتربى عليها، والتي سادت كسلوك وكثقافة، فالابن يبقى طفلا مهما كان عمره ما دام والده على قيد الحياة، واذا ما توفي الوالد فان دوره ينتقل الى الأخ الأكبر وهكذا، وهذا ينطبق على العائلة الكبيرة وعلى العشيرة أيضا، فما دام كبير العائلة أو شيخ القبيلة حيّا فانه مطالب بتحمّل مسؤولية العائلات والقبيلة وحلّ مشاكلها، وحتى الأحزاب الوطنيّة والدّينيّة عندنا هي انعكاس لمفهوم العائلة والعشيرة والقبيلة، ولا نبالغ اذا ما قلنا بأن الدّول في بلداننا هي تحالف “قبلي سياسي” اللهمّ إلّا اذا انفردت القبيلة الكبرى بالحكم، أي أنّنا لا نزال بعيدين عن بناء الدولة المدنية، دولة سيادة القانون التي تنهض بشعبها. وبنية مجتمعاتنا العشائرية تقودنا الى أن يتكلّ الكلّ على الكلّ، فالخير لصاحبه والشرّ على الجميع، وليتنا نتحمل مسؤولية شرّ أعمالنا، ولو تحمّلناها لوجدنا لها حلولا مناسبة، وحتّى على مستوى الدّول فإنّنا اذا ما هُزمنا و-هزائمنا كثيرة والحمد لله- فإنّنا نحمّل الهزيمة الى غيرنا، فدعونا نتذكر الهزيمة الماحقة التي منينا بها في حرب حزيران 1967 والتي أورثتنا كوارث كبيرة، فمصر حمّلت الهزيمة لسوريا التي كان يتسلل عبر حدودها الى اسرائيل مقاومون يقومون بتفجيرات وغيرها، وسوريّا وبعض الدّول العربيّة حمّلت الهزيمة لمصر كونها الشقيقة الكبرى، وكون جزء من جيشها كان يحارب في اليمن لتثبيت النظام الجمهوريّ الذ أسقط النّظام الملكي، والمملكة الأردنية الهاشمية وجدت نفسها في معمان حرب لا خيار لها فيها، والاعلام العربي والشعوب العربيّة وبعض القادة العرب حمّلوا المسؤولية للاتحاد السوفييتي، والعسكريون العرب حمّلوا المسؤولية للسّلاح السوفييتي، لكنّ أحدا لم يعترف بالهزيمة الكارثيّة، فاعتبرتها الأنظمة نكسة سيتبعها نهوض ونصر، بل إن الأحزاب التي تعتبر نفسها “طليعيّة” زاودت على الأنظمة واعتبرت نتيجة الحرب نصرا! لأنّ اسرائيل لم تستطع اسقاط النظامين التقدميّين في مصر وسوريا! وكأن بقاء نظام الحكم في مصر وسوريا في حينه أهمّ من ضياع وطن، وتدمير جيوش ووقوع آلاف الضّحايا، ورضوخ شعب تحت احتلال بغيض.
وتغيّر النظام لاحقا في مصر بوفاة الرئيس جمال عبد الناصر، وفي سوريا بالانقلاب الذي قاده حافظ الأسد ضد الرئيس نور الدّين الأتاسي، لكن الأرض والشعب اللذين وقعا تحت الاحتلال لا يزالان يعانيان من ذلّ الاحتلال وبطش المحتل.
ما علينا ولنعد الى استكمال موضوعنا حول التّعليم في بلداننا، وخاصة في وطننا فلسطين، لعلنا نستطيع الوصول الى حلول لبعض المشاكل التي تواجه تقدّم مسيرتنا التعليمية، فمن المشاكل التي نواجهها هو النّقص في الغرف الصّفّيّة في مدارسنا، وعدم وجود ملاعب وساحات للمدارس وغيرها.
ومع معرفتنا جميعنا أنّنا لا تزال في مرحلة التّحرّر الوطني، وأنّ قيام السّلطة الفلسطينية في العام 1994 كنتاج لاتّفاقات أوسلو التي وُقّعت في أيلول-سبتمبر- 1993، هي مقدّمة لبناء دولتنا المستقلّة، وأنّ هذا لا يعني أنّنا تحرّرنا من الاحتلال، فالاحتلال لا يزال يسيطر على كلّ شبر من أرض دولتنا العتيدة، وأنّ السّلطة لا تزال تعاني من فقر الموارد، بل إنّها وقعت في مديونية عالية، ومن أسباب ذلك هو استمرار الاحتلال وعدم استقلالية الاقتصاد الفلسطينيّ، ومع ذلك فإنّنا نتعامل معها وكأنّها دولة حرّة مستقلة وذات سيادة، ونطالبها بتوفير كافّة الخدمات وفي مختلف المجالات للشعب، وهذا أمر مشروع لكنّ الواقع مختلف تماما، فالسلطة التي تستدين لدفع رواتب موظفيها، بالتأكيد هي عاجزة عن توفير جميع متطلّبات شعبها، وما يهمّنا هنا هو توفير الأبنية المدرسيّة النموذجيةّ وملحقاتها من ملاعب وغيرها في جميع مدننا وقرانا ومخيّماتنا. والسّؤال هنا هو: أين دور المجتمع المحلّيّ؟ وأين دور المغتربين الفلسطينيّين الأثرياء؟
قبل سنوات شاهدت في قرية مخماس احدى قرى شمال شرق القدس مدرسة نموذجيّة ذات ملاعب لائقة تقع في أحسن موقع في القرية، وأخبرنا أبناء القرية أن مغتربا من أبنائهم تبرّع بالأرض وأقام البناء المدرسي. وعلمت بأن مغتربا من قرية بيت عور قضاء رام الله قد بنى هو الآخر مدرسة اعدادية للقرية، وبالتأكيد أنّ هناك مغتربين آخرين في مناطق أخرى قد قاموا بأعمال مشابهة، لكنّ هذا لا يكفي، بل إنّ هناك سوءا في التخطيط “التبرعيّ” أيضا. فمثلا هناك من تبرعوا ببناء مساجد، مع وجود مساجد تغطّي حاجة المنطقة التي بنيت فيها المساجد الجديدة، واذا ما أخذنا الناحية الدينيّة بأنّ بناء مسجد صدقة جارية، فإنّ بناء مدرسة أو مستشفى هو صدقة جارية أيضا، فلماذا لا نقدّم الأولويات؟
وقد عشت وشاهدت في الجزء الشرقيّ من قريتي”السواحرة”قضاء القدس تجربة فريدة قام بها المجلس المحلي قبل بضع سنوات، عندما اشترطت احدى الجهات المموّلة وجود أرض لبناء مدرسة ثانوية للبنات، فاقترح أحدهم شراء أرض بعينها، وشرع بجمع تبرعات لثمن الأرض تحت شعار “اشترِ مترا وأوقفه صدقة جارية عن روح قريبك أو قريبتك المتوفى” وقد نجحت الفكرة أيّما نجاح، وتم جمع عشرات آلاف الدنانير ثمنا للأرض، حتى أن بعض المتبرعين كانوا يأتون طواعية للمجلس متبرّعين دون أن يطلب أحد منهم ذلك. وتم بناء مدرسة نموذجيّة، وتمّ بناء مقرّ للمجلس المحليّ أيضا. فلماذا لا تعمّم التجربة على المناطق الأخرى؟ فأن تشعل شمعة خير ألف مرّة من أن تلعن الظلام.
وفي الجزء الغربي من قريتي قام عدد من الشابّات والشّباب الواعد هذا العام 2013 بتأسيس جسم ثقافي أسموه “مبادرة شباب البلد-جبل المكبر” وأوّل أعماله كان تأسيس مكتبة عامة اعتمدت على التبرّع بالكتب، فجمعوا أكثر من ثمانية آلاف كتاب، والمكتبة مفتوحة لطلبة المدارس والجامعات ولغيرهم، كما أنّهم يرعون المواهب الشابة ويشجّعونها، فلماذا لا يتمّ تعميم التجربة أيضا.
21-9-2013