وصلنا أنا وزوجتي مدينة شيكاغو الأمريكيّة منتصف ليلة ١٢ أيّار ٢٠١٥، لزيارة ابننا قيس، وأشقّائي داود، راتب وفاطمة، وتميم بن شقيقي المرحوم عمر، وحمزة علي يوسف دخيل بن شقيقتي يسرى، صباح اليوم التّالي هاتفني ابن العمّ محمّد موسى السّلحوت، مسستفسرا عن أحوال الأهل والأقارب بشكل خاص، وأخبار قريتنا ومدينتنا القدس ووطننا فلسطين بشكل عامّ، وأصرّ كما هي عادته أن نزوره في مكان إقامته في مدينة هيوستن في ولاية تكساس الأمريكيّة، فاعتذرنا له لأنّ مروة زوجة ابني قيس كانت على وشك وضع مولودتهما البكر، فقبل عذرنا مؤقّتا، وصباح يوم ٢١ أيّار أنجبت مروة الحفيدة لينا، التي كلنت فرحتنا بها كبيرة. وبعد أقلّ من أسبوع اتصل بنا ابن العمّ محمّد موسى السلحوت، ليضعنا أمام الأمر الواقع عندما قال: “لقد حجزت لكم تذكرتين لزيارتي ما بين ١١ و١٩ حزيران…شكرته على ذلك وانتظرنا الموعد، وابن عمّي هذا أنهى الثّانوية العامّة في العام الدراسيّ ١٩٦١ـ١٩٦٢، وتعاقد للعمل كمدرّس في السّعوديّة، وبينما كان يستعد للعودة إلى أرض الوطن في العطلة المدرسيّة الصّيفيّة عام ١٩٦٧، اندلعت حرب حزيران ١٩٦٧، ووقع ما تبقى من فلسطين” الضّفة الغربيّة بجوهرتها القدس، وقطاع غزّة، وصحراء سيناء المصريّة، ومرتفعات الجولان السّوريّة تحت الاحتلال. فترك أبن عمّي السّعوديّة وسافر إلى الولايات المتّحدة الأمريكية، ليلتحق بجامعة هيوستن ويدرس الهندسة الكهربائيّة، وفي الجامعة تعرّف على جويس التي كانت تدرس علم الاجتماع، وتزوّجا، وعملا ونجحا نجاحا لافتا، وجويس تنحدرأصولها من الرّيف الايطاليّ، وعاداتها قريبة أو تتماثل مع العادات العربيّة، فهي امرأة محافظة كريمة معطاءة تهتمّ بتثقيف نفسها، أمّا ابن عمّي والذي يعتبر واحدا من أعيان الجالية الفلسطينيّة والعربيّة في هيوستن، فإنّه مستوعب للثّقافة الأمريكية، ومنخرط في الحياة الأمريكيّة، لكنّه في الوقت نفسه لم يتخلّ عن العادات والتّقاليد العربيّة، فمع الأمريكان هو أمريكي حتّى النّخاع، ومع العرب هو عربيّ حتّى البداوة، تماما مثلما هي زوجته أيضا مستوعبة إلى حدّ كبير للثّقافة والعادات العربيّة، وكلاهما متعاطفان مع القضايا العربيّة وخصوصا القضيّة الفلسطينيّة إلى أبعد الحدود.
وابن عمّي محمّد موسى ابراهيم السلحوت وزوجته الأمريكية جويس، يسكنان في أرقى أحياء هيوستنsouth side place في بيت واسع أنيق تتوسط مدخله حديقة صغيرة جميلة في وسطها نافورة ماء، وفي جزئه الخلفي الشّيء نفسه، وهذا الحيّ الرّاقي والهادئ موجود فيه مركز هيوستن الطبّي ـ أكبر مركز طبّي في العلم، وفيه جامعة هيوستن أيضا. وفيه أيضا حيّ سكنيّ راق، فيه أكثر من ٤٠٠ شقّة سكنيّة، وهذا الحيّ كما بقيّة الأحياء الأمريكيّة الرّاقية، منظّم بطريقة لافتة، فطرقاته تحيط بها الورود وأشجار الزّينة، والأشجار الحرجيّة المعمرة، وفيه بركتا ماء تتوسطها نافورتان، وفيه بركة سباحة، وناد رياضيّ، ويقوم شباب فلسطينيّون باستئجارعدد من الشّقق فيه، يؤثّثونها، ويقومون بتأجيرها لعرب يرتادون مركز هيوستن الطّبّيّ للعلاج، وهم في غالبيتهم من دول البترول العربيّ، فيسكنونها هم وأسرهم التي ترافقهم، والّذي يتجوّل في طرقات هذا الحيّ سيلتقي وسيرى العشرات منهم رجالا ونساء محجبات وأطفالا يتريّضون في الحيّ، ويتمتّعون بجمال الطّبيعة فيه.
وابن عمّي وزوجته، حريصان على اكرامنا وتكريمنا بطيبة زائدة، وبديا لي وكانّهما في سباق لتكريمنا، بحيث أنّهما يصطحباننا يوميّا للافطار في مطعم والعشاء في مطعم آخر، من أرقى مطاعم هيوستن، ولا يدخلاننا المطعم الواحد مرّتين، وهما معنيّان بتعريفنا على مختلف الأطعمة لدى شعوب مختلفة. كما أنّهما متفقان على برنامج سياحي لزيارتنا لنرى أكثر شيء يمكن لزائر أن يراه في هذه المدينة الواسعة، التي يبلغ عدد سكانها خمسة ونصف مليون نسمة، ويبلغ عدد سكان ضواحيها حوالي ستة ملايين شخص.
وكالة ناسا أكبر مركز للعلماء
هذا اليوم الجمعة ١٢ـ ٦ـ ٢٠١٥ هو اليوم الثاني لزيارتي أنا وزوجتي مدينة هيوستن الأمريكية في ضيافة ابن عمّي محمد موسى السلحوت الذي رافقني وزوجتي هذا اليوم إلى مقرّ وكالة ناسا الأمريكيّة، وهذا المقرّ عبارة عن مدينة علميّة يبلغ عدد العاملين فيها ثلاثة عشر ألف وماية شخص، والدّخول إليها بتذكرة ثمنها ٢٧ دولار أمريكي. على يمين مدخلها تربض مركبة الفضاء الأمريكيّة “ديسكفري” على ظهر طائرة بوينج ٧٢٧، ويدخل الزّائر بطريقة منظّمة إلى بهو عظيم، حيث الصّور والمعروضات والمجسّمات التي تشرح تطوّر علوم الفضاء الأمريكيّة، ويخرج المرء من الجهة الخلفيّة إلى فضاء لافت حيث تقف حافلات كهربائيّة، يتألف كلّ منها من أربع مقطورات مفتوحة جوانبها، لتسير بهدوء وسط هذه المدينة، وفي كلّ منها دليل يشرح عن هذه البنايات، ويمرّ المرء برقعة فيها عدد من الأبقار ذات القرون الطويلة والتي تشتهر بها ولاية تكساس الأمريكيّة، وفلسفة وجود الأبقار في هذا المكان لاثبات أنّ لوكالة ناسا اهتماماتها في الثروة الزّراعيّة أيضا. وقريبا من مزرعة الأبقار هناك فضاء واسع فيه عدد من الظّباء التي تتنقلّ فيه بحرّيّة تامّة دون أن يعكّر صفو حياتها أحد…وتستغرق هذه الجولة ثلاث ساعات، تتوقف فيها الحافلة ثلاث مرّات:
المرّة الأولى في غرفة المراقبة التي يتابع فيها العلماء مسار السّفن الفضائية طوال الوقت، وهناك مقاعد مريحة للزّائرين مرتّبة بما يشبه قاعات المسارح. تتصدّرها شاشات العرض التي تتقدّمها أجهزة المراقبة، ويقف على يسارها رجل مسن أنيق يشرح بتواضع عن دور هذه القاعة التي نقلت شاشاتها نزول أوّل انسان على سطح القمر، حيث قام رائد الفضاء الأمريكي أرمسترونج برفع العلم الأمريكي على سطح القمر.
المرّة الثّانية: توقفت الحافلة لمدة ثلاث دقائق دون أن ينزل الزّائرون منها ليستمعوا إلى شرح عن سفينة الفضاء الأمريكية “تشليزنجر” التي انفجرت قبل بضع سنوات بعد انطلاقها بعشرة دقائق، وفيها اثنا عشر رائد فضاء أمريكيّ، حيث يكون على يمين الحافلة أشجار تحت كلّ واحدة منها لوحة نحاسيّة تحمل اسم واحد من هؤلاء الرّواد تخليدا لدورهم العلميّ.
المرّة الثالثة: عند صاروخين من الصّواريخ التي تحمل السّفن الفضائية إلى الغلاف الخارجيّ للكرة الأرضيّة. وبجانبها براكس هائل في داخله يتمدّد صاروخ عملاق، في مقدّمته مركبة فضائية عملاقة، وفي آخره ثلاثة عوادم”أكزستات”دائرية، قطر الواحد منها يزيد عن مترين. وكلّ هذه الصّناعات العلميّة العملاقة مفتوحة للجمهور ومسموح تصويرها هي والمدينة العلميّة كاملة. وهذه المدينة العلميّة الواسعة لا يرى الزّائر فيها أحدا، لأنّ العلماء والموظّفين موجودون في أماكن عملهم، وحول كلّ بناية موقف ضخم لسيّارات العاملين.
تجوّلنا في هذه المدينة العلمية ـ رغم حرارة الجوّ المشبع بالرطوبةـ مبهورين بهذا التّقدّم العلميّ الهائل، التزمت الصّمت فيها وأنا أفكّر بحال أمّتي التي تفوّقت على العالم بعدد هزائمها، وبالاقتتال الدّاخلي فيها، وبعض القتلة يعتقدون أنّ الدّماء التي يريقونها ستوصلهم الجنّة.
مساء السّبت ١٣ حزيران ٢٠١٥، اصطحبنا ابن العمّ وزوجته جويس إلى مسرح قديم صغير، لحضور مسرحيّة جميلة استغرق عرضها ساعتين ونصف، وسبق لجويس وابن العمّ قبل أربع سنوات أن اصطحبانا أنا وابني الحبيب قيس وابنتي الحبيبة لمى لحضور عرض “أوبرا” في مدينة سانتفييه في ولاية نيو مكسيكو الأمريكية، وذاك هو عرض الأوبريت الوحيد الذي شاهدته في حياتي. وجويس زوجة ابن العمّ مثقفة تطالع كثيرا، لم تجد مكانا شاغرا في المسارح الكبيرة لتحجز لنا فيه أثناء رحلتنا القصيرة إلى هيوستن والتي تستغرق أسبوعا واحدا فقط، وفي هذا المسرح القديم الصّغير والذي لا يتّسع لأكثر من ماية وعشرين شخصا فيه أمور لافتة، ففيه ثلاث قاعات للحضور تحيط بخشبة المسرح من جهات ثلاثة، ولخشبة المسرح ثلاث شاشات تفتح وتغلق في آن واحد، غرفة “الكواليس” من خلف الخشبة في الجهة الرّابعة لا يتعدّى عرضها المتر وهي مكشوفة للجمهور. وقد أذهلتني المسرحية باخراجها وإضاءتها، وديكوراتها، والسرعة الهائلة في تغيير الدّيكورات، وانتقال الممثلين من مشهد إلى آخر وتغيير ملابسهم، ولهذا المسرح ممرّان لدخول قاعة العرض فيهما غرف صغيرة يستعملها الممثلون لاستبدال الملابس ووضع متطلبات الدّيكور. وهذه المسرحية شارك فيها أكثر من خمس عشرة ممثلة وممثلا.
ومساء الأحد ١٤ ـ ٦ـ ٢٠١٥ كان موعدنا في إحدى قاعات مطعم فادي لالقاء محاضرة عن معاناة القدس الأسيرة، تلبية لدعوة من المجلس الثقافي الفلسطيني الأمريكيّ، وهذا المطعم العربيّ الذي يملكه الّلبنانيّ فادي خليفة الذي يفاخر بقرابته بالفنّان الشّهير مارسيل خليفة، ويفاخر بأنّ أصولهم من اليمن، هاجر جدّهم الأوّل إلى لبنان، وتنصّر أحفاده هناك. ومطعمه هذا واسع، فيه عدّة قاعات، يغصّ بالزّبائن الذين يصطفّون على الدّور لكثرتهم، ولا يقدّم سوى المأكولات العربيّة التي يتقن طبّاخوه اعدادها وطبخها. وللمطعم موقف واسع للسّيارات، ونظرا لنجاح هذا المطعم، فقد افتتح ثلاثة فروع في هيوستن، وثلاثة أخرى في مدينة دالاس التي تبعد مسافة ساعتين سفرا بالسّيّارة.
كان الحضور الذي شارك فيه العشرات مميّزا، ومنهم عبلة الأمين، محمد موسى السلحوت، ايمان الفارس، عباس يعقوبي، بكر ماضي، قاسم قاسم، حكم قاضي، د.سمير توما وآخرون، تكلّمت في المحاضرة عن المدينة المقدسة، منذ وقوعها تحت الاحتلال الاسرائيليّ في حرب حزيران ١٩٦٧، وما تبع ذلك من هدم لحارتي الشّرف والمغاربة، ومسح ألف واثني عشر بناء تاريخيّا عن الوجود، تمّ تشريد مالكيها الذين يبلغ عددهم ستّة آلاف نسمة.، هدمت بما فيها من مدارس ومساجد ومعالم تاريخيّة تشكّل ارثا للحضارة الانسانيّة، لبناء حيّ استيطاني يهوديّ مكانها، كما تحدّثت عن تهويد المدينة الذي لم يتوقف يوما منذ احتلالها، وما صاحب ذلك من حفريات استلّت أحشاء مدينة التّعدّديّة الثقافيّة التي أقلّ ما يقال عنها أنّها جنّة السّماوات والأرض، وتطرّقت إلى تهويد الجهاز الصّحيّ والتعليمي واغلاق المدينة أمام مواطنيها الفالسطينيّين منذ نهاية آذار ١٩٩٣، والذي اكتمل عام ٢٠٠٧ بجدار التّوسّع الاحتلاليّ الذي ابتلع ٦٪ من مساحة الضّفّة الغربيّة. وانتهاك الحرّيات الدّينيّة المتمثل بمنع المصلين من بقية الأراضي المحتلة للوصول إلى دور العبادة وفي مقدّمتها المسجد الأقصى وكنيسة القيامة لآداء الصلوات. وتحدّثت باسهاب عمّا يتعرض له المسجد الأقصى من اعتداءات مستمرة تهدف إلى تقسيمه، أو هدمه بالكامل لبناء الهيكل المزعوم مكانه. وتحدّثت عن سرقة تاريخ المدينة وثقافتها العربيّة ومحاولة تزييفها، كما تحدّثت عن معاناة المؤسّات الثقافيّة وأزماتها الماليّة.
ولفت انتباهي اهتمام أبناء الجالية الفلسطينيّة والعربيّة بالقدس الشّريف خاصّة، وبالقضيّة الفلسطينيّة بشكل عام…ممّا أدخل الفرحة إلى قلبي.
ويوم الاثنين ١٥ ـ ٦ـ ٢٠١٥ اصطحبنا ابن العمّ محمّد موسى السّلحوت في جولة في مركز مدينة هيوستن حيث ناطحات السّحاب، وجال بنا في مركز هيوستن الطّبي، أكبر مركز طبّي في العالم، والذي يعمل فيه مائة وعشرون ألف شخص وهو الآخر مدينة بحدّ ذاته، فيه عشرات المستشفيات والمختبرات وغيرها، وفيه فندق ينزل به المرضى الذيت يؤمّون المستشفى طلبا للعلاج، ويتمّ أخذ الفحوصات منهم داخل غرفهم في الفندق؛ لتشخيص حالاتهم المرضيّة قبل أن يناموا في المستفى، والّلافت أنّ لهذه المستشفيات فروع أخرى في ضواحي هيوستن لتخفيف الضّغط عليها، مررنا بالبناية التي يزيّن سطحها القرميد الأحمر، والتي توفي في أحد غرفها الشّاعر الفلسطينيّ الكونيّ محمود درويش…لم نحاول دخول البناية لكنّنا ترحمنا على شاعرنا العظيم.
وانتقلنا لزيارة “متحف الأطفال” في هيوستن كنت معنيّا بزيارة هذا المتحف، لرؤية ما بداخله، وهو متحف حديث لا يتجاوز عمره السّنوات العشرة. ولا أعلم إن كان يوجد له شبيه في مدن أمريكيّة أخرى، لكنّه بالتأكيد لا شبيه له خارج أمريكا، وهذا المتحف يحتوي في جنباته وبطريقة منظّمة مختلف الألعاب التي يمكن للأطفال أن يلهوا بها. وفيه جناح يعرض لهم ما يمكن أن يكونوه عندما يكبرون، فمثلا هناك مكتب لبنك أمريكا فيه موظّفات حسناوات يجبن على أسئلة الأطفال فيما يتعلق بالبنوك، وفيه قسم للحاسوب، وقسم للبقالات الكبيرة”السوبر ماركت، وفيه مجسم لسيّارة شرطة، ومختبر طبّيَ وغير ذلك، وفيه قاعة مسرح وعرض سينمائيّ، حضرنا فيها عرضا مسرحيّا رائعا للأطفال…أذههلني فيه تفاعل الأطفال مع الممثّلين.
كما زرنا جامعة هيوستن وهي الأخرى مدينة قائمة بذاتها…دار بنا ابن العم محمّد موسى السّلحوت في جنبات الجامعة، ومررنا بكلّيّة الهندسة الكهربائية حيث درس، وفي هذه الجامعة درس أخي احمد الصّيدلة أيضا. كما دار بنا إلى البيت الذي سكنه هو وأخي أحمد عندما كانوا طالبين في الجامعة.