رواية رولا هي الجزء السّادس من سلسلة (درب الآلام الفلسطينيّ) للكاتب المقدسيّ جميل السّلحوت، صدرت عن دار الجندي للنشر والتوزيع في القدس، وتقع في 190 صفحة من الحجم المتوسط.
في هذه السّلسلة يعرض الكاتب لوحات اجتماعيّة للحياة في فلسطين في الفترة التي أعقبت النّكبة مرورا بحرب عام 1967، ويختار عرب السّواحرة كنموذج لحياة سكّان الرّيف والبادية، ومدينة القدس كنموذج لحياة المدينة في هذه الفترة التي شهدت تغيّرات كبيرة في النّسيج الاجتماعيّ ليس فقط بسبب الظّروف الخاصّة للشعب الفلسطينيّ في ظل النّكبة والاحتلال، وإنّما بسبب التّطور الكبير في جميع مناحي الحياة والذي حدث في جميع أنحاء العالم، والتّأثيرات الثّقافيّة التي حدثت بسبب الانفتاح بين دول العالم وشعوبه. فسلسلة درب الآلام الفلسطينيّ تتخطّى آلام الشّعب الفلسطينيّ؛ لترسم لنا أيضا صور الفرح، وتبيّن لنا عادات وتقاليد هذا المجتمع والتّغيرات التي طرأت عليها على مرّ السّنين.
يختار الكاتب شريحة من المجتمع ويلقي الضّوء عليها، ويحرص أن تكون هذه الشّريحة واقعيّة تعكس بصدق صورة المجتمع بشرائحه المختلفة: المتعلّم والجاهل والمناضل والعميل، لا يمجّد أحدا ولا يعطي أحدًا أكبر من قيمته، ولا يجعله مجتمعا مثاليا، بل هو كغيره من المجتمعات فيه الخير والشرّ. وشخصيّاته هم بشر يصيبون ويخطئون، يكونون أقوياء أحيانا ويضعفون أحيانا أخرى. فالقارئ يشعر أن هذه الشّخصيّات تمثّل أشخاصا حقيقيّين نعيش بينهم ونعرفهم. وينتقي الكاتب أسماء الشّخصيّات؛ لتعكس صورة المجتمع بأطيافه المختلفة، وتعكس الزّمان والمكان الذي تدور فيه الأحداث، وتعطي صورة عن الشّخصيّة نفسها. وسأحاول هنا أن أستعرض بعض الشّخصيّات وخصوصيّة أسمائها.
تحمل الرّواية عنوان رولا، وهو اسم لأحد شخصيّاتها، وإن لم تكن الشّخصيّة الرئيسيّة في الرّواية. أعتقد أنّ اختيار اسم رولا لتكون عنوان الرّواية له دلالة معيّنة أرادها الكاتب، علما أنّ الرّوايات الخمس السّابقة في ضمن السّلسلة لم تحمل اسم أحد الشخصيّات ولا حتّى شخصية خليل الأكتع الذي هو الشخصيّة الرئيسيّة في هذه السّلسلة. رولا فتاة تظهر فجأة في حياة خليل الذي خرج حديثا من السّجن بعد أن قاسى أنواع العذاب والتّنكيل. هذه الفتاة جريئة جدّا تتخطّى جميع القيود الاجتماعيّة المقبولة في الرّيف أو المدينة، وتتقرّب من خليل لتفوز به زوجا في نهاية الرّواية، وهي أيضا عانت من ظلم زوجة الأب كما عانى خليل من قبل بسبب الجهل.
اسم رولا يناسب هذه الشخصيّة تماما ويعكس الفكرة التي أرادها الكاتب من وراء استحداثها. فرولا أو رلى هو اسم قبيلة عربيّة ذكرها قيصر المعلوف في قصيدته التّي خلّدت قصّة عليا وعصام في قوله:
رولا عرب قصورهم الخيام ومنزلهم حماة والشآم
واسم رولا أيضا محرّف من أسماء أجنبيّة مثل الاسم اللاتيني (ريجبولا) وهو أيضا مشتقّ من كلمة الرّوال وهو لعاب الخيل، فالاسم يجمع بين أصالة البادية وخشونتها وبين الحداثة والانفتاح على الغرب، ورولا في الرّواية هي الشّخصية التي تجمع هذه الصّفات. وهذه الرّواية تتميّز عن السّلسلة بأنّها بداية لانفتاح وانطلاق خارج المجتمع المغلق في السّواحرة، وابتعاد عن العادات والتّقاليد القديمة والتّحرر من بعض قيود الجهل، والابتعاد أيضا عن العادات الحسنة، وابتعاد البعض عن التّمسك بالأخلاق العربيّة الإسلاميّة الفضلى بسبب التأثّر بالغرب والاحتلال. لذلك أرى أنّ اختيار اسم رولا ليكون عنوانا للرّواية كان موفّقا.
نلحظ اختلافا كبيرا في شخصيّة (أبو كامل) في هذه الرّواية. فأبو كامل هنا شخص مختلف يتقبّل التّغيّرات التي طرأت على المجتمع ويتعايش معها، فابنته زينب تدرس في كليّة بير زيت، ولا تعود إلا يوم الخميس، ويستمع لرأي زوجته فاطمة. لذلك نرى أنّ شخصيّة أبو كامل تطغى على شخصيّة كامل الذي كان دوره في السّابق اقناع والده بالابتعاد عن العادات السيّئة، أمّا وقد حدث التّغيّر في شخصيّة (أبو كامل) فقد أصبحت شخصيّة كامل ثانويّة.
أمّا العميل أبو سالم فيكون مصيره مثل كلّ أمثاله من العملاء، يتخلّى عنه القريب والبعيد، ويلفظه الضّابط نمرود بعد أن أصبح عديم الفائدة له، ويتبرّأ من ابنه سالم وزوجته قبل أن يموت غريبا ولا يجد من يدفنه. هذه النّهاية القاسية لأبي سالم لن يسلم منها أيّ عميل باع ضميره وخان وطنه.
تبدو زينب متمرّدة نوعا ما على التّقاليد، تريد أن تختار زوجها بنفسها، وأن تعيش بطريقة تختلف عن بنات جيلها وبنات بلدتها بعد أن تعلّمت، لكنّها لا تتنكّر لأهلها أو للعادات والقيّم الأصيلة في مجتمعها. وتتزوّج سامح وهو شخصيّة متّزنة طموحة، مثقّف نهل من ينابيع العلم، ونجح في عمله كمهندس في مدينة رام الله، لكنّه لم يتخلّ عن جذوره في بلدته، وتزوّج ضمن العادات والتّقاليد الحسنة لبلدته.
أمّا خليل فقد كانت شخصيّته مختلفة تماما عن خليل الذي عرفناه في الأجزاء الأولى من السّلسلة. فخليل ذاك الطّفل الذي كان ضحيّة الجهل وفقد ذراعه، ثمّ أصبح خليل الطّالب في كليّة بير زيت والأستاذ المتنوّر، ومن ثمّ المناضل الذي قضى أربعة عشر شهرا في سجون الاحتلال تحمّل فيها كل صنوف التّعذيب، وكان مثالا للشّجاعة والصّمود، يتحوّل إلى شخص يغرق في مستنقع الرّذيلة والإسفاف ويبيع كلّ تقاليده وتربيته ودينه، وعادات مجتمعه وعقيدته عند أول إغراء لفتاة إنجليزيّة جميلة، فيصبح خليل الغارق في أدران الرّذيلة، الذي لا يتورّع عن شرب الخمر أو الكذب على عائلته ووالده، الضّعيف أمام ستيفاني السّاحرة، ويتلقّى الأموال منها مقابل الليالي الحمراء التي يقضيها معها، ثمّ يستخدم هذا المال الحرام في زواجه وامتلاك المكتبة والأراضي والبيوت، فأصبح خليل شبيها بعليّان المخنّث الذي يصادق يهوديّا شاذّا. كنّا نتمنّى على الكاتب أن يحافظ على صورة خليل التي رسمناها في خيالنا في الكتب الخمسة الماضية وخاصة في رواية العسف.
واستحدث الكاتب أيضا في هذه الرّواية شخصيّة جورج وزوجته سلوى ووالدته، وأراد بذلك أن يشير إلى المقدسيّين المسيحيّين، الذين هم جزء أصيل من النّسيج الاجتماعي في مدينة القدس، ويشتركون مع المسلمين في عاداتهم وتقاليدهم وطريقة حياتهم إلى حدّ كبير، لكنّ الكاتب جعل جورج العربيّ يسهّل لخليل لقاءاته الماجنة مع ستيفاني الإنجليزيّة، ويقدّم له الخمور ضاربا بعادات المجتمع المسلم الذي يعيش فيه عرض الحائط، لا أعتقد أن جورج بهذه الصفات يعطي الصّورة الفعليّة للمجتمع المسيحيّ المحافظ في فلسطين.
وفاة عبد الرؤوف الذي لم يكن رؤوفا بأحد، وتسبب في بتر يد خليل، كان إيذانا بعصر جديد اختلفت فيه أسماء الشّخصيّات من حمدة وأم فالح وسعديّة ونايف أبو خنانة؛ ليطلقوا على أبنائهم أسماء مثل ياسمين وجمال. الاختلاف في أسماء شخصيّات الجيل القديم في القرية والجيل الجديد، يعكس التّطور الذي حدث على مجتمع القرية وخروجها من دائرة التّقليد.
رواية رولا لوحة اجتماعيّة وصفت صفحة من تاريخ المجتمع الفلسطينيّ في الفترة بين عامي 1967 وَ 1973 وننتظر المزيد من الأديب المبدع جميل السّلحوت.
23/12/2015
ورقة مقدّمة لندوة اليوم السابع