القدس: 19-9-2019 ناقشت ندوة اليوم السابع في المسرح الوطني الفلسطيني في القدس رواية “تايه” للأديب الفلطسني د. صافي صافي، الصادرة عام 2019 عن دار النّاشر في رام الله-فلسطين، وتقع في 156 صفحة من الحجم المتوسّط.
ممّا يذكر أنّ هذه الرّواية هي التّاسعة للأديب د. صافي صافي.
افتتحت النقاش ديمة جمعة السمان فقالت:
كما عودنا الكاتب صافي صافي.. الذي يؤمن بأن دور الأديب الفلسطيني هو أن يكمل دور التاريخ، ويؤنسن قضيته العادلة التي ظلمت ولم تأخذ حقها على مرّ السنين. يطل علينا من جديد الكاتب بعمل أدبي آخر أسماه ” تايه” ، يوثق مرحلة هامة جدا في حياة الشعب الفلسطيني، من خلال (سيرة جمعية) لقريته الأمّ المهجرة (بيت نبالا)، يوثق حياة أهلها وعاداتهم وتقاليدهم وطبيعة حياتهم فترة الانتداب البريطاني، وصولا إلى تهجيرهم في عام النكبة 1948.
تطرّق الكاتب إلى تفاصيل زادت من شعورنا بالحسرة. وثّق أسماء العائلات وبعض الشخصيات الحقيقية، والمناضلين والشهداء الذين سقطوا على زمن الانجليز وآخرين على أيدي اليهود قبل وبعد النكبة.
تميز الكاتب بوصفه الدقيق للمكان، وارتباطه بالشخوص. ركّز صافي صافي بذكاء على أحداث بدت خاصة لأشخاص معينين، ولكنها بالواقع هي عامة، تصف واقع حياة المجتمع القروي الفلسطيني في تلك الفترة، وتتحدث عن عاداتهم وتقاليدهم، عن بساطتهم وتعاملهم بسذاجه في بعض الأمور بقيادة “الجهل”، الذي زاد من تيههم وضياعهم.
أبدع الكاتب برسم شخصية ” تايه” البريئة النقية بدقة، جعل القاريء يتخيّله شكلا ومضمونا،. بدا “تايه” رمزا لتيه وضياع الشّعب الفلسطيني، استطاع الكاتب تمرير العديد من الرسائل خلال هذه الشخصية التي بدت بلهاء، لا تدرك ما يجري حولها.. وقد وفّق بأن جعلها الشخصية الرئيسية في السيرة الجمعية.
وعلى الرغم من أهمية العمل الأدبي الذي قدمه صافي صافي للقارىء، والذي أرى أن عنوانه الكبير هو ” كي لا ننسى” .. إلا أنني لم أرَ فيه عملا روائيا، بل هو “سيرة جمعية”.. فأين الحبكة الروائية، وأين الخيال؟ واين عنصر التشويق؟
ربما لو أن الكاتب تروّى قليلا، وقام بحبك الأحداث بطريقته وأسلوبه وغمسها بالخيال المحبب المشوق، وقدمها للقارىء تحمل رسالته بصورة غير مباشرة، لكانت تصنف على أنها عمل روائي.
مع التأكيد على أن ” تايه” هي إضافة للمكتبة العربية، كتبت بقلم وطني صادق، يصف الجرح الفلسطيني بيد، ويحمل الحلم الفلسطيني باليد الأخرى.
وقال جميل السلحوت:
من يعرف كاتب هذه الرّواية وما يتحلّى به من رقّة الشّعور ورهافته، ويتصرّف بإنسانيّة عالية الإحساس، وحديثه الدّائم عن قريته التي عاش فيها آباؤه وأجداده”بيت نبالا” القريبة من مدينة الرّملة، والتي جرى تجريفها ومحوها عن الوجود مثل مئات القرى الفلسطينيّة، التي جرّفت بعد نكبة الشّعب الفلسطيني الأولى في العام 1948م، لن يتفاجأ بمضمون هذه الرّواية، وإن كانت ستدهشه في تفاصيلها.
فالكاتب مسكون بالمكان الذي ضاع قبل ولادته، وتواصل ضياعه حتّى يومنا هذا، لذا فإنّه يكثر من ذكر الأماكن كأسماء القرى والحارات والوديان والتّلال، وكأنّي به يريد حفظها خوفا عليها من الضّياع، ومن هذه الأماكن التي ورد ذكرها في الرّواية:” بيت اللو، دير عمّار، جمالا، عابود، دير أبو مشعل، دير نظام، النبي صالح، أم صفا، بيرزيت، أـبو شخيدم، كوبر، المزرعة الغربيّة، الجانية، راس كركر، ديربزيع، كفرنعمة”ص99. و:”بيت نبالا، وبعض المواقع مثل:”الطبقة، ابو الفحم، الخربة الشامية، الخربة البيضا،ابو فرو والنقارة ص136″ و”البرشة، فروس الدّالية،راس الأقرع، بعنّة مرج الحيلة” ص133. وبعض عيون الماء مثل :”عين البلد، عين القوس، عين الشّيخ، عين حسين، عيون الشّعب، عين البيبي، وعين الشّخريق”.ص31. وهناك ذكر لحمايل وعائلات بيت نوبا وهي:” حامولة الشراقا، حامولة زيد وصافي ونخلة” ص117.
كما وردت أسماء بعض المساجد والمقامات الديّنيّة.
والذي أدهشني حقّا عندما انتهيت من قراءة الرّواية أنّ الشّخصيّة الرئيسة فيها “تايه” هو شخص بسيط ساذج “أهبل” لا يؤذي أحدا ولا يسيء لأحد. وهذه سابقة تسجّل لصالح الكاتب.
وفكّرت كثيرا بهذه الشّخصيّة، وما الهدف من وجودها الدّائم على صفحات الرّواية؟ وللإجابة على سؤالي هذا، لا بدّ من الغوص في ثنايا الرّواية، التي أسهبت كثيرا في تفاصيل الحياة الإجتماعيّة للسّكّان، والتي وردت فيها الكثير من الخرافات والشّعوذات والبساطة، والحياة البدائيّة، وما يصاحب ذلك من إشاعات وأقاويل و”طوش” وعادات وتقاليد مثل زواج البدل وغيره، ومن الإشاعات ما تناقلته النّساء حول علاقة بين “تايه” وإحدى النّساء التي كانت تشفق عليه. وحتّى أنّ دور مجدي المتعلم، والذي كان يقال عنه أنّه يقود “المقاومة” كان دورا ثانويّا، يعطي دلالات لها مغزاها، فهل يمثّل “تايه” ببساطته وسذاجته وهبله نموذجا للتّفكير الذي كان سائدا، وكانت نتائجه نكبة وهزائم؟ وهذا ما أميل إليه حتّى وإن لم يرد في ذهن كاتب الرّواية، ويمكن تلخيص ما جرى في النّكبة بالجملة التي تكرّرت على لسان “تايه” كثيرا في الرّواية، وهي” العرب واليهود تقاتلوا”، فحقيقة لم تكن هناك حروب خاضها الجانب العربيّ، الذي تعامل مع الهجمة الصّهيونيّة ومخطّطات الإنتداب البريطانيّ، لإقامة “وطن قوميّ لليهود على أرض فلسطين” وكأنّها طوشة بين طرفين، ومع الأسف لا يزال هذا التّفكير قائما حتّى يومنا هذا.
الإبداع: وأنا أتابع أحداث الرّواية، وخصوصا شخصيّة “تايه” وجدت إبداع الكاتب في أنّ هذه الشّخصيّة تكاد تكون موجودة في كلّ قرية وحارة ومدينة ومخيّم للاجئين، وأحداث الرّواية مجتمعة تنطبق بشكل وآخر على هذه الأماكن كلّها، وهنا يتمثّل إبداع الكاتب بأنّه كتب عن وضع اجتماعيّ وعن مرحلة مرّت في حياة شعب بأكمله، ولا تخصّ قرية “بيت اللو” التي تدور غالبيّة أحداث الرّواية فيها، وتجلّى ابداع الكاتب في اختياره لقرية “بيت اللو” التي ولد وترعرع فيها؛ لأنّه يعرف جغرافيّة القرية معرفة تامّة، فتنقّل شخوص الرّواية فيها، وتنقلّوا بجوارها بسهولة ويسر دون عناء.
كما وردت إشارة في الرّواية بأنّ الجيوش العربيّة لم تحارب، ولم تكن لديها أوامر بخوض الحرب:” نزل الضّابط وقال: لا تناموا في البلد، سأله النّاس عن السّبب، فقال: ما أقدر أحكي. سألوه إن كان باستطاعته تحرير البلدة، قال: أستطيع أن أحرّر منطقة السّاحل بكاملها في بضع ساعات. طلبوا منه أن يفعل فقال: ما بقدر أحكي.” ص138.
الأسلوب: استعمل الكاتب الرّويّ والسّرد الحكائيّ وأحيانا التّقريريّ الإخباريّ، وليته استغنى عن الصفحات من 144- 150 لأنّها كانت تقريرا إخباريّا بعيدة عن السّرد الرّوائيّ. وعنصر التّشويق موجود في الرّواية بشكل طاغ.
وفي المحصّلة نبقى أمام نصّ روائيّ متميّز شكلا ومضمونا.
وكتب ابراهيم جوهر:
هل كان “صافي صافي” يكتب سيناريو فيلم سينمائي لا رواية؟!
أتابع قراءة رواية الصديق “صافي صافي” الأخيرة -وهي التاسعة للكاتب- وأقف على أسلوب السيناريو ذي الاهتمام بوصف الشخصية ووقفته وشروده على أرضية الواقع الجغرافي الذي وجد “تايه” نفسه فيه.
يعنى الكاتب عناية مبالغا فيها بالأسماء التي يكررها بين الجملة وأختها وكأني به يريد لفت النظر إليها لتعلق في ذاكرة القارئ في الوقت الذي يوفّر الضمير عناء تكرار الاسم (الفاعل) مما أربك السرد وأضعف الأسلوب.
“صلاح” شخصية مشاكسة متمردة بعفوية وشقاوة يقابلها “تايه” الذي حملت الرواية اسمه، والكاتب يوازي بين الشخصيتين ويمنح كلّا منهما صفات وسلوكا بعكس دلالة الاسمين، فصلاح غير صالح وتايه ليس تائها بل يحمل في “تيهه” حكمة وخفايا وهو يردّد “عرب ويهود تقاتلوا” ويشير بخنصره وبنصره في إشارة إلى المجاورة والمعارك التي لا تختلف عن “طوشة” اجتماعية!
يسجّل لرواية “تايه” اهتمامها المقصود بنقل مفردات شعبية من قاموس القرية ورسم خارطة لجغرافية المنطقة.
جاءت الرواية على شكل لقطات سريعة اهتمت بالشخصية أكثر من الحدث وغاصت في تفاصيل بعيدة عن محورها الأساس، فنقرأ كيفية صناعة الطابون وسبب تسمية بعض الأماكن وعددا من القصص التي لا تخدم سير الرواية.
كنت سأنصح صديقي الطيب “صافي” بالتريّث والمراجعة قبل الدّفع بروايته إلى المطبعة.
وقال محمد موسى عويسات:
المكان الرئيس للأحداث هو قريتيّ بيت اللو والتي تقع قرب دير عمّار، التي هاجر إليها أهالي بيت نبالا في أثناء النّكبة، وقرية الكاتب المهجّرة بيت نبالا. الزمان في بيت اللو هو من بعيد النكبة عام 1948 إلى بعيد حرب حزيران 1967، أمّا في بيت نبالا فهو من نهاية الحكم العثمانيّ إلى عام النكبة عام 1948.
ويبدو جليّا أنّ الكاتب قصد من هذه الرّواية التوثيق لقرية بيت نبالا في جميع المناحي، التاريخيّة والجغرافيّة والاجتماعيّة، فتناول اسم القرية، وتاريخ وجودها، وموقعها الجغرافيّ، والأسماء التفصيليّة للأمكنة فيها، عادات الناس وتقاليدهم وأعرافهم، وأفراحهم، وأتراحهم، ولباسهم، وعائلاتهم، وأنسابهم، وعلاقاتهم بالقرى المجاورة، والمقامات فيها والقبور، وأهمّيّتها الاستراتيجيّة، والحياة الاقتصاديّة فيها الزّراعة والكسّارات والعمل في المعسكر الإنجليزيّ، والصراع مع المهاجرين اليهود، والهجرة منها في أثناء الحرب، والمهجر الجديد في بيت اللو ودير عمار، حتى إنّ الكاتب لم ينس لغة أهل بيت نبالا من جانبيها الدلاليّ والصوتيّ وغير ذلك. وهذا يعدّ الجانب المهمّ في الرّواية والذي يعطيها فوق بعدها الفنّيّ الأدبيّ بعدا توثيقيّا جليلا. فقارئ الرّواية يتعرّف إلى هذه القرية بكلّ تفاصيلها، فكأنّه يعيش فيها أو عاش فيها. وإنّه لمن الإبداع أن توثّق هذه الجوانب في كلّ القرى والمدن المهجّرة.
أهم شخصيّات الرّواية (تايه) الشّخصيّة الرئيسة في القصّة، بل هي محور الرّواية، وأمّ تايه التي بقيت حاضرة حتى النّهاية والتي مثّلت شخصيّة المرأة الفلسطينيّة الصابرة العاملة التي تتحمّل المسؤولية عمن ترعاهم، صلاح الشخصيّة التي كادت أن تكون الشخصية المقابلة لشخصية تايه فهو شاب فيه مكر ومخادعة ولعوب وفيه روح السّخرية، ومجدي الرجل الثوريّ والذي مثّل الاتجاه الثوريّ أو الجماعات الفدائيّة التي نمت قبل وقوع النّكبة، ثمّ استمرّ وجودها حتى حدوث النّكبة، الرّجل الذي وثق به النّاس، وعدّوه بطلا وأخذوا ينسجون حوله الحكايات التي تشبه الخرافة، وكانوا يسمعونه ويطيعونه، وهو شخصيّة ممتدّة، ويبرز الكاتب من خلاله الأثر الضعيف للثّوار في النكبة وبعدها حتى حرب عام 1967، حاول أن يقنع النّاس بألا يهاجروا من بيت نبالا، وكان عضوا في لجنة حراسة قرية بيت اللو المكوّنة من العاروري والسّنبك. والعاروريّ رجل من عارورة وهو في الرواية شخصيّة ثانويّة، وكذلك السّنبك الذي سمّي بهذا الاسم لطوله. أمّ محمود تمثّل المرأة المنكوبة بموت زوجها وبعد ابنها في الكويت، تشفق على تايه وتجالسه فلم تسلم من مقالة الناس. الشيخ حسن الرّجل ذو الأصول الصّوفيّة، الذي أكثر من التنقّل في البلاد فتزوّج في أكثر من بلد، شخصيّة تميل إلى العزلة حتى إنّه لا يصلي جماعة ولا إماما، ونهايته أن يموت حرقا في أثناء محاولته طلاء سطح المسجد بالزّفتة المغليّة على النّار، ويمثّل ضعف الاتجاه الدينيّ وضعف أثره آنذاك في توجيه الناس. زوجته سعيدة كانت جميلة وجريئة وأحبّت مجدي وكانت تغار عليه. وجميل شقيق أمّ تايه، وأبو الجلّق، والأخرس أبو مجدي الذي قتله الإنجليز بعد أن قتل جنديّا منهم، وآخرون من شخصيات بيت نبالا وبيت اللو. وخلاصة القول في الشخصيات أنّ الشخصية المحوريّة فيها هو تايه، ثمّ تأتي من بعد أمّه، ومجدي، وصلاح. ورغم واقعيّة الشخصيّات، وأنّها غير متخيّلة، إلا أنّها تحمل دلالات رمزيّة، وتمثّل اتجاهات اجتماعيّة.
تدور الرّواية حول تايه الشّاب في العقد الثالث من عمره، المسكين الذي لا يدرك ما يدور حوله، وما زال عقله طفوليّ رغم سنّه، يقول الراوي: ” تايه يعيش لحظته، لا نعرف إن كان يفكّر في الماضي وأيّ ماض يعرفه!… هو يرى ما يشاهد الآن ويضحك، يبتسم، يبكي، يحزن، يغضب، ولا يُدرى مدى إعمال عقله… تايه ينسى سريعا ما يقال له… هو يعيش لحظته، يعيش حاضره… لا يهتم تايه بنظافته أو طهارته …. الوقت ليس ذهبا أو مصنوعا منه كما يعتقد تايه، الوقت لا ينضب أبدا… كما أنه لا يمكث في بيته المغارة، هو متجوّل فحسب، الشّتاء لا يمنعه من التّجول ولا الصّيف يفعل ذلك، حين يمرض يتعافى وهو يتجوّل. إنّه تايه، تايه لا يصنع الأحداث كما يدّعي أهالي القرية بل يندمج فيها ليصبح جزءا منها” (ص 66ــــــ 67)
سمّيت الرواية باسم تايه، فقد اختير هذا الاسم بعناية؛ ليأخذ دلالات وأبعادا كثيرة، من هذه الأبعاد أنّ تايه اسم فاعل من تاه يتيه أو يتوهه فهو تائه سهّلت الهمزة في اللغة ياء، والتّيه هو الضّلال والحَيرة وعدم الاهتداء، وأكثر ما تطلق على التّيه في الأرض أو الصّحراء. فالبعد الأول أنّ هذه الشّخصية موجودة في كلّ بلد وحيّ، بهذه التوصيفات التي ذكرها الرّاوي، فتايه نموذج إنسانيّ لحالة مرضيّة يصاب بها بعض الأطفال، فتنمو أجسادهم دون أن تنمو عقولهم، فيبقون مساكين بسطاء لا يدركون ما يدور حولهم. ويكونون موضع سخرية ولهو من بعض صغار السّنّ أو السّفهاء كصلاح. وموضع إشفاق وعطف من الكبار والعقلاء. قد يتقرّب بعض النّاس إلى الله بإطعامهم وكسوتهم والتلطّف بهم وتلبية حاجاتهم. وأرى أنّ الكاتب قد نجح في تناول مثل هذه الشّخصيّة، وجعلها محورا ينطلق منه إلى الجوانب المقصودة من روايته. فكان هذا اعترافا بوجود مثل هذه الحالة في المجتمع وأنّها جديرة بالرصد والتوصيف وأن تكون حاضرة في الأدب. وهذه الشّخصيّة وإن لم تكن فاعلة أو صانعة للأحداث، إلا أنّ لها أثرا في العلاقات الاجتماعيّة، من مثل ما أشاعته النّساء وتداولنه حول علاقة تايه بأمّ محمود التي كان يتردّد عليها بحسن نيّة وبراءة طفوليّة.
البعد الثاني لشخصيّة تايه، هو أن تتّخذ جانبا رمزيّا، ربّما قصد به الكاتب قطاعا من الشّعب الفلسطينيّ، لم يكن يعي ما يدور حوله من أحداث سياسيّة وتطوّرات على القضيّة الفلسطينيّة، يشي بذلك مقولته التي كان يردّدها: عرب يهود تقاتلوا، وأحيانا يقدّم اليهود، فيقول: يهود عرب تقاتلوا. فكلّ الأحداث لا يراها أكثر من شجار (طوشة) بين فريقين. يسأله مجدي عن رأيه فيما يحدث، فيقول: لو أمسك واحدا منهم سأبطحه ولا أقوم عنه إلا بعد أن يتوب. فيقول مجدي: وماذا إن تاب يا تايه؟ فيقول: أقوم عنه وألعب معه…” (ص 20) .
البعد الثالث لهذه الشّخصيّة أنّها كانت شاهدا حيّا ومراقبا صامتا لكثير من الأحداث، فهو أشبه ما يكون بحنظلة صاحب ناجي العليّ، فمثلا: في حملة التّدريب التي قرّرتها الدّولة لتدريب أهل القرية (بيت اللو) على حمل السّلاح كان تايه حاضرا، وكأنّ الراوي أراد أن يسفّه هذا العمل ويظهر عدم جديّته وجدواه بوجود تايه: ” أمّا تايه فلم يهدأ له بال يرافقهم طوال النّهار… إنّ وجوده مع المتدرّبين يقلّل من الجدّيّة… تايه يحدّق في الرجال المنتظمين في صفوفهم، يبدي جديّة هو الآخر، ويردّد وراء القائد ما يقوله…” (ص97) ومثلا عندما سقطت الدّبابة العربيّة، التي جاءت إلى القرية في الحرب وأطلقت بعض القذائف، في الحبلة عند أحد المنعطفات واستشهد بعض طاقمها، وجاء أهل القرية لينقذوها كان تايه يراقب المشهد، يقول: ” وجد تايه في هذا الحدث مناسبة لقضاء الوقت حول الدّبابة وبين أهالي القرية، لم تُعرف مشاعره، ولكنّه كان العلامة البارزة الظّاهرة طيلة النّهار”.
ومنها أنّ تايه يراقب المصلّين والصّائمين دون أن يشاركهم في صلاة أو صوم، يقول الراوي: “هو يلاحظهم وهم يتوضّؤون ويصلّون، لكنّهم لا يلومونه لأنّه لا يفعل مثلهم… لا يمكن أن تقنعه بأنّ الصيام مقدس، إنّه مثل الإنسان الأول”. (ص106)
ومنها مراقبة تايه للاعبي الورق في المقهى: ” تايه يجالس لاعبي الورق في المقهى، أبو صلاح يشارك في اللعب… يدقّق تايه في الورق الذي يحمله أبو صلاح … يبتعد تايه قليلا وهو يراقبهم وكلّما حرّك أحدهم جسده يمينا أو شمالا صرخ تايه بأعلى صوته باصرة…” (ص52)
البعد الرابع لتايه، هو هذا الجوّ من التّيه والتخبّط والحيرة، الجوّ امتدّ مع الرّواية منذ بدايتها إلى منتهاها، من قبل الهجرة، أي منذ الاحتلال الإنجليزيّ لفلسطين إلى حرب حزيران. إقامة الكامب العسكريّ على أراضي بيت نبالا، واغتصاب الأرض، والعمل فيه، ووجود نزعة قيس ويمن في القرية، الهجرة في أثناء الحرب، انهزام الجيوش العربيّة وتخاذلها، الثّورة التي لم تحقّق شيئا للنّاس، التدريب العسكريّ، قضايا العادات والتقاليد المتخلّفة من مثل تكعيب المرأة الوالدة، الإمام الذي يحتجّ على الذات الإلهية بسبب الهزيمة ويطلق النار في السماء، وغيرها كثير…
وهكذا نرى أنّ اختيار هذه الشّخصيّة لم يأت عفو الخاطر، ولم يكن مجرد قصّ لسيرة رجل ما زال قاصر التفكير والإدراك.
أمّا لغة الرّواية فهي لغة واضحة تناسب الجوّ العامّ الذي سيطر عليها، وهو التأريخ لقرية بيت نبالا ووصف ناسها، وتوثيق مناحي حياة أهلها، طعّمت الرّواية بالكثير من الألفاظ والمصطلحات الشّعبيّة والحوارات باللغة العامّيّة، من مثل كلمة: رعوة غنم، يسحجون، وصل حدّ الهون، وألطى بعضهم خلف جذع الشّجرة، وغير ذلك. لم تخل الرواية من بعض الهفوات اللغويّة، من مثل: استخدام لفظ الكوربة التي أخذت من الإنجليزية، والأصل أن تسمّى المنعطف. فتح (أنّ) بعد الحرف( حتّى) : حتّى أنّها. والأصل كسرها لأنّ حتى في هذا الموضع حرف استئناف لا حرف جرّ كي تفتح همزة (أنّ) بعده فيؤول بمفرد. وقوله في ص57: ولا يصلّي جماعة ولا إمام. والأصل: إماما. ومنها قوله ص70: أمّا إذا شاهد راع أغنام… الأصل راعي أغنام. وقوله في الصفحة نفسها: بأذنينها.. والأصل بأذنيها. تحذف النون للإضافة. وقوله ص85: صار يلامس الحجارة البيضاء على وجهه. والأصل: يمسح بالحجارة على وجهه، أو يلامس الحجارة بوجهه. وقوله ص89: نهاية لأسماءهم. والأصل: لأسمائهم. وقوله ص91: استغرق العمل عدّة أيام. الأصل: أيّام عدّة. وقوله ص114: يصحجون. والأصل: يسحجون. وقوله ص132: يرسلون أبنائهم. الأصل: أبناءهم. والحقّ أنّها أخطاء قد تقع ولا تقلّل من القيمة الفنّيّة والأدبيّة للرّواية. ولكنّها تستغرب من صاحب الرّواية التاسعة.
وفي الختام نقول: إنّ هذه الرّواية على قدر كبير من الفنّيّة والأهمّيّة. وبخاصّة لكلّ من ينتمي لهذه البلاد المنكوبة. فهناك أكثر من خمسمائة قرية ومدينة هجّرت من فلسطين، لا بدّ من معرفتها بتفاصيلها الجغرافية والتاريخيّة والسكانيّة والاقتصاديّة ومعرفة مهاجر أهلها؛ كي لا ننسى. والشكر موصول للكاتب.
وقالت هدى عثمان أبو غوش:
روايّة “تايه”هي سرد قصصي حكائي تعتمد على وصف المكان،وتوّثق الحياة الإجتماعيّة في القرية المهجّرة قبل النكبة من خلال شخصيّة تايه، فيختار الكاتب قريته بيت نبالا ،ليبوح لنا الرّاوي بأسرارها.
ينتقل الرّاوي إلى عدة مشاهد، فينهل القارئ معلومات عن عادات القريّة والقرى المحيطة بها بيت اللو، دير عمّار، والمغارة القريبة من بيت نبالا التّي تسكنها أُمّ تايه مع ابنها، يأخذنا إلى الأعراس والغناء، إلى صناعة الطابون، وكوانين النّار،أحاديث النّساء وأقاويلهم، والإشاعات، إلى السّوق والمقاهي، ونشمّ رائحة الخبز والمعجنّات، ينتقل بنا لمشاهد صمود القريّة في زمن الإنتداب. ويبيّن أهميّة دور المرأة في المجتمع القروي ،من خلال شخصيّة أُم تايه التّي تتقن فن فلاحة الأرض، زراعتها والإعتناء بها، وبيع الخضروات.
يصور لنا أيضا العيون، عين البلد، عين الشخريق القوس، عيون مارون والوادي.
استخدم الكاتب مفردات لها علاقة بالأرض مثل الجدادّة، الغلّة، حصير، الخلّة، سلسلة.
ومع ذلك فإنّنا من خلال هذا السّرد، نفتقد لوجود الصراع في الرّوايّة، الصراع بين الشخصيّات، فالرّوايّة خالية من الحوار، والحدث الرّئيسي الذّي يجعلنا نترقب ونتوقع ماذا بعد، والرّاوي ينطق باسم الشخصيّات يجعلنا نتخيلها ويبعدنا من ملامسة أحاسيسها من خلال نبرات صوتها، أمّا شخصيّة تايه فهي تشدّ القارئ، وتحمل عنوان الرّوايّة، ويتكرّر اسمه طوال السرد، وتايه اسم غريب، فلا أحد يطلق على أبنائه هكذا إسم، لكن الكاتب اختاره ليحمل رموزا متعددّة، فربما يكون “تايه” شاهدا على النكبة وميلادها، فأصبح تائها بين الواقع المرّ الذّي فرضته الحرب وبين الحنين إلى الماضي، وهو رمز لبدايّة نموّ طفولة معاناة الفلسطينيّ، و”تايه” هو الذّي فقد معنى الفصول(الصّيف والشّتاء) والأمان، فأصبح يستتر في معطفه، وهنا إشارة إلى الضياع والحرمان الذّي يعانيه الفلسطيني بعيدا عن بيته ،غريبا في وطنه ،يبحث عن وطنه.
يكرّر تايه عبارة “يهود عرب تقاتلوا”التّي يجهل تحليلها، فمرة يقولها كمعلومة، وأُخرى كخبر، ومرة لمعرفة السّبب أو للتعجب، ويحتار القارئ في تحليل هذه العبارة المهمة، ليجدها تسكنه فهو يحياها، فالعبارة هي الصراع الذي لا ينتهي بين العرب واليهود في حروبهم، وفي التّكرار الكثير إشارة وصرخة إلى متى سيستمر الصراع؟ ومن سيوقفه؟
وقالت رفيقة عثمان:
قسّم الكاتب الرواية إلى خمسة أجزاء، تميّزها السيرة الذاتيّة والسّيرة الجمعيّة للذاكرة الفلسطينيّة.
نسج الكاتب رواية واقعيّة للذاكرة الفلسطينيّة، عكست حياة فئة من الشعب الفلسطيني الذين عاشوا في قرية بيت نبالا، المحاذية لمدينة الرّملة، في فترة نهاية الحكم الانتداب الإنجاليزي، وبداية احتلال إسرائيل.
سرد الكاتب روايته حول الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة القاسية، لحياة الفلسطينيين الذين هجّروا من ديارهم، خاصّة من بيت نبالا والقرى المجاورة في تلك الحقبة الزمنيّة.
تخلّل السرد وصفا دقيقا للحياة البدائيّة التي عاشها أهالي القرى، من وصف المأكل والشراب، والعمل، ومشاركة المرأة، ومحاولات المقاومة ضد الاحتلال.
اختار الكاتب شخصيّة محوريّة؛ لسرد الرواية، وهي شخصيّة ” تايه ” التي سمّى الكاتب عنوان الرواية نسبة لهذا البطل.
يبدو لي أن وصف الكاتب للفتى التائه داخل النص هو أقرب للأبله كما تُستعمل هذه الكنية بالعاميّة، ونعته الكاتب صفحة 149، بكنية “المهدوَل”: أي مرتخي الأطراف والجسد. أقواله وأفعاله لا تدل على الوعي؛ كما ذكر صفحة 64 : ” ليس هناك توافق بين عقله وجسده”. كان تايه يُكرّر عبارة ” عرب يهود يتقاتلون “. هذه الشخصيّة كانت محط سخرية القرية من قِبل المحيطين به من أبناء ونساء القرية؛ خاصّة الفتى صلاح، كذلك عندما هدّدته امرأة بسخرية قائلة: ” إن لم تبتعد سأتزوّجك لا على سنّة الله ولا رسوله” صفحة 80. .. ربّي أعطني القوّة، وسأفعل ما تشاء”.
ركّز الكاتب معظم سرده للأحداث حول شخصيّة ” تايه”، وكرّر اسمه مرارا وتكرارا لوصف الأحداث من خلاله؛ خلال سرد الرواية، لم تُضف شخصيّة التائه للرواية كثيرا، سواء من التشويق أو أهميّة الأحداث؛ في مثل هذا السرد تكون مفاجأة للقارئ، حول ما تخفيه شخصيّة تايه؛ إلا أنه بالنهاية أظهر الكاتب صحوة التايه بعد إصابته بطلقة رصاص برجله كما ورد صفحة: 154، ” أفاق تايه من غفوته الطويلة التي استمرّت حوالي عقدين” ؛ وكتب الكاتب على لسان أمّ تايه “سمعت صوتا ملائكيّا بصوت تايه مخاطبا ربّه: ربّي لم ـأتسبب في جوع أحد.. لم أقسُ على أحد.. ما قتلت أحدا.. ما غدرت ….. كما سلّمتني استلمتني . فأنت الغفور وإليك أنيب. ربي اعطني القوّة وسأفعل ما تشاء”.
استحضرتني رواية ” الأبله” للكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي، التي اختار بها شخصيّة الأمير مشكين ( الأبله) الذي يتصرّف بشكل عفوي بعيدا عن التكلّف والتملّق، شخصيّه تتّصف بالبراءة، واللطف، والأخلاق الرفيعة، والصدق، والوضوح والعطف، ومحبّتة للناس؛ عاش في مجتمع فاسد وبوجود شخصيات فاسدة؛ وخلاصة الرواية تشير بأن الأبله ليس بالأبله، بل المجتمع الذي يحيط به هو الأبله، وليس كما وُصف، وكما يبدو بأنه هو الشخص الوحيد الذي يتعامل بصدق مع المجتمع.
من هذه المقارنة بين الروايتين، توقّعت أن تُمثّل شخصيّة ” تايه” شخصيّة رمزيّة توحي بشخصيّة الفلسطيني المُهجّر والمعتدى عليه على الرغم من طيبة قلبه وتعاونه إلأ أنه منتهك الحقوق؛ بل المحيطون به هم الماكرون والمُعتدون. وهنا اللجوء الى الله يمنحهم القوّة والفرصة الجديدة والعودة للحياة من جديد.
لا بدّ بأن الكاتب استخدم أسلوبا فنيّا بتناول الشخصيّة المُتخيّلة ” التايه”؛ للتوظيف الدلالي والرمزي للتعبير النقدي عن واقع اجتماعي سائد، ورغب الراوي في تغييره بشكل مغاير بالاتجاه الصحيح. وتعتبر هذه الشخصيّة التائهة ملاذا للتعبير عمّا يعجز الإنسان السّويّ بالتعبير عنه من نقد لاذع، والتعبير عن الأحاسيس العميقة والمدفونة بطريقة عفوية وبريئة.
عرض علينا الكاتب نماذج من الأغاني الشعبيّة الفلسطينيّة، والتي تغنّت بها النساء في الأعراس والمناسبات، كما ورد صفحة 118: ” جين النباليات بثياب الحبر، ورجالهن قدامهن لابسين وزر، جين النباليات هيلة بهيلة، زي الغزلان الواردة على العين، واحنا النباليات ما فينا دنس، ونطيح الخيّال عن ظهر الفرس، ونطيّح الخيّال ونركب مطرحه، واللي يعادينا بالسيف نطرحه.”
كذلك صفحة 119: ” يا عريس عليك اسم الله، جبنالك غزال محنّى… يا امّ الثوب طرّزتيه، حطيتي البلاوي فيه.. طرّزتيه طبّة طبّة، تلبسيه وتظلي جنبي.”.
في الرواية، أشاد الكاتب بقدرة المرأة الفلسطينيّة، كما ورد صفحة 78: ” أمّ تايه لا تكلّ ولا تملّ، فهي نشيطة كثيرة الحركة صيفا وشتاء؛ وكذلك عملت المرأة بجانب الرجل بنقل القفف المليئة بالزلط على رأسها، وإلقاء ما فيها الى حلق الكسّارة؛ كما ود صفحة 83. بالإضافة لعملهن في عمل الطين الحوّر؛ لصناعة الطوابين، وكوانين النار، والخوابي، وصناعات كثيرة لخدمة البيت” صفحة 41.
استخدم الكاتب اللغة الفصحى، وأضاف مفردات من العاميّة، والتي استُخدمت بالبلدة وضواحيها مثل: الزلط – المَسكنة – القَصْوَل – الرظف – انسدح – مات خصّك – يعط -.
وردت بعض الأخطاء اللغويّة في الرواية، التي من الممكن تفاديها.
أسلوب السرد في الرواية، ظهر الاستطراد في الوصف، وتحميل السّرد أكثر ممّا يلزم، لم تظهر الحبكة في السّرد الأدبي.
خلاصة القول: رواية ” تايه” رواية واقعيّة، لسيرة ذاتيّة وجمعيّة، لمكان معروف في بيت نبالا؛ اشتملت الرواية على وصف دقيق ووافٍ للحياة الاجتماعيّة والسياسيّة في حقبة زمنيّة معيّنة، وهي تتشابه مع باقي القرى الفلسطينيّة المُهجّرة التي تحيط بقرية بيت نبالا مثل: دير قديس – وشقبة – ونعلين – وغيرها.
تطرّق الكاتب لتفاصيل الحياة الاجتماعية من حيث العادات والتقاليد، والعلاقات الإنسانيّة والعمل، وكيفيّة المعيشة اليوميّة، اللهجة والملبس وعادات الأعراس ، وعمل النساء؛ بالإضافة للإنتهاكات التهجير القسري من البيوت في قراهم.
رواية ” تايه” رواية تستحق القراءة، وتؤرّخ سيرة جمعيّة، ومن المفضّل أرشفتها، وعرضها في مكتبات المدارس.
وكتب عبدالله دعيس:
يلتقط الكاتب صافي صافي شذرات من حكايات الرّيف الفلسطيني، ويصوغها في سرديّة تحكي آلام النّكبة، وتحاكي حياة النّاس في فترة اتّسمت بالضّياع، وكأنّ هذه الحكايات ستضيع هي الأخرى كما ضاعت قرى وبلدات ومدن: بقصص أهلها وحكايات طوابينها وحواكيرها وعجائزها؛ فلم تطل جرّافات الغازي ومتفجّراته البنيان فحسب، بل هدمت ثقافة وحضارة امتدّت آلاف السنين، ولم تفرغ الأرض من ساكنيها، حتّى أفرغتها من تراث كانت تنطق به كلّ صخرة، وكلّ جبل، وكلّ وادي، وكلّ شجرة. فلم تكن النكبة مجرّد خسارة الشعب الفلسطينيّ لأرضه، وإنما خسارة الإنسان، أينما كان، لإرثه الإنسانيّ، ولجذوره الحضارية التي امتدّت في هذه الأرض.
وإذ يدرك الكاتب حجم الخسارة، يحاول أن يمسك بأطراف الحكايات ويجرّها إليه ليبقيها في الذاكرة، فنراه يحرص على المفردات العربيّة العريقة التي استخدمها أهالي القرى، وكأنّه يخشى عليها أن تذهب طيّ النسيان، أو تفقد روحها بين دفّتي معجم منسيّ. ويذكر الأماكن بأسمائها الشعبيّة التي تحكي كلّ شيء عنها، وكأنّه يُثبت ما مُسح من الخريطة، في صفحات كتابه وفي ذاكرة قرّائه.
تايه، الشخصيّة الرئيسيّة في الرّواية، يتكرّر اسمه في كلّ سطر وفي بداية كلّ جملة بطريقة ملفتة ومبالغ بها. تايه شخص ذو ذاكرة قصيرة، وقدرات بدنيّة متواضعة، رغم ضخامة جسمه وقوّته. يشعر القارئ أنّ تايه فاقد الإحساس بما يدور حوله، يسير على غير هدى، ولا يدرك حجم الخيبة التي أصابته لمّا هُجّر من قريته، يكرّر كلمات جوفاء (عرب ويهود تقاتلوا) دون أن يمتلك الوعي؛ لينفض غبار الهزيمة عن نفسه، ويرنو للعودة إلى قريته. فهل تايه هذا، يمثّل الإنسان العربيّ، الذي ما زال تائها في صحارى الجهل والهزيمة، لا يفهم ما يحيط به ولا يسلك جادّة الصواب؟ أم أنّ الإنسان العربي هو صلاح اللاهي، الذي يهدر وقته في التّرهات ولا ينتج، ولا يتطلّع للحريّة، رغم أنّه يرى بلدته من بعيد، وتحول بينهما قيود العدو. أم ربما مجدي: محدود التأثير، غائب عن ساحة المعركة، يظهر فجأة كحركة انفعاليّة ثم يختفي دون أن يكون لفعله تأثير يذكر. أما أمّ تايه فتبدو قويّة، استطاعت أن تبني لها بيتا في مغارة قديمة، لا تأبه أن يمرّ السابلة فوق سقفها، فهل اكتفت بمغارتها تلك، عن بيتها وتاريخها في قريتها، أم أنّ المغارة تعيدها إلى جذورها؟
يمتدّ زمن الرواية من السنوات التي سبقت النكبة عام 1948 إلى حرب عام 1967، ولا نلحظ تغيّرا خلال تلك السنين، فأسباب الهزيمة بقيت قائمة، وقادت إلى هزائم أخرى أشدّ وأنكى. ولا يلتزم الكاتب السرد الزمنيّ، فنراه يتنقّل بين السنوات وكأنه يريد أن يقول أن السنين لم تغيّر من الواقع شيئا. لكن هذا التنقل كان مربكا للقارئ الذي لا يستطيع بسببه أن يرسم صورا واضحة للشخصيات التي تشيخ، ثمّ تعود إلى الشباب ثمّ إلى الطفولة! في حبكة روائيّة مرتبكة بعض الشيء، فهي كالبناء المشيّد بحجارة عتيقة، يضمّ في فنائه النفائس، لكنّه يخلو من الصنعة التي تزيّن جدرانه، والأعمدة التي تثبّت أركانه.
هل ما زال العربيّ تائها، يستسيغ العبوديّة ولا يسلك طريق الحريّة؟ لم يعد تايه إلى بيت نبالا، ولن ينال العرب حريّة دون فلسطين، ولن تعود فلسطين دون أن ينفض العرب غبار الجهل والذلّ والخنوع، وستبقى أمّ تايه في تلك المغارة النائية، وسيبقى تايه يهيم على وجهه، ولن يفيق من غفوته، ولن يقف في محكمة الأموات، ليقول: “لم أبع أرضا، لم أتعامل مع عدو.”
وكتب سامي قرّة:
يُعتبر الأدب أحد أهم الأدوات للحفاظ على الهوية الوطنية والإرث الاجتماعي والثقافي والجغرافي من الاندثار، خاصة في الدول التي عانت من الاستعمار مثل الكثير من الدول العربية والأفريقية، والدول التي ما تزال تعاني من الاستعمار مثل فلسطين. ويلجأ المؤلفون إلى القصص والشعر من أجل توثيق حقبة تاريخية مؤلمة، مرت بها بلادهم وجعلها تتخبط سياسيا واقتصاديا وتعاني صراعات وأزمات كثيرة. ويعتمد أدب ما بعد الاستعمار على الذاكرة وعلى ربط الماضي بالحاضر، وفي مثل هذا النوع من الأدب دعوة للنظر إلى الماضي واكتشافه وتفسيره من وجهة نظر معاصرة غالبا ما تتسم بالحنين إلى الماضي والإنتماء له.
تمثل رواية تايه مثالا جيدا لأدب ما بعد الاستعمار، وهي تتأرجح بين الزمن الحاضر، وهو زمن الاحتلال واللجوء والتشريد والمقاومة في قرية بيت اللو، والزمن الماضي وهو زمن الاستقرار والبساطة والانتماء إلى الأرض في بيت نبالا وغيرها من القرى، هو زمن البراءة التي عاشها تايه في طفولته. وينعكس هذا التأرجح بين الماضي والحاضر في استخدام الكاتب صيغتي المضارع والماضي في روايته، فيرد سرد الأحداث في بيت اللو في صيغة المضارع على عكس الأحداث في بيت نبالا التي يرد سردها في صيغة الماضي. كما ينعكس التأرجح بين الماضي والحاضر في خلط الكاتب بين الأسلوب الروائي الخيالي والأسلوب التقريري التاريخي، ففي الأخير مثلا يستخدم صيغة الماضي ويقدّم تواريخ لبعض الأحداث ممّا يُكسب الرواية طابعًا توثيقيا واقعيا. فهو يكتب تاريخه وتاريخ شعبه الذي هو جزء منه، وكتابة التاريخ كما هو وليس كما تعيد كتابته قوى الاستعمار هو جزء من واجب الإنسانية، التي يصفها إدوارد سعيد على أنها القوة الوحيدة التي يمكن عن طريقها مقاومة الممارسات اللاإنسانية والظلم الذي يشوّه تاريخ البشرية، وفي حالتنا نحن التاريخ الفلسطيني.
لا يقتصر الصراع في الرواية على الزمن، بل يشمل أيضا الجغرافيا أو المكان، ويشكل المكان الأساس الذي تستند إليه ذاكرة المؤلف. فالكاتب ينحدر أصلا من بيت نبالا، لكنه يعيش في قرية بيت اللو. وعلى الرغم من أنه لم يعش في بيت نبالا إلا أن ما يكتبه عنها في روايته لا يدل فقط على حنينه إلى قرية أجداده، بل أيضا على اعتزازه بها وباسمها. فهو مثل مجدي في نهاية الرواية الذي يرى في أهمية قرية بيت نبالا “أكثر مما يعرفه الناس، فهو يبحث عن كل صغيرة وكبيرة، ليرسمها ضمن خارطة العالم” (ص 144). لكن لا تشكل قرية بيت نبالا وحدها مسرح الأحداث، وتحتوي الرواية على أسماء أماكن كثيرة من قرى ووديان وجبال وحارات، وهي ليس محض خيال بل أماكن تاريخية حقيقية يحاول الكاتب إحياءها من جديد، ولذلك فهو لم يلجأ إلى الخيال فقط، بل لجأ أيضا إلى القراءة والبحث في التاريخ الثقافي والمكان، فكان مخلصا للحقائق والوقائع. يقول الكاتب صافي في حفل إطلاق الرواية في جامعة بيرزيت في 21 تموز 2019: ” استغرقني هذا العمل خمس سنوات، بين القراءة والبحث في التاريخ الثقافي والمكان، وليس بالضرورة أن يحمل المكان كمسرح للأحداث نفس الرواية، فالحكاية تتعدد وإن كان المكان واحدا”.
وفي وسط هذا المكان يضع الكاتب شخصية كوميدية بسيطة مضطربة مذهولة تحمل في ثناياها الكثير من المعاني والدلالات. فعدا عن كونها أنها تمثل الشعب الفلسطيني التائه في كافة بقاع العالم، فإنها تمثل حالة الإغتراب في أقسى معانيه: الإغتراب النفسي عن هذا العالم الذي يكاد يصل إلى حد الجنون، والاغتراب المكاني والضياع وفقدان الجذور أو بكلمة أخرى المنفى. تايه اختراع فريد من نوعه، لأنه لا يفهم نفسه ولا يعرف ماذا يريد ولا يفهمه العالم من حوله كما أنه لا يفهم العالم. وكما يصفه الكاتب: “هو شاب يعيش لحظته. لا نعرف إن كان فكر في الماضي، وأي ماض يعرفه! ربما يفكر في شيء، هو يرى ما يشاهده الآن، ويضحك، يبتسم، يبكي، يحزن، يغضب، ولا يُدرى مدى إعماله للعقل” (ص 66). لا يستطيع تايه السيطرة على انفعالاته، ويقضي معظم وقته وحيدا، يذهب إلى العين وحيدا، ويسير في الواد وحيدا، ويستهزئ به الآخرون. يحاول إيجاد مكانه في الحياة لكنه لا ينجح. هو مثال حيّ للشعب الفلسطيني والأمة العربية، فكل منهما يحاول التأقلم مع العالم المعاصر لكنهما يجدان صعوبة كبيرة في التأقلم، إمّا لفشلهما في قراءة دورهما وقراءة العالم من حولهما، أو بسبب عيوب متأصلة في كيانهما.
لكن تدعو شخصية تايه إلى الأسى والحزن والشفقة، فالاغتراب النفسي والمكاني تجربة قاسية جدا، ويشكل مثل هذا النوع من الاغتراب صدع لا يمكن رأبه بين الفرد وذاته من ناحية، وبين الفرد والمكان من ناحية أخرى.
.