في زمنٍ يتسابق فيه العالم على إعادة تشكيل الخرائط وفق مصالحه، تأتي رواية جميل السلحوت “أنا من الديار المقدّسة” — الموجّهة للفتيات والفتيان — والصادرة عام ٢٠٢٠ عن مكتبة كل شيء في حيفا؛ لتضعنا أمام سؤال أكبر من أعمار أبطالها:
كيف نحافظ على هوية لا تُدرَّس، بل تُعاش؟
من خلال قصة طفلتين فلسطينيتين في مدرسة أمريكية، يكشف جميل السلحوت، ببساطته العميقة، كيف يمكن لصوت صغير أن يخلخل يقين معلمةٍ كبرت على رواية واحدة، وكيف تستطيع طفلة أن تُعيد تعريف وطنٍ كامل بكلمة: “أنا من فلسطين.”
أدب موجّه للفتيان… لكنه يوقظ ذاكرة الكبار
على الرغم من أن الرواية مُعدّة للفتيان والفتيات، فإنها تتجاوز تقليديّة أدب اليافعين.
هي ليست مجرد قصة تعليمية أو وعظية، بل نصّ اجتماعي وسياسي مبطّن بطفولة واعية، يطرح أسئلة حول التمثيل، والهوية، وحق الشعوب في سرد تاريخها.
الطفل هنا ليس متلقّيا ساذجا، بل فاعل وصاحب موقف، يواجه خطابا جاهزا ومصقولا بإعلام عالمي، ليقدّم رواية مُشوَّهة عن فلسطين.
بين الصف المدرسي… وخرائط القلب
تبدأ الرواية بفصلٍ أمريكي حيث يطلب من التلاميذ التعريف بأصولهم.
حين تقول لينا إنها من فلسطين، تنهار أمام هذا الإعلان بساطة السؤال وتنكشف الفجوة التي يعيشها الغرب بين ما يُدرَّس وما هو حقيقي.
المعلمة، التي يفترض أنها تعرف “العالم”، لا تعرف فلسطين.
بل الأكثر فداحة: تعرف الرواية الصهيونية كحقيقة، والرواية الفلسطينية كغياب.
وهذا هو قلب الرواية:
الطفلُ يكشف الجهل المُمأسس، وكأن الفلسطيني وُجد ليذكّر العالم باسمه كلما حاول هذا العالم طمس الحروف.
القدس… حاضرة بصلواتها وغيابها وجرحها
حين تتحدث لينا ولميس عن القدس وبيت لحم، لا تفعلان ذلك كمدينة بعيدة، بل كقطعة من الذاكرة الحيّة:
كنائس، مساجد، أسوار، أحياء، جدّات ينتظرن العودة، وذكريات لا تحتاج إلى خرائط.
فلسطين في الرواية ليست “قضية”، بل بيت.
والقدس ليست “جغرافيا نزاع”، بل مدينة تُصلّي بلغتين وتبكي بلغات العالم كلّه.
هذا الحضور الروحي للمدينة يذكّر القارئ بأن الطفل الفلسطيني لا يتعلم هويته من كتاب، بل من إرثٍ يتسرّب في دمه.
من الإنكار إلى الاعتراف
تبلغ الرواية ذروتها في لحظة التحوّل:
حين تُراجع مديرة المدرسة والمعلمة قناعاتهما عبر قراءة كتاب “قضية فلسطين” لإدوارد سعيد وكتاب “تغطية الإسلام”.
هنا لا يصبح الطفل معلّما فقط، بل مرآة تكسرت أمامها روايات مُعلَّبة عمرها عقود. هذا التحوّل لا يُقدَّم كدرس أخلاقي، بل كتجربة إنسانية:
حقيقةٌ تُنكرها الكتب الرسمية، لكن تؤكدها زيارة واحدة إلى القدس، حيث تختلط الأزقة بالذاكرة، والهواء بالتاريخ.
الرواية تقول ببساطة: من يزور القدس، لا يمكن أن يُكمل حياته بالجهل نفسه.
من أمريكا إلى القدس… ومن الرواية إلى الحقيقة
ترافق الرواية المعلمة ومديرة المدرسة في رحلتهما إلى القدس، وهناك يتبدد كل ما لقّنته المناهج الأمريكية.
تشاهدان السور، وكنيسة القيامة، والمسجد الأقصى، وحارة المغاربة التي هُدّمت، وتشاهدان الجنود الذين يقفون على أبواب المدينة كما لو كانوا يحرسون الجهل قبل أن يحرسوا المكان.
الرحلة — على بساطتها — تفتح شقّا داخل وعيهما، كأنّهما تكتشفان أن الخرائط ليست ألوانا على الورق، بل سكانا، وأرضا، وذاكرة لا تشيخ.
لماذا تصلح هذه الرواية اليوم… أكثر من أي وقت؟
لأنها تضع فلسطين في يد الأطفال لا في أفواه السياسيين.
وتكشف أن الوعي الحقيقي لا يحتاج إلى منصّات، بل إلى ذاكرة صادقة، وطفل يقول الحقيقة دون خوف، وأهل يعرفون أن الهويّة لا تُورّث بالقانون، بل بالمحبة والربط الحيّ بالجذور.
الرواية درس كبير في زمنٍ يُراد لنا فيه أن ننسى.
وتذكيرٌ بأنّ الطفل الفلسطيني — حتى في المنافي — يحمل مفتاحين: مفتاح البيت… ومفتاح الرواية الحقيقية.
خاتمة
“أنا من الديار المقدّسة” ليست فقط رواية للفتيان والفتيات، بل وثيقة صغيرة تُعيد ترتيب العالم من جديد.
تقول لنا إن الحقيقة لا تحتاج إلى القوة، بل إلى صوتٍ يعرف اسمه.
وأنّ فلسطين، مهما ابتعدت، تعود في كلمة، وفي ذاكرة صغيرة تقف في وجه خرائط كبيرة.
25-11-2025










