يحيي الشعب الفلسطيني هذه الأيام ذكرى النكبة الكبرى التي تمخضت عن إعلان قيام دولة اسرائيل في 15 أيار 1948 على 78% من مساحة فلسطين التاريخية، وتشريد ثلثي الشعب الفلسطيني في أصقاع الأرض، واسرائيل تعتبر هذا الحدث استقلالا لها، تحتفل بذكراه كل عام حسب التقويم العبري…وإذا كان الشعب الفلسطيني لم يتنازل عن أملاكه وحقوقه في أرضه التي اغتصبوها بقوة السلاح، ولا يزال وسيبقى يطالب بحق العودة اليها، بالرغم من آلة البطش العسكري التي بقيت تلاحقه منذ ذلك التاريخ، والتي حصدت أرواح مئات الآلاف من أبنائه، فإن اسرائيل التي احتلت ما تبقى من فلسطين في حرب حزيران 1967 لم توقف أطماعها التوسعية يوما، وهذه الأطماع تتعدى حدود فلسطين التاريخية، معتمدة على قوتها العسكرية الهائلة والتي تتفوق على القدرات العسكرية لدول المنطقة مجتمعة، وعلى الدعم اللامحدود من قوى كبرى وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، التي ترى مصالحها مؤمنة في المنطقة من خلال الحفاظ على اسرائيل قوية، ومنع العرب من بناء أيّ قوة تستطيع مواجهتها…وهذا أدى باسرائيل الى أن تدير ظهرها للقانون الدولي ولقرارات الشرعية الدولية، ولاتفاقات جنيف الرابعة وللوائح حقوق الانسان، ويبدو أن الصراع سيستمر طويلا ما دام العرب لا يعملون على بناء قوتهم، ويعتمدون على وعود”الأصدقاء” الأمريكان بحلّ الصراع، وما دامت اسرائيل غير معنية بتحقيق السلام الدائم والعادل، معتمدة على تحقيق أهدافها بالقوة العسكرية المتزايدة.لكن الواقع يثبت أن الفلسطينيين لم يستطيعوا تحقيق حلمهم بالعودة، ولم يستطيعوا تحقيق حلمهم في تقرير مصيرهم وإقامة دولتهم المستقلة على أراضيهم التي احتلت في حرب العام 1967 وفي مقدمتها القدس العربية، وفي المقابل هل حقق الاسرائيليون “استقلالهم”؟ وهل يعمل قادة اسرائيل على حماية دولتهم وشعبهم؟ وهل عملوا حقا على تحقيق الأمن الذي يطالبون به ليل نهار؟ وهل تعلموا من التاريخ الذي مروا به؟ وفي الواقع فإن سياسة الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة هي من تجلب الويلات لدولتهم ولشعبهم تماما مثلما تجلبها لدول ولشعوب المنطقة، فهي لم تتوقف عن سياساتها التوسعية والعدوانية والتي تتمثل في الاستيطان، وامتهان كرامة وحقوق الفلسطينيين الانسانية، فهي تصادر الأرض وتقمع وتقتل وتعتقل، وكأنها فوق القانون، ويساعدها في ذلك حلفاؤها وفي مقدمتهم أمريكا التي تستعمل حق النقض”الفيتو” لمنع صدور أي قرار يدين الممارسات الاسرائيلية المخالفة للقانون الدولي ولقرارات الشرعية الدولية، والممارسات الاسرائيلية هي المحرض الأول والرئيس للفلسطينيين ولغيرهم لمقاومة هذه الممارسات، فالدول العربية والاسلامية وبقية دول العالم تعترف بدولة اسرائيل في حدود الرابع من حزيران 1967، وهي حدود تصل الى 150% من الأراضي التي منحها إيّاها قرار التقسيم -181- الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29 نوفمبر 1947، لكن اسرائيل لا تزال تواصل استيطانها في الضفة الغربية وجوهرتها القدس، مما يعني عملها الدؤوب لفرض سياسة الأمر الواقع ومنع قيام الدولة الفلسطينية، والتنكر لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره كبقية شعوب الأرض، ومما يعني أيضا تهديد أمن دول وشعوب المنطقة بما فيها أمن اسرائيل وشعبها. واسرائيل التي تمتلك السلاح النووي، وترى فيه سلاحها الأخير للدفاع عن وجودها، يبدو أن قادتها لا يدركون هم وحلفاؤهم حتى الآن أن هذا السلاح إذا ما استعمل، فقد يكون فيه نهايتها ونهاية شعبها تماما مثلما هو نهاية لدول وشعوب المنطقة، وهذا يعني تهديدا للسلم العالمي لأن نتائجه الوخيمة قد تتعدى حدود الشرق الأوسط.وبعد مرور 64 عاما على نكبة الفلسطينيين و”استقلال اسرائيل” فإن الصراع يزداد شراسة وخطورة، والسبب هو الفكر الصهيوني القائم على التوسع، والمتمترس خلف فكر ديني غيبي، والذي يتناسى أنه يواجه فكرا دينيا معاكسا، فإذا كانت الصهيونية تؤمن بالوعد الإلهي في “أرض اسرائيل الكاملة”، فإنه يواجهها الفكر الديني الاسلامي الذي يعتبر فلسطين التاريخية أرض وقف اسلامي، مما يغيب أي حلول وسط تحقن دماء شعوب المنطقة.واللافت أنه كلما ظهرت أصوات عقلانية بين الفلسطينيين والعرب، كلما قابلتها اسرائيل بأصوات التطرف اليميني الذي يوغل في أطماعه التوسعية، والذي يرفض أن تكون اسرائيل وشعبها جزءا من دول وشعوب المنطقة، بل يرون في أنفسهم امتدادا للغرب الاستعماري.واسرائيل التي تراهن على استسلام الشعب الفلسطيني قد لا تستوعب مثلا العبر من حرب الأمعاء الخاوية التي يخوضها أسرى الحرية، باذلين أرواحهم دفاعا عن كرامتهم وإنسانيتهم التي يستبيحها قادة اسرائيل، ولا سلاح لهؤلاء الأسرى سوى إرادتهم القوية وعشقهم لحريتهم وإنسانيتهم.12 أيار 2012