تابعت في اليومين الماضيين الضّجّة التي أثيرت حول ترجمة رواية د. عاطف أبو سيف وزير الثّقافة الفلسطينيّة ” مشاة لا يعبرون الطّريق” إلى العبريّة، وهناك من كال الاتّهمات التي تصل درجة التّخوين لصاحب الرّواية، بحجّة أنّ هكذا ترجمة تدخل في نطاق التّطبيع الثّقافيّ مع المحتل، وواصل البعض هجومهم على صاحب الرّواية حتّى بعد نفيه ونفي دار الأهليّة للنّشر والتّوزيع بمعرفتهما بالتّرجمة، أو توقيع أيّ منهما على عقد للتّرجمة مع دار النّشر الإسرائيليّة، وأنّهما اطلعا على خبر التّرجمة عندما نشر في بعض الصّحف والمواقع الإلكترونيّة.
وأنا هنا لن أدافع عن الدّكتور أبو سيف ولا عن غيره، تماما مثلما لا أتّهم أحدا ممّن نشروا معارضين أو مؤيّدين، وإنّما أطرح رأيي بحياديّة تامّة.
قبل الخوض في هذا الموضوع وكي لا نتوه بين “التّطبيع والتّضبيع” دعونا نتوقّف قليلا عند مفهوم التّطبيع، فالتّطبيع مأخوذ من الطبيعة، وطبيعة الأشياء هي سجيّتها، وما فُطرت عليه، فهل يُمكن أن تكون علاقات طبيعيّة بين الجلّاد والضّحيّة؟ أو بين المحتّل والواقع تحت الاحتلال؟ أو بين القامع والمقموع؟ وهل هناك تفريق بين العلاقات الطّبيعيّة وبين العلاقات التي تمليها الضّرورة القصوى؟
وهل عداؤنا مع اليهود كيهود، أم مع الحركة الصّهيونيّة كحركة استعماريّة تحتلّ وطننا، تستوطن أرضنا، تقتل أبناءنا، تمتهن كرامتنا، تستبيح مقدّساتنا، وتمنع شعبنا من حقّه في تقرير المصير وإقامة دولتنا المستقلّة بعاصمتها القدس الشّريف؟ وكي نكون على بيّنة من الموقف الصّحيح، وبعيدا عن المزايدات دعونا نتساءل: هل نحن مع اليهود الاسرائيليّين الذين يرفضون الخدمة في جيش الاحتلال، لوقوفهم ضدّ الاحتلال أم لا؟ وهل نحن مع أو ضدّ أيّ انسان أو مؤسّسة أو دولة تقف مع قضيّتنا العادلة وحقوقنا المشروعة على تراب وطننا؟ وهل العمّال الفلسطينيّون الذين يعملون داخل اسرائيل وفي المستوطنات بحثا عن رغيف الخبز المرّ مطبّعون؟ وهل فلسطينيّو الأراضي المحتلة الذين يعبرون الجسور في الاتّجاهين ويخضعون للتّفتيش المهين مطبّعون؟ وهل المنتوجات الإسرائيليّة التي لا بدائل لها والموجودة في أسواقنا تطبيع؟ وهل؟…….وهل؟
وعودة إلى التّطبيع الثّقافي، ومنه التّرجمات من اللغة العربيّة إلى العبريّة وبالعكس، كلّنا يعرف أنّ هناك ترجمات يوميّة من الصّحف العبريّة إلى العربيّة، والعكس صحيح أيضا، وهناك ترجمات بحوث ودراسات وكتب تمّت من العبريّة إلى العربيّة، ومنها كتاب بنيامين نتنياهو الذي ترجم عام 1994من الإنجليزيّة إلى العربيّة، كما تُرجمت إلى العبريّة أعمال أدبيّة لرموز ثقافيّة فلسطينيّة مثل الشّهيد غسّان كنفاني، إميل حبيبي، محمود درويش سلمان ناطور، سميح القاسم وغيرهم، ومن العرب تُرجمت روايات لنجيب محفوظ وأدونيس وغيرهما، فهل هذا يندرج تحتّ التّطبيع؟ وهل نتذكّر الضّجة التي أثيرت في اسرائيل عندما ترجموا قصيدة محمود درويش”عابرون في كلام عابر”؟
معروف أنّ الحركة الصّهيونيّة تملك طاحونة إعلام هائلة استطاعت من خلالها تضليل الرّأي العامّ العالميّ، فقلبت الحقائق وظهرت كضحيّة وأظهرت شعبنا وأمّتنا كإرهابيّين مع أنّ العكس هو الصّحيح، كما تقوم بتضليل شعبها لتظهرنا كقتلة ومجرمين وإرهابيّين ومعتدين، لتبقى أيديهم على الزناد جاهزة لقتلنا.
وإذا ما اتّفقنا بأنّ توقيع عقود مع مؤسّسات اسرائيليّة لترجمة أعمال أدبيّة إلى العبريّة، أمر مرفوض ويندرج تحت خانة التّطبيع، فهل التّرجمة مرفوضة كيفما كانت؟ وإذا ما خفنا أن لا تكون التّرجمة دقيقة، فما المانع من إيصال روايتنا ووجهة نظرنا إلى القرّاء الإسرائيليّين عن طريق مترجمين فلسطينيّين موثوقين يجيدون العبريّة وهم كثيرون؟ ألا يخدم هذا قضيّتنا؟ وهل يندرج هذا ضمن سياسة التّطبيع؟ و”إذا صرحت دار مكتوب التي شارك الكاتب المرحوم سلمان ناطور في تأسيسها، وفيها مترجمات فلسطينيات من الداخل موثوقات، د. راوية بربارة مثلا، بإعلان رفضها للاحتلال وللحركة الصهيونية، وفي الوقت ذاته تأييد الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني، فهل نرفض ذلك؟”
وإذا ما قامت مؤسّسة اسرائيليّة مؤتمنة بترجمة أعمال أدبيّة عربيّة دون إذن من الكاتب الفلسطيني بشكل خاصّ والعربيّ بشكل عامّ، فهل نملك القدرة لمنعها من ذلك؟ وأستغرب ممّن يطالبون برفع دعاوٍ على مؤسّسات ودور نشر إسرائيليّة قامت بترجمات إلى العبريّة دون إذن من كاتبها الفلسطينيّ أو العربيّ، فأمام أيّ محاكم سيرفعون قضيّتهم؟ وهل اللجوء إلى المحاكم الإسرائيليّة بهذا الخصوص تطبيع أم لا؟ والحديث يطول.
23-10-2022