فشل المشروع الأمريكي في الجمعيّة العموميّة للأمم المتّحدة لإدانة حركة المقاومة الاسلاميّة في غزّة له دلالات كبيرة، ويحمل في ثناياه أمورا يجب أن تستخلص الدّبلوماسيّة الفلسطينيّة بشكل خاصّ والعربيّة بشكل عامّ العبر منها. فأن يحصل المشروع على موافقة 87 دولة مقابل معارضة 57 دولة وامتناع 33 دولة عن التّصويت يجب التّوقّف عنده كثيرا.
وهذا المشروع بحدّ ذاته يؤكّد من جديد الانحياز الأمريكيّ الأعمى لإسرائيل، هذا الأنحياز المتصاعد بشكل علنيّ خصوصا في عهد الإدارة الأمريكيّة الحاليّة برئاسة ترامب، وهذا الانحياز ما كان ليستمرّ بهذه الطريقة التي تتجاهل القانون والأعراف الدّوليّة لولا التّخاذل العربيّ الرّسميّ المتواصل أمام الضّغوط الأمريكيّة، التي ترى مصالح أمريكا في المنطقة العربيّة مضمونة بالحفاظ على كراسي كنوزها الاستراتيجيّة، مصحوبة بالقوّة العسكريّةالاسرائيليّة التي تحفظ هذه المصالح، لكنّ القرار يحمل في طيّاته تبرئة الجلاد وإدانة الضّحيّة، وبشكل وآخر فإنه يعني إعطاء الاحتلال شرعيّة دوليّة مع إدانة أيّة مقاومة لهذا الاحتلال حتّى لو كانت مقاومة سلميّة.
لكنّ السّؤال الكبير الذي يطرح نفسه هو: كيف استطاعت أمريكا التي ما كانت تحصل في تأييدها لاسرائيل، أو معارضتها لقرارات تدين اسرائيل إلا على صوتها وصوت اسرائيل وصوت “امبراطورية ماكرونيزيا”. كيف استطاعت تجنيد هذا العدد الكبير من الدّول لتأييد مشروع قرارها؟ فالضّغوط الاقتصاديّة التي تمارسها أمريكا على الدّول النّامية كانت ولا تزال قائمة، فما الجديد الذي حصل؟
ودعونا نتذكّر أنّ الدّول الافريقيّة جميعها باستثناء النّظام العنصريّ الذي كان يحكم جنوب افريقيا، وكذلك فعلت دول عدم الانحياز في آسيا وأمريكا، قطعت علاقاتها مع اسرائيل في أعقاب حرب حزيران 1967 العدوانيّة، فما الجديد الذي تغيّر؟
ففي عهد زعيم الأمّة الرّئيس جمال عبدالناصر نشطت مصر في القارّة الافريقيّة وآسيا وأمريكا اللاتينيّة، وساعدت حركات التّحرّر فيها، وساعدتها اقتصاديّا وأمدّتها بالخبراء، واستطاعت استقطابها، وكانت مصر تتزعّم مع الهند ويوغوسلافيا واندونيسيا دول عدم الانحياز. وفي مرحلة ما بعد عبدالناصر تخلّت مصر عن دورها القياديّ في افريقيا ودول عدم الانحياز، بل إنّها تخلّت عن دورها القياديّ الإقليميّ، واستغلت اسرائيل هذا الفراغ الذي تركته مصر وقامت بإشغاله، حتّى أنّ المصالح المصريّة وفي مقدّمتها حصّتها المائيّة من مياه النّيل باتت مهدّدة بسبب السّدود المائيّة الإثيوبيّة ومنها سدّ النّهضة، في حين اكتفت دول البترول العربيّ بإرسال الدّعاة والوعّاظ لنشر الدّين الاسلامي وبناء المساجد في افريقيا.
وبعد استهداف المنطقة العربيّة من قبل أمريكا خاصّة بعد انهيار الاتّحاد السوفييتي ومجموعة الدّول الاشتراكيّة، وما تبع ذلك من احتلال العراق وتدميره وهدم دولته، وقتل وتشريد شعبه عام 2003، وتقسيم السّودان لاحقا، وإشعال ما سمّي بالرّبيع العربيّ، وما تبعه من حرب على لبنان عام 2006 واسقاط نظام القذّافي في ليبيا، وإشعال الحرب الطاحنة والظالمة في سوريّا عام 2011، ثمّ الحرب على المستضعفين في اليمن عام 2015، جرى تدجين النّظام العربيّ الرّسميّ بشكل عامّ، وما عادت دول عربيّة خصوصا دول البترول تعنى بشيء سوى الحفاظ على نظام الحكم القائم. ومن هنا تجرّأ الرّئيس الأمريكيّ على الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل في 6 ديسمبر 2017، وسبق ذلك تدجين النّظام العربيّ حسب مشيئة أمريكا، فاستبدلت المعادلة الشّرق أوسطيّة بتغيير التّحالفات لضمان تطبيق المشروع الأمريكيّ “الشّرق الأوسط الجديد” الذي أعلنت عام 2006 من وسط بيروت عنه كونداليزا رايس وزيرة خارجيّة أمريكا يومذاك، وتحالفت دول عربيّة مع اسرائيل، لمحاربة ايران التي تقوم أمريكا بشيطنتها لضمان أمن اسرائيل التي ترى حكومتها برئاسة نتنياهو أنّ هذا الأمن لا يتحقّق لها إلا بالتّوسّع على حساب الأراضي العربيّة المحتلّة، ومنع الشّعب الفلسطينيّ من حقّه في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلّة بعاصمتها القدس. وهذا يستدعي الهيمنة الاسرائيليّة العسكريّة على الشّرق الأوسط كاملا. ومن استمع لكلمة مندوب السّعوديّة في الجمعيّة العموميّة للأمم المتّحدة لن يحتاج إلى كثير من الذّكاء ليستنتج مدى التّغيير في السّياسة السّعودية تجاه القضيّة الفلسطينيّة، وأنّ التطبيع مع اسرائيل ومحاولة استرضائها يجري بتسارع كبير.
وممّا لا شكّ فيه أنّ النّظام العربيّ الرّسميّ ودوره السّلبي على السّاحة الدّوليّة هو المسؤول الأوّل عن تغيير مواقف الدّول التي صوتّت لجانب مشروع القرار الأمريكيّ. وهذا يشير أيضا إلى أنّ القادم أسوأ، وأنّ تصفية القضيّة الفلسطينيّة لصالح المشروع الصّهيونيّ التّوسّعيّ يجري على قدم وساق من خلال تطبيق صفقة القرن الأمريكيّة والتي يجري تطبيقها قبل الإعلان عنها.
8-12-2018