انتفاضة الشعب العراقيّ العظيم الحاليّة لا يمكن فصلها عن الحرب العراقيّة الإيرانيّة التي استمرت من سبتمبر 1980 حتى أغسطس 1988، وما تبعها في العام 1990 باحتلال العراق للكويت، ومن ثمّ الحرب على العراق بقيادة أمريكا في يناير 1991 لإخراج الجيش العراقي من الكويت، وما تبع ذلك من حصار على العراق حتّى مهاجمته واحتلاله وتدميره وقتل وتشريد شعبه، وهدم الدّولة العراقيّة في العام 2003. ولا يمكن القفز هنا عن الحكم الدكتاتوري الذي كان سائدا في العراق، والذي بدأ بالتصنيع المدني والعسكري والسّعي كي يكون العراق الدّولة الإقليميّة الأولى. وهذا أحد الأسباب التي أدّت إلى احتلال العراق بقيادة أمريكا.
لكن هذا الاحتلال تمخّض عن وضع دستور طائفيّ للعراق، وكان ذلك بداية البداية لتطبيق المشروع الأمريكيّ “الشرق الأوسط الجديد” الذي يسعى إلى إعادة تقسيم المنطقة إلى دويلات طائفيّة متناحرة، وتصفية القضيّة الفلسطينيّة لصالح المشروع الصّهيونيّ التّوسّعيّ الذي يتعدّى حدود فلسطين التّاريخيّة بكثير. ويجدر الانتباه إلى أنّ أنظمة عربيّة ساعدت ولا تزال في تطبيق المشروع الأمريكيّ، كما أنّ أمريكا ولترسيخ الطّائفيّة البغيضة استغلت الإسلام السّياسيّ لإثارة “الفوضى الخلاقة” تحت شعار “الديموقراطيّة وحقوق الإنسان في دول عربيّة أخرى مثل سوريا، لبنان، اليمن، البحرين وغيرها. ومن هنا ولدت تنظيمات إرهابية كالقاعدة وداعش وجبهة النّصرة وغيرها لتدمير بلدان مثل العراق وسوريا وليبيا والصومال وسيناء المصريّة وغيرها.
ومن تابع ما جرى في العراق بعد احتلاله في العام 2003 وهدم دولته على سبيل المثال، لا يحتاج إلى كثير من الذّكاء ليعرف أنّ الاحتلال الأمريكيّ سلّم مقاليد الحكم إلى مجموعات من أعوانها ساهموا في احتلال بلدهم وقتل شعبهم، وعادوا إلى العراق على ظهر دبّابات أمريكيّة. وقد شاركوا في وضع الدّستور الطّائفيّ، وتقاسموا نظام الحكم الجديد على اعتبارات وتمثيل طائفيّ، لكنّ القاسم المشترك بينهم هو الولاء المطلق لأمريكا، ونهب ثروات الشّعب العراقيّ وتجييرها لهم شخصيّا، ومنهم من تركوا العراق بعد أن سرقوا مليارات الدّولارات، ومنهم من بقي ولا يزال ينهب ويسرق، حتّى أوصلوا الشّعب العراقي المنكوب إلى العوز والفقر، لكن آخر اهتماماتهم أو لم يرد في حساباتهم هو إعادة تعمير العراق، وهنا يجب التّأكيد أنّهم ليسوا أتباع طائفة بعينها، بل هم خليط من “الشّيعة والسّنّة” وبعض الكرد.
ورغم خسارة أرواح مئات آلاف العراقيّين وتيتيم ملايين الأطفال، ورُملة مئات آلاف الماجدات العراقيّات، وحالة العوز الشّديد التي يعيشها غالبيّة أبناء الشّعب العراقيّ العظيم، إلا أنّ اللصوص لم يتّعظوا ولم يتراجعوا. من هنا جاءت انتفاضة الشّعب العراقيّ التي شارك ويشارك فيها ملايين العراقيّين تهتف ضدّ الطّائفيّة البغيضة، وتطالب بمحاربة الفساد والفاسدين، واسترداد أموال الشّعب المنهوبة، وتطالب ببناء العراق الجديد الحرّ الأبيّ. كما يسعى المنتفضون إلى إنهاء الوجود الأجنبيّ في العراق، سواء كان هذا الوجود أمريكيّا أو إسرائيليّا كما هو الحال في الشمال ذي الأغلبيّة الكرديّة، أو الإيراني كما هو الحال في بقيّة العراق.
ويلاحظ في انتفاضة الشّعب العراقيّ غياب الدّور الفاعل للقوى اليساريّة والقوميّة، وترك قيادة الحراك الشّعبيّ للمرجعيّات الدّينيّة التي تكرّس الطائفيّة بشكل وآخر، مع استثناء للتّيّار الصّدريّ الذي يتزعّمة السّيّد مقتدى الصّدر. فهل ستتمخّض الانتفاضة العراقيّة عن انتصار يعيد للعراق مجده وعزّته، وهذا ما نتمنّاه وننتظره، لكنّه في الأحوال كلّها لن يكون على أيدي الأحزاب الحاليّة الحاكمة.
16-11-2019