القدس هذه الحسناء التي تأسر القلوب، هذه الصامتة على أحزانها، صاحبة القلب الكبير الذي وسع محبّة الناس المؤمنين والسائحين من مشارق الأرض ومغاربها، هذه الرائعة التي تحفظ تاريخاً عريقاً لمن بنوها وزينوها، وتحفظ تاريخ رسالات سماوية يؤمن بها آلاف الملايين، هذه المعجزة التي صمدت أمام غزاتها، فتحطمت سيوفهم على أسوارها، هذه المتربعة على عرشها تأبى أن تكون إلا كما أرادها خالق السماوات والأرض، الذي أورثها اليبوسيين الذين اصطفاهم من بين عباده كي يبنوها لتكون علامة فارقة في تاريخ البشرية، تشهد أن هذه الأرض لن تكون إلا كنعانية عدنانية .
ثم اصطفاها – سبحانه وتعالى – مرة أخرى لتكون معراج المصطفى- صلوات الله وسلامه عليه- الى السماوات العليا، ليقابل هناك الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام-، الذين اختارهم ربّ العزة لانقاذ البشرية من شرور الدنيا، وليأتي بفريضة الصّلاة التي كان الأقصى قبلتها الأولى، ولتتجدد إرادة الله بأن تكون هذه المدينة عربية إسلامية الى أبد الآبدين ، فاتسعت دائرة العروبة من جديد، وازدادت حصانة عروبة المدينة كون العروبة العامود الفقري لآخر الديانات السماوية .
القدس هذه المدينة الصابرة غنـّى لها الغزاة الجدد بأنها من ذهب عندما دخلوها بدباباتهم فهدموا ما هدموا، وقتلوا من قتلوا، وشرّدوا من شرّدوا، فكم ظلموك بهذا يا حبيبتي، وكم حطّوا من قدرك، ولو كانوا يعلمون أن كلّ ذرّة تراب منك تعادل ملايين المرّات من وزنها ذهباً، بل إنّ ذهب العالم كلّه لا يساوي حجراً من حجارتك، أو كنزا من كنوزك، لأنّك مجبولة بدماء الطّاهرين والشرفاء المؤمنين الذين فدوك بالغالي والنفيس، ومجبولة بحضارات وتعدّديات ثقافية زاخرة .
لقد بالغ الغزاة في تمزيق أحشائك أيّتها الصابرة، وقاموا باقتطاع وتقطيع أطرافك، ويزعمون أنّهم يحبّونك، فهل شهد التّاريخ محبّاً ينهش جسد حبيبته ويعذبها بهذا الشكل المفج؟
لقد سبقهم غزاة آخرون، وقاموا بقتل أبنائك وأحبّتك، الذين احتموا بالأقصى الجريح، فوصلت الدّماء الى رُكب خيولهم، وبالغوا في إهانتك، عندما استعملوا المسجد المرواني “خاناً ” لخيولهم، ثم سيّر الله لهم فارساً من فرسانه من دمشق، فاكتسح ممالك ملوك الطوائف، الّذين عزّت عليهم كراسيهم الواهية، فذلّوا وتحالفوا مع الغزاة ضدّ بعضهم البعض، وجاءك فاتحاً ومحرّراً من جديد، فكان أعدل ما يكون، لم يحقد ولم يغلل ولم ينتقم، بل حمّل فقراء الغزاة على دواب وزوّدهم بمؤونة الطريق، وأعادهم من حيث أتوا، فكان ناصرا لله، فنصره .
أعرف يا حبيبتي أنك تعلمين أن ملوك الطوائف لم يبكوك كما بكى ذلك الملك ملكه الضائع في الأندلس، فقالت له أمّه: أتبكي كما النّساء ملكاً أضعته، ولم تحافظ عليه كالرّجال ” لقد أضاعوك ويا حسرة التاريخ لو يعلمون أيّ مدينة أضاعوا، ولو يعلمون أنّهم عندما تركوك سبيّة لم تعد عصمة لأيّ من عواصمهم، لكنّك بالتأكيد تعلمين أن التّاريخ يعيد نفسه مرّتين، مرّة على شكل مأساة ومرّة على شكل ملهاة، وأنّك تكسرين قواعد التاريخ لأنّ تاريخك يعيد نفسه مرّات ومرّات بمأساة وملهاة، ومع ذلك فإنّ الغزاة لا يتعلّمون من التّاريخ، ولعلّ الغزاة الحاليين هم أكثر الغزاة تزييفاً للتاريخ، فخدعوا أنفسهم بطاحونة التزييف الاعلاميّة العالمية التي يمتلكونها، فكذّبوا وصدّقوا أكاذيبهم، وازدادوا ضلالاً وازدادوا جهالة وجهلاً بالتّاريخ، فعملوا بك ما تقشعرّ له الأبدان، وما ترتجف له صحائف التّاريخ، لأنّ التّاريخ لم يشهد تنكيلاً بجسد جميل بريء مثلما يشهد جسدك الطّهور.
لقد عرفتك يا حبيبتي منذ كنت طفلا غرّا عندما كان المرحوم والدي يردفني خلفه على البغلة البيضاء، ليتسوق حاجيات البيت من أسواقك، فتعلقت بك كما يتعلق الطفل الرّضيع بوالدته، ومن يومها فإنّ أجمل لحظات حياتي هي التي أمضيها متجوّلا في زقاقك وحواريك وأسواقك وتكاياك وناسكا في مساجدك وكنائسك، وزاوياك وأديرتك، فسحرك هذا أشتم منه رائحة الآباء والأجداد، وعبق تاريخ وحضارة شعبي وأمّتي الذي لا يكذب، فلكلّ حجر فيك حكاية يشهد بأنّك لنا ولن تكوني لغيرنا. فأشعر بحنانك الزائد، أيّتها الأمّ الرؤوم.
أدخل المسجد الأقصى من باب السلسلة، وأتوقف أمام البناية الأخيرة الواقعة على يميني، أحاول أن أدخلها لأستعيد ذكرياتي الجميلة في هذه البناية التاريخية التي تحدّ حائط البراق من الجهة الشمالية، إنها المدرسة “التنكيزية”التي درست فيها المرحلة الثانوية، حيث كان”المعهد العلميّ الاسلاميّ” الذي تحول في بداية سبعينات القرن العشرين الى “ثانوية الأقصى الشرعية” بعد أن استولى المحتلون على بناية المدرسة، التي كان طابقها العلويّ مقرا للمؤتمر الاسلامي، فيمنعني عسكر المحتلين من تحقيق رغبتي، لكنّ البناية العظيمة مرسومة في ذاكرتي ولا يمكن محوها، ولا أعرف مصير المحراب المزركش بالفسيفساء العجيبة الذي يقابل الباب الرئيس للبناية، حيث كان الطلبة يُصلّون، ومن النوافذ الجنوبية كنّا نشاهد السسيّاح يقفون بين الأبنية التاريخية وحائط البراق يلتفتون يمنة ويسرة ويضعون أوراقا في الحائط، لم نكن وقتها نعلم سبب ذلك، وقبل انتهاء حرب حزيران 1967، تمّ هدم تلك الأبنية وتجريف المكان الى عمق يزيد على عشرة أمتار، وليتخذ اليهود المكان دار عبادة لهم، أسموها”المبكى”…هدموا حارتي الشرف والمغاربة…هدموا 1012 بيتا تاريخيا وبنوا مستوطنة يهودية جديدة، ولاحقا بنوا كنيس”الخراب ليعلو الأقصى من الجهة الغربية، أكظم غيظي وأدخل الأقصى باكيا على أمجاد مدينة يُسرق تاريخها أمام ناظري كما سُرقت جغرافيتها.
واذا كان أحد الأجداد الجاهليين قد قال بالفطرة أن ” للبيت ربّ يحميه” فصدقت فطرته وتحطمت خراطيم فِيَلِهِ – جمع فيل – الغزاة قبل أن تصل البيت، وغار الغزاة في الأرض، وكان العسس الذي قاد جيش الغزاة عبرة لمن لا يعتبر عندما رُجِمَ بالحجارة حتى الموت، ولا يزال يُرجم وسيبقى يُرجم الى ما شاء الله .
حبيبتي أنت التي تحتضنين أولى القبلتين، ومهد المسيح، وتاريخ أمّة كانت “خير أمّة أُخرجت للناس “واثقة من أن لك ربّا وشعبا يحميانك، ولن يتخليا عنكِ، فما الأعوام إلّا ساعات في تاريخ الشعوب و”هي الدّنيا كما شاهدتها دول .. من سرّهُ زَمنٌ ساءته أزمانُ”
وما هي إلّا سحابة صيف ستنجلي، وستعودين عروس المدائن كما أنت دوما.
4 أيلول-سبتمبر- 2013