يحتفل العالم بأعياد الميلاد المجيدة، ذكرى مولد رسول المحبّة والسّلام عيسى بن مريم عليه وعلى أمّه الصّلاة والسّلام، وقد وردت قصّة مولده عليه السّلام في القرآن الكريم،
يقول تعالى: ” وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا، فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا، قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا، قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا، قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا، قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ۖ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا ۚ وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا، فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا، فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا، فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا، وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا.”
وفلسطين مهد الدّيانات السّماويّة، ولد وعاش فيها السّيّد المسيح، وبلّغ رسالته السّماويّة، فمن أولى منّا نحن الفلسطينيين بالاحتفال إحياء لذكرى مولده؟ وما المانع أن نحتفل بالسّنة الميلاديّة الجديدة؟ قد يقول البعض أنّ هكذا أعياد هي أعياد مسيحيّة، وأن لا أعياد في الدّيانة الاسلاميّة سوى عيدي الفطر والأضحى، وهذا كلام صحيح، لكنّنا مع ذلك نحتفل بمناسبات أخرى ونعتبرها أعيادا، مثل المولد النّبويّ، السّنة الهجريّة، ذكرى الإسراء والمعراج، فما المانع أن نضيف إليها ذكرى مولد السّيد المسيح، والسّنة الميلاديّة الجديدة، خصوصا وأنّ الاسلام يعترف بنبوّة عيسى عليه السّلام، بل إنّ منكر ذلك يعتبر كافرا. وما مسيحيّو الشّرق إلا أخوة لنا، وهم مواطنون كاملو الحقوق، وشركاء في هذا الوطن، لهم ما لمواطنيهم المسلمين، وعليهم ما عليهم، فالدّين لله والوطن للجميع. والأخوة مسيحيّو بلادنا سبّاقون في مشاركة إخوتهم المسلمين أعيادهم الدّينيّة، فهم يحترمون حرمة شهر رمضان، وبعضهم يقوم بدور المسحّراتي، ويحترمون الأعياد الاسلاميّة، ويشاركون في تقديم التّهاني لإخوتهم المسلمين، وقد أعلنوها على رؤوس الأشهاد بأنّهم سيرفعون الأذان من على أبراج الكنائس إذا ما أقرّت حكومة اسرائيل منع الأذان بمكبرات الصّوت في القدس والدّاخل الفلسطينيّ، فلماذا لا نبادلهم حبّا بحبّ؟ وما الحرمة في ذلك؟
وإذا كان بعض المتزمّتين المسلمين يحرّمون ذلك، كابن تيمية وابن باز، فرأيهم ليس حجّة على الدّين. حتّى إن القرآن أجاز مؤاكلة أهل الكتاب ومصاهرتهم، بمعنى: أن يأكل من ذبائحهم ويتزوّج من نسائهم، كما قال تعالى في سورة المائدة: ((وطعام الذين أوتوا الكتاب حلّ لكم وطعامكم حلّ لهم، والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم)) المائدة:5.
وقد وضع دستور العلاقة بين المسلمين وغيرهم في آيتين من كتاب الله تعالى في سورة الممتحنة، وقد نزلت في شأن المشركين الوثنيّين، فقال تعالى: ” لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدّين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم إنّ الله يحب المقسطين. إنّما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدّين وأخرجوكم من دياركم، وظاهروا على إخراجكم، أن تولوهم، ومن يتولّهم فأولئك هم الظالمون” “الممتحنة: 8-9.”
ومن المجيزين بتهنئة المسيحيّين في أعيادهم المفكّر الدكتور خضر محجز فقد كتب يوم 19 ديسمبر الحالي على صفحته في “الفيسبوك ردّا على تشنّجات المتزمّتين”:”أنا الشيخ خضر في كل عام أذهب إلى أهلي المسيحيين في الكنيسة لأبارك لنا بعيد ميلاد السيد المسيح”.
وهنا يجدر الإنتباه لكلمة”لنا”، وما تحويه من فكر مستنير، فهو يعتبر عيد الميلاد عيدا للشّعب الفلسطيني بمسلميه ومسيحيّة.
ويرى جمهور من المعاصرين جواز تهنئة المسيحيين بأعيادهم، ومن هؤلاء الدكتور الشيخ يوسف القرضاوي حيث يرى” أن تغيّر الأوضاع العالميّة، هو الذي جعلني أخالف شيخ الإسلام ابن تيمية في تحريمه تهنئة النصارى وغيرهم بأعيادهم، وأجيز ذلك إذا كانوا مسالمين للمسلمين، وخصوصا من كان بينه وبين المسلم صلة خاصة، كالأقارب والجيران في المسكن، والزملاء في الدراسة، والرفقاء في العمل ونحوها، وهو من البر الذي لم ينهنا الله عنه. بل يحبه كما يحب الإقساط إليهم “إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ” الممتحنة. ولا سيّما إذا كانوا هم يهنّئون المسلمين بأعيادهم، والله تعالى يقول: “وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا” النساء86.
و”أجاز التهنئة من باب حق الجوار الأستاذ الدكتور محمد السيد دسوقي -أستاذ الشريعة بجامعة قطر، وأجازها من قبيل المجاملة وحسن العشرة فضيلة الشيخ مصطفى الزّرقا رحمه الله فقال: إنّ تهنئةَ الشّخص المُسلِم لمعارِفه النّصارَى بعيدِ ميلاد المَسيح ـ عليه الصّلاة والسلام ـ هي في نظري من قَبيل المُجاملة لهم والمحاسَنة في معاشرتهم، ويمكن مراجعة ذلك في الفتوى التالية: تهنئة النصارى بعيد الميلاد وطباعة بطاقات التهنئة.
وأجاز الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله زيارة غير المسلم وتهنئته بالعيد، واستشهد بأن النبي –صلى الله عليه وسلم- عاد غلاما يهوديا، ودعاه للإسلام فأسلم، وأجاز الشيخ أحمد الشرباصي رحمه الله مشاركة النصارى في أعياد الميلاد بشرط ألا يكون على حساب دينه، وكذلك فضيلة الشيخ عبد الله بن بية نائب رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين أجاز ذلك، وطالب المسلمين بأن تتسع صدورهم في المسائل الخلافية.” (راجع بهذا الخصوص مقالة الدكتور محمد عبد اللطيف البنّا، على موقع إسلام أون لاين الإكتروني.)
إنّ مشاركة مسيحيّي بلادنا في أعيادهم وتهنئتهم، ومعايدتهم، تحمل في ثناياها دعوة للمحبّة، ورسالة أخوّة بين أبناء الشّعب الواحد.
وإذا كانت بعض الدّول الإمبرياليّة تناصبنا العداء، فإنّهم لا ينطلقون في عدائهم لنا من تعاليم الدّيانة المسيحيّة، وإنّما من مصالحهم الإقتصاديّة، وأطماعهم الإستعمارية. ولنتذكر حروب الفرنجة على المشرق العربيّ في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي، واحتلالهم لمدينة القدس عام 1099م، فإنّ أوّل من تصدّى لهم هم مسيحيّو أنطاكية، وقتل منهم المئات.
لهذا نهنّئ أبناء شعبنا المسيحيّين ومسيحيّي الشّرق بشكل خاصّ ونقول لهم: كل عام وأنتم بخير، فعلى الأرض السّلام وفي النّاس المحبّة.
21-12-2020